؛؛ روح الرجعي متعلقة بالاموات، قبورهم وكتبهم ومقولاتهم وميولاتهم واحلامهم. فالعقل والجمال - عنده – كائنات عاشت في الماضي ثم ماتت فلم تعبر بوابة الزمن؛؛
يمكن لأي انسان ان يكون تقدميا دون عناء، اذا تبنى منهج التغيير
كقاعدة في التفكير وادارة الحياة والتعامل مع الاشخاص والاشياء. من السهل عليه
ايضا ان يكون رجعيا اذا تبنى منهج تثبيت الزمن ضمن معادلة تبدأ وتنتهي في الماضي.
لتبسيط الفكرة يمكن المقارنة بين شخصين احدهما يتحرك الى الوراء والاخر يتحرك الى
الامام. لو نظرنا الى العملية من زاوية الزمن ، فان الرجعي هو الذي يتراجع عن
موقعه المعاصر متوغلا في التاريخ بروحه أو ثقافته، بينما التقدمي هو الذي يعيش في
المستقبل روحيا أو ثقافيا.
من الناحية الواقعية، لا يتحرك الناس الى الماضي أو المستقبل، لذلك
فان الحديث عن حركة لا يتناول شكلها المادي. كما ان المتراجع الى الماضي لا ينفك،
بل ربما من المستحيل عليه ان ينفك - حتى لو اراد - من قيود الحاضر. لهذا فمن
الافضل التركيز على مفهوم التغيير باعتباره المعيار الرئيس للتمييز بين الرجعي
والتقدمي. لنقل اذن ان الرجعي هو الشخص الشديد الرغبة في المحافظة على ما هو
موجود، ما ورثه من التاريخ أو ما حصل عليه في الحاضر. الحاضر يصبح باستمرار تاريخا
ماضيا فور ان تتحرك عقارب الساعة .
في المقابل فان التقدمي هو ذلك الذي ينظر الى التاريخ والحاضر معا
باعتبارهما حالة مؤقتة، اي مرحلة نحو الاتي، وبالتالي فان ما ورثه من التاريخ وما
يحصل عليه اليوم، كلاهما مجرد تمهيد لما سيأتي في المستقبل. الرجعي اذن يمثل عامل
استمرار وتواصل بين الماضي والحاضر. معادلة العلاقة بين الازمنة عند الرجعي محكومة
بالماضي : ما حدث في الماضي هو دائما معيار لتقييم الحاضر والمستقبل، ويترتب عليه
بالضرورة ان الحاضر والاتي كلاهما موضع ارتياب لايحصل على صك البراءة الا اذا ثبت
اتصاله بالماضي أو انبثاقه منه. بكلمة اخرى فان الرجعي ينظر الى الماضي كمصدر
للقيمة، الاشخاص والحوادث والاعتبارات التي شكلت حياة الناس في الازمان الماضية،
تتحول كلها الى مصادر للقيمة. الحاضر والمستقبل، اهله وحوادثه وما يدور فيه من
افكار، مطالبون جميعا بان يثبتوا انسجامهم مع الماضي كي يحصلوا على قيمة واعتبار.
خلافا لهذا فان التقدمي ينظر للماضي والحاضر والمستقبل باعتبارها
جميعا اطارات - مادية أو ثقافية - لحركة الانسان. هذه الاطارات وما فيها من
مضامين، اضافة الى الانسان الذي ينتجها أو يستعملها أو يعيش ضمنها، كلها كائنات
سائلة تتفاعل مع بعضها فتتغير بين يوم وآخر . ثقافة الامس تختلف عن ثقافة اليوم،
انسان الامس يختلف عن انسان اليوم، قيم الامس تختلف عن قيم اليوم. ليست هذه افضل
من تلك ، ولا تلك خير من هذه. المقارنة بين هذه وتلك مستحيلة تقريبا، لانه لا يمكن
العثور على معيار موضوعي - اي متحرر من تاثير كليهما - للحكم على هذه أو تلك. لا
يمكن ايضا الرجوع الى قيمة مطلقة واحدة للحكم على كلا الطرفين، لان القيم المطلقة
غير قابلة للاشتغال الا اذا حددت وقيدت، فاذا حددت أو قيدت، اصبحت شخصية أو نسبية
لا تفيد كثيرا في معايرة موضوعية صارمة. ما اردت قوله، ان الكلام عن تفاضل بين
الرجعي والتقدمي، كلام لا قيمة له ولا فائدة فيه، ومن الافضل اذن ان ننظر الى
المسارين كلا ضمن معاييره الخاصة، وفي كل الاحوال فإن حكمنا عليهما سيكون منحازاً.
عالم الرجعي عالم باد بعدما ساد، عالم زال وانتهى، اصبح خبرا بعدما
كان فعلا، عالم مجازي، عاد الى الحياة لان صاحبه ألبسه عباءة الاحياء لا لانه حي
بالفعل. روح الرجعي متعلقة بالاموات، قبورهم وكتبهم ومقولاتهم وميولاتهم واحلامهم
و ما كانوا يحبون أو يكرهون. يرقص الرجعي طربا اذا عثر على فكرة قالها احد في
الماضي، ويغرق في الفخر اذا وجد احدا من الاحياء يكرر ما قاله الميتون أو يثني
عليهم أو يشير اليهم أو ينقل عنهم. الناس والاشياء التي تستمتع بحياتها امام عينيه
هي مجرد كائنات سائبة تعيش في عالم مجهول أو مجنون. فالعقل والجمال - في نظر
الرجعي - عاش في الماضي ثم مات فلم يعبر بوابة الزمن.
يحن الرجعي الى الماضي ويتمنى لو عاش فيه. لكن هذا الحنين هو مجرد
تامل مثالي، ربما هو احتجاج على حاضر لا يمكن القبض عليه أو التحكم في تحولاته.
الرجعي - مثل كل انسان اخر - يشعر باستحالة الانفلات من قيود الزمن والرجوع المادي
الى الخلف، لهذا فان حنينه الى الماضي قد يكون محاولة لتغيير قوانين اللعبة، اي
استثمار السلطة المعنوية التي تولدت عن نجاح الماضين في تبرير سلطة على الاحياء.
الطريق الى الرجعية بسيط جدا : ثقافة الاموات متوفرة في المكتبات، مجتمع
الاموات موجود على شكل احياء-اموات أو على شكل قبور لها شواهد، ثقافة الموت هي
الاخرى متوفرة في الصحف وشبكات التلفزيون وفي كل مكان. تحتاج فقط ان تدير ظهرك
للحياة والاحياء، ان تنتمي - ثقافيا وروحيا - للاموات وزمن الاموات، وقد وصلت فعلا.
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/10/9/Art_152790.XML
( السبت - 25/8/1425هـ ) الموافق 9 / اكتوبر/ 2004 - العدد
1210