02/12/2020

الفلسفة في المدرسة


لفت نظري في الأسبوع المنصرم تصريحات وزير التعليم ، حول اعتزام الوزارة ادراج الفلسفة والتفكير النقدي في التعليم العام.

وكان الدكتور حمد آل الشيخ يتحدث لمركز الحوار الوطني في "اليوم العالمي للتسامح". وقال الوزير ان الخطة تستهدف تعزيز الايمان بحرية التفكير والتسامح ونبذ التعصب ، وتمكين الطلاب من ممارسة التفكير النقدي والفلسفي في حياتهم.

د. حمد ال الشيخ وزير التعليم

بالنظر للظرف الثقافي في المملكة ، فان هذه خطوة واسعة جدا في اتجاه الحداثة ، وهي تتلاءم تماما مع تطلعات المجتمع السعودي ، المعبر عنها في الجزء الخاص بالتعليم والثقافة من برنامج التحول الوطني.

لكن – للحق – فانها دعوة لكافة المجتمعات العربية ومن حولها من المسلمين. لقد كشفت تجربة العقدين الماضيين ، ان معدلات التعصب والتشدد كانت عالية ، وقد تراجعت ثقافة التسالم ، وهيمنت على نواحي الحياة قيم المفاصلة والمنابذة ، فتحولت مجتمعاتنا الى بيئة خصبة للتطرف السياسي والديني ، وبات العنف المنسوب الى العرب والمسلمين ، فقرة ثابتة في يوميات العالم.

لقد اجاد معالي الوزير ، حين ربط بين حرية التعبير والتفكير النقدي من جهة ، وبين التسامح ونبذ التعصب من جهة أخرى. دراسة الفلسفة والتدريب على التفكير النقدي ، تعني – بالضرورة – التعامل مع خيارات ذهنية متعددة ، أي تقبل التنوع والتعدد الثقافي. وهو في اعتقادي ، السلاح الأقوى ضد التشدد والعنف ، بل ضد كل نوع من أنواع الانغلاق والكراهية. كما انها الباب الاوسع للتدريب على التواضع ونبذ الكبرياء الفارغة.

واذا كان العلاج مشروطا بوضع الأصبع على الجرح كما يقال ، فلابد من القول ان ثقافة العرب والمسلمين (بشكل عام ولا اعني التفاصيل الجانبية) لا تحفل بمبدأ التعدد الثقافي ، ولا تقيم اعتبارا لتخالف الافكار ، بل تصنفه مثالا على الجهل او الافتتان. ينبغي القول أيضا ان هذا ليس امتيازا عربيا او اسلاميا ، فقد وسم تاريخ العالم كله ، من اقصاه الى أدناه ، بلا فرق بين أمة واخرى. لكن الله انعم على اوربا في القرون الثلاثة الأخيرة بانحسار الوهم القائل باحادية الحق ، وانتشار مبدأ التنوع واحترام حرية الاعتقاد وحرية التعبير ، وهو تطور قادهم الى نهضة عظيمة ، في العلوم والفنون والآداب ، وفي كل جانب من جوانب الحياة.

أما عندنا فقد سارت الأمور في الاتجاه المعاكس. فقد واجهنا انفتاح الغرب بالانغلاق ، وقابلنا نهضته بالهروب الى التاريخ.

اني عالم بما يحويه النص الديني الاسلامي ، من احترام للراي وحث على التفكر ، وربط للتكليف الديني بالحرية والاختيار. كما اني عالم ايضا بجناية من حبس الدين والنص في قفص الفقه ، وتركه ضيقا حرجا ، مليئا بالمحرمات والمحذورات.

ومن هنا فاني آمل ان تكون اضافة الفلسفة والتفكير النقدي الى التعليم العام ، إشارة تحذير الى دارسي العلوم الشرعية ، بل وعامة الناشطين في المجال الثقافي والتبليغ ، تحذير من غروب الزمن الذي كان الناس يقبلون منهم كل قول يتضمن آية او حديثا نبويا ، او قصة تنسب الى أحد رجال السلف ، او حكاية تحكى بلغة دينية او قريبا منها.

سيكون الجيل القادم اكثر الحاحا على الاساس العقلي للاحكام الشرعية ، واقل اكتراثا بما جرى في الماضي. اختلاف الجيل الجديد هو الامر الطبيعي ، ولا يمكن للتاريخ ان يكون على نحو آخر ، حتى لو تأخر  حدوثه سنة او بضع سنين ، فاعتبروا يا أولى الابصار.

