قضايا النشر التي نظرتها المحاكم في
الاسابيع الماضية وما اثارته من جدل حول دخول النزاعات المتعلقة بحرية التعبير ضمن
ولاية المحاكم ، تستدعي اعادة نظر في تعريف الموضوع من أساسه وطبيعة الاجراءات
الادارية والقضائية المناسبة للتعامل مع الخروقات المفترضة للقانون.
لا شك ان ولاية المحكمة هو جوهر الموضوع
، ويبدو لي ان هذا من الامور البديهية . في وقت من الاوقات ، اليوم او غدا ، يجب
ان تستقل السلطات العامة ، التشريعية والتنفيذية والقضائية ، فيمارس كل منها عمله
في معزل عن تاثير الاخرى . ان استقلال السلطات هو الركن الاول من اركان التطور
السياسي ، وهو - بالنسبة للقضاء على وجه الخصوص - الحجر الاساس لضمان العدالة.
مهمة السلطة التنفيذية هي تطبيق القانون في الموارد التي لا تنطوي على نزاع . اما
الفصل في الخصومات والمنازعات ، سواء على الولاية او على تعريف الموضوع ، او نوعية
العقوبة ، فهو بلا شك مهمة القضاء دون غيره .
لكن
من ناحية اخرى ، فان القول بهذه الصلاحيات بشكل مطلق ، ينطوي على مشكلة عويصة ،
سببها هو الخلاف القديم – الجديد على طبيعة عمل القاضي ومصدر ولايته . وهذه - بالمناسبة
- مورد جدل دائم حتى في الاقطار التي تتمتع بنظام قضائي متطور.
يدور هذا الخلاف
بين مفهومين : مفهوم يستند الى التراث الفقهي الاسلامي ، يعتبر القاضي مجتهدا ذا
ولاية مطلقة في كل جزء من اجزاء الدعوى . وهي ولاية لا يحدها اي قانون او سابقة
قضائية . ومفهوم مستحدث يذهب الى ان التغير الهائل في طبيعة الحياة المعاصرة اوجد
مفاهيم جديدة واساليب جديدة للحياة والعمل ، وبالتالي موارد نزاع ، لم تكن منظورة
في الموروث الفقهي . لقد تطور هذا الموروث ضمن اطار حيوي بسيط يسهل الاحاطة
بتفاصيله .
لكن مع التعقيد الهائل للحياة المعاصرة وتشعب الاطراف والعلائق بين كل
مسألة والاخرى ، اضافة الى تنوع الانعكاسات المترتبة على كل عمل ، قد اوجب الاتجاه
الى التخصص على كل صعيد اداري ، او تنظيمي ، او قضائي . ومنذ ستينات القرن الماضي
حاولت الدولة ايجاد منظومات شبه قضائية موازية للمنظومة الاساسية ، تتولى الحكم في
النزاعات التجارية والعمالية والمالية ، وبعضها لا زال فعالا . وكان انشاء هذه
المنظومات محاولة لاستيعاب مشكلة التنوع في الاختصاصات وضرورة التخصص في ممارسة
القضاء .
وفي معظم دول العالم ، تنطوي منظومة
القضاء الاساسية على تفرعات متخصصة ، فثمة محاكم خاصة للامور العائلية ، واخرى
للنزاعات التجارية ، وثالثة لقضايا الامن الوطني وهكذا. ومع الاتجاه الى التخصص ،
ظهر قضاة ومحامون متخصصون في جانب محدد ، فهذا مختص بقضايا الملكيات الثابتة
كالعقار ، وذاك مختص في قضايا الملكية الفكرية والفنية ، وثالث في القضايا المالية
، واخر في العلاقات العائلية ، واخر في الترحيل .. الخ .
وامتد التطور ايضا الى تصنيف القضايا
ذاتها ، فقسمت الى دعاوى جنائية واخرى مدنية . وفي معظم دول العالم تصنف قضايا
الاساءة المعنوية او تشويه السمعة او القذف - ومن ضمنها قضايا النشر - ضمن النوع
الثاني ، ولا تترتب عليها اي عقوبات بدنية او تعطيل الحريات الاساسية ، بل تتعلق
بها غالبا غرامات مالية اضافة الى طلب اعتذار علني . كما يشترط ان تجري المحاكمة بحضور هيئة محلفين
يمثلون – معنويا على الاقل – الراي العام .
خلاصة الكلام ، ان تلك القضايا التي اغلق
بابها عمليا بقرار من السلطة التنفيذية ، قد فتحت الباب على موضوع اوسع ، هو
الحاجة الى تطوير اجراءات التقاضي بما يتناسب وتغير انماط ومجريات الحياة . وفي
ظني ان ابرز ما ينبغي السعي فيه هو المزيد من التخصص واعادة تعريف موارد النزاع
بالرجوع الى المفاهيم الجديدة والعلائق المختلفة التي اصبحت واقعا في حياتنا ،
بقدر ما ازاحت وبشكل نهائي المفاهيم والعلائق التي ورثناها من اسلافنا الذين
يسكنون القبور.