معظم نقاشات الاصلاح الديني تنصرف
الى جانبين: تطوير الاجتهاد والاعتدال في الأحكام. ثمة بعد مهمل ، لكني أراه أكثر
أهمية وضرورة ، يتمثل في الفرز بين ما هو موضوع ديني ، وما يمكن ان نسميه خارج الدين
، اي القضايا التي تركها الشارع للعرف وعقول الناس.
جادلت في مقال الاسبوع الماضي بان
التشدد في الاحكام قد يكون عرضا لعلة أخرى ، هي الجمود الايديولوجي. وأظن ان هذا
بدوره ناتج عن تحول الخطاب الديني من وعاء للفكرة الدينية الى هدف بحد ذاته. ونقصد
بالخطاب مجموع أدوات العلاقة بين الدعاة الى الدين وبين الجمهور ، سواء كانت معارف
مكتوبة أو مؤسسات أو أنماط علاقة أو نظم عمل او تقاليد أو فولكلور.
أقول ان البعد الثالث مقدم على
تطوير الاجتهاد والاعتدال في الأحكام. لأن وظيفة هذين هي خدمة الغرض النهائي
للخطاب ، أي المحافظة على مكانة الدين في الحياة الفردية والعامة. فالواضح اليوم
ان شريحة معتبرة من العاملين في المجال الديني ، تركز على تأكيد مكانة الخطاب نفسه
، اي تأكيد مكانة المعارف المرتبطة به والاشخاص الذين يمثلونه والمؤسسات التي قامت
في إطاره وحتى