ادهشني ان بعض الناشطين في
التيار الديني ، لم يرض بالاطراء الذي نالته جاسيندرا ارديرن رئيسة الحكومة النيوزيلندية ، نظير موقفها
التضامني مع مواطنيها المسلمين ، اثر فاجعة مسجد النور منتصف مارس الماضي. وقال
بعض الناقدين ان موقف رئيسة الحكومة سياسي في المقام الاول. وقال آخرون ان عينها
على الانتخابات ، او انه تعبير عن موقف ايديولوجي للتيار اليساري الذي تنتمي اليه
، في مقابل اليمين المتطرف الذي ينتمي اليه القاتل. وسمعت قولا طريفا لأحدهم فحواه
انه كان الأولى دعوتها الى الدين الحنيف بدل امتداحها ، فلعل الله يشرح صدرها
للاسلام. وأطرف منه من كتب ان السيدة الجليلة لاتستحق المدح ، لأنها "كافرة
سافرة ، قبلت ولاية لاتسوغ لجنسها".
ورايي ان تلك الاقوال باطلة
جملة وتفصيلا. في ذاتها وفي ارضيتها الفلسفية. لكن موضع اهتماهي ليس هنا. بل لأنها
ذكرتني بجدل قديم اشتهر باسم "مسألة الحسن والقبح العقليين". وقد اثيرت
في الاطار الاسلامي خلال القرن الثامن الميلادي ، مع انها ترجع الى ازمان ابعد
بكثير. وكانت تدور حول قابلية العقل لادراك الحقيقة وتمييزها عن الوهم.
ركز الجدل الاسلامي على سؤال:
هل في الافعال معنى وقيمة ذاتية ، يمكن للعقل اكتشافها وتحديدها ، ام ان تحديد معنى
الفعل وقيمته ، متروك للشارع ، ان شاء اعتبره حسنا وان شاء اعتبره قبيحا. كانت الغلبة
يومذاك للراي القائل بعجز العقل عن تحديد
الوجه الشرعي للحسن والقبح. ومعنى هذا انه يمكن لعقلك اكتشاف ان العدل حسن وان
الظلم قبيح ، لكنه لايستطيع القول بان هذا القبح او ذلك الحسن له قيمة ، او يمكن
ان يكون اساسا لامر شرعي. هذه الفكرة هي اساس نفي العقل واستبعاده ، ليس عن دائرة
التشريع فحسب ، بل عن حياة المسلمين ككل.
ان السبب الذي يدعوني للتذكير
بهذا الجدل اليوم ، هو اعتقادي بأن عدم ثقة المسلمين بالعقل وقدرته ودوره ، هو
الذي قاد الى الانفصال المشهود بين الدين والحياة ، بين الدين والاخلاق ، بين
الدين والقانون ، وهو الذي جعل المسلمين مضطرين للعيش حياة مزدوجة: عقلانية تماما
في محيط العمل ، حيث يستعملون منتجات العقلاء واجهزتهم وانظمتهم ، وخرافية كليا او
جزئيا حين يعودون الى حياتهم العادية ، او يعملون في اطار تقاليدهم الثقافية
وارثهم القيمي.
منذ ان اصبح العقل هامشيا في
حياتنا ، فقد بات ممكنا ان يأتينا شخص ليقول: أن عقولكم لاتستطيع اكتشاف الحقائق ،
أو لاتستطيع تحديد معناها وقيمتها. وحتى لو كنتم اذكياء بما يكفي لفهم حقيقة الاشياء ، فان
ذكاءكم واجتهادكم لاقيمة له عند الشارع. الشارع هو الذي يحدد قيمة الافعال ، اما
انتم فدوركم مقصور على السمع والطاعة دون تفكير او مناقشة.
اني اعجب ، لان فينا من لازال
يقول بان دين الله لايدرك بالعقول ، فاذا جادلته ، اعاد عليك الحجة التي عمرها
مئات السنين ، والقائلة بانه لو كان الدين بالعقل فما الاساس العقلي للمسح على
ظاهر القدم دون باطنه ، وما الاساس العقلي لجعل هذه الصلاة ركعتين وتلك ثلاث ركعات
، وامثال ذلك من الحجج الباردة.
إني
آمل ان يشاركني القراء الاعزاء في اظهار الاسف لتعطيل العقل باسم الدين. مع علمنا
جميعا بانه لولا العقل لما كان ثمة حياة ولا دين ولاتكليف ولا ثواب ولاعقاب ولا
جنة ولا نار. ولعلنا نعود الى الموضوع في قادم الايام.
الأربعاء -
27 رجب 1440 هـ - 03 أبريل 2019 مـ رقم العدد [14736]
https://aawsat.com/node/1662191
مقالات ذات صلة
دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين