ما وصل الينا من علوم المسلمين
الاوائل ، كان في الاصل ميراثا وصلهم من أمم أخرى سبقتهم. ثم تعلم الاوروبيون من
علوم العرب وطوروها. حتى وصل الدور الينا ، فتعلمنا بعض ما انتج الاوروبيون من
معارف.
هذه طبيعة المعرفة. يتفاعل البشر من
خلال الترجمة والسفر والعمل المشترك والنقاش والتعاون في تطوير الافكار والمشروعات
، بل كل عمل ينطوي على تفاعل بين فكرتين ، فينتج فكرة ثالثة جديدة.
البرت اينشتاين الضاحك غالبا (1879-1955) |
سمعت الافكار السابقة في نقاش حول الدور المحتمل للطلبة المبتعثين
، في نقل "روح الحضارة" من المجتمعات التي درسوا فيها ، الى مجتمعنا.
بعض المتحاورين أبدى تفاؤلا ، ومال آخرون الى التشاؤم. لكني وجدت النقاش بذاته
مثيرا للاهتمام ، لأن المشاركين فيه كانوا جميعا من الطلبة المبتعثين ، ويتضح من نقاشهم
ادراك تام للفارق بين دراسة علم ما واكتشاف روح العلم او روح الحضارة.
نعلم ان مئات الالاف من الطلبة العرب
قد درسوا في الجامعات الغربية خلال العقد الحالي ، او شاركوا في برامج علمية او
تدريبية في اطارات مماثلة.
ترى ما هي احتمالات ان يساهم هؤلاء
في اطلاق نهوض حضاري ، او نقل روح الحضارة التي مكنتهم من تعلم شيء كان مفقودا في
بلدانهم؟
لقد وجدت معظم المتحاورين متشككا في
هذا. وهم يقولون ببساطة ان الذين عادوا سينفقون وقتا غير قليل في البحث عن وظائف ،
ثم تستهلكهم دوامة الحياة الجارية ، فينسون ما فكروا فيه في سنوات الدراسة ، ويكتفون
بما يفعلون اليوم.
وشعرت بالأسف وانا اسمع هذا التصوير.
فقد كان مخيبا للأمل بقدر ما كان واقعيا . نعلم انه واقعي لأننا رأيناه عند آلاف
الطلبة ، الذين تخرجوا من الجامعات المحلية والاجنبية في سنوات سابقة. هؤلاء لم يكونوا
اقل طموحا ، ولا أقل رغبة في بناء وطنهم.
ثم ان عددا منهم قد حصل على الفرصة التي يسعى اليها ، فاقترب من مركز القرار او
بات جزء منه. لكن التغيير الذي احدثه كان ضئيلا. فهل كانت العلة فيه ام في المجتمع
، ام في عوامل اخرى غير هذا وذاك؟.
راود ذهني تفسير الاستاذ ابراهيم البليهي ، الذي يدعي اننا عاجزون
عن تقليد الامم المتحضرة ، فضلا عن منافستها ، لسبب واحد هو شعورنا بالاستغناء عن
الآخرين. يتخذ هذا الشعور صورا متعددة ، من بينها المبالغة في تصوير قيمة موروثنا
العلمي او تاريخنا السياسي والديني ، او حتى واقعنا الراهن.
واقع الحال أننا مثل بقية الأمم ،
لدينا نقاط قوة ونقاط ضعف. ونعلم لو صارحنا انفسنا ، بان نقاط ضعفنا أكثر ، لأن
المعيار اليوم ليس عندنا بل في الغرب. معايير القوة والتقدم والعظمة هي المتعارفة
في الغرب وليس غيره.
يقول البليهي ان الواحد منا لو التقى البرت اينشتاين ، ابرز علماء العصر ، لبادر في
التنظير عليه وتعليمه. اني اجد هذا متجسدا في عجزنا عن الاستفادة من بعضنا البعض ،
واصرار كل واحد فينا على ان يكون معلم الآخرين ، من الأهل والاغراب ، بل رأيت من
يعلم الامريكان كيف ينتخبون زعماءهم.
أحاول ان لا اقتنع بهذا الرأي. لكني
اجد كل يوم من يبالغ في تصوير الواقع ، كما يبالغ في انكار نقاط الضعف ، بينما
ينشغل في تفاصيل عيوب الآخرين ونواقصهم. قد لا يكون هذا المثال معبرا عن الواقع
بأكمله. لكن لا شك ان تكراره سوف يؤكد شعور "الاستغناء" ، ولو التقينا
اينشتاين لربما حدثناه عما ابدعه اسلافنا في الفيزياء.
الشرق الاوسط الأربعاء - 24 ذو
القعدة 1441 هـ - 15 يوليو 2020 مـ رقم العدد [15205]