الشرق الأوسط. الأربعاء - 17 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 02 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15345]

https://aawsat.com/home/article/2659141

مقالات ذات علاقة

ان تكون مساويا لغيرك: معنى التسامح

اول العلم قصة خرافية
تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم
حول البيئة المحفزة للابتكار

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

حديث الى اصدقائي المعلمين

الحق الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولا؟

حقوق الانسان في المدرسة

سؤال التسامح الساذ: معنى التسامح

فتاة فضولية
المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

25/11/2020

حول أزمة الهوية


هذه تكملة لمقال الاسبوع الماضي ،  الذي تعرضت فيه لما ظننته هوية متأزمة ، يعانيها كثير من المسلمين المعاصرين ، لاسيما هؤلاء الذين استوطنوا في اوربا ، حيث الثقافة والأعراف غير ما عرفوه في بلدانهم ، او ما ظنوه أصدق تمثيلا لمرادات الدين الحنيف.

كتبت تكرارا عن مشكلة الهوية في السنوات الماضية. وظننت انها باتت مفهوما واضحا لغالبية الناس. لكن النقاشات التي أطلعت عليها هذه الأيام ، أوضحت لي ان الغموض المحيط بالفكرة لازال كما  تركته قبل بضع سنين. ليس هذا بالأمر الغريب ، فمفهوم "الهوية" جديد على الثقافة العربية ، ولو راجعت المعاجم القديمة  لما وجدت له عينا ولا أثرا.

انه مثال عن مئات التعابير التي نتداولها ونظنها عربية صميمة. لكنها ليست كذلك ، فهي مستوردة من إطار معرفي مختلف. ولهذا فان حمولتها المفهومية والقيمية متباينة بين شخص وآخر ، تبعا لقبوله بمغازيها.  وكنت قد التفت لهذه المشكلة ، حين وجدت من يدعو الناس لاختيار حرج بين الدين والوطنية والقومية ، ووجدت الناس مضطرين للقول بانهم مسلمون فقط او مسلمون أولا ، خشية ان يكون القول بالهويات الثلاث معا ، خادشا لصفاء الاعتقاد.

هذا الشعور المرتبك يكشف جانبا من مشكلة الهوية التي يعانيها المسلم اليوم. وهي قليلة الخطورة في ظني ، مع انها تثير التباسا غير محمود. انها مشكلة نظرية ،  فردية غالبا. اما الجانب الأصعب من المشكل ، فيتجسد في حالة المسلمين الذين استقروا في البلدان الصناعية. هؤلاء يعيشون أزمة مضاعفة ، دينية وثقافية. 

فالمجتمعات التي استوطنوها لا تقيم للدين اعتبارا خاصا ، كحال مجتمعاتهم الاصلية ، وبالتالي فان العرف والقانون لا يقف في صفهم. وهم يواجهون كل يوم تقريبا سلوكيات مزعجة ، وقد تنطوي على مضمون عدواني (هذا يظهر خصوصا في المظهر الشخصي والعلاقات بين الجنسين). 

ولعل بعض القراء قد تابع الجدالات الواسعة ، التي أعقبت منع النقاب في دول اوربية ، مثل الدانمارك وبلجيكا هولندا. ان عدد الذين يستعملون النقاب قليل جدا ، لكن منعه كان إشارة الى تغيير (قانوني) لعلاقة الآباء المسلمين مع نسائهم. وهو يولد ضغطا شديدا على نفوسهم ، وربما يودي بهم الى مزيد من الانكماش على الذات.

حسنا.. لماذا نذكر هذه الامثلة في سياق الحديث عن "أزمة هوية"؟.

يقودنا هذا السؤال الى جوهر المشكلة. لقد افترض بعض الناس ان الهوية الدينية متمثلة في النموذج الاجتماعي الذي يشمل خصوصا موقع الفرد في نظام العلاقات الاجتماعية ، مظهره الشخصي ، والتزامه بالاعراف السائدة. ويعج التراث العربي بنصوص وشروح حول كل من هذه العناصر ، وثمة تأكيد على علاقتها بالدين او حتى كونها جزء منه ، كحال النقاب الذي ذكرته آنفا.  

حين تكون في مجتمع يطلب هذه المظاهر او يتقبلها ، فلن يكون ثمة مشكلة. لكنها ستبرز حتما حينما تعيش في مجتمع يعارضها او يفضل غيرها ، كحال المجتمعات الاوروبية اليوم. اقول ان هذا يعيد طرح السؤال من جديد: هل الزي (بما فيه الشكل المسمى حجابا شرعيا) وبقية المظاهر ، وكذلك الاعراف الحياتية ، هل هذه جميعا من جوهر الدين ، وان الدين لا يقوم الا به ، ام انها من اعراض الحياة التي اكتسبت لونا  دينيا ، او احتملت لونا دينيا ، مع انها ليست من جوهر الدين؟.

اني اعلم بنوعية الاجوبة التي تقابل سؤالا كهذا. لكن الجواب الانطباعي او العاطفي المألوف ، لا يفيدنا كثيرا. مانحتاجه هو التأمل العميق في الاشكال الحقيقي ، اعني جدل العلاقة بين الاسلام والعصر ، وان تمظهر اليوم في اطار ما نسميه "ازمة الهوية".

الشرق الأوسط الأربعاء - 10 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 25 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15338]

https://aawsat.com/node/2645236/

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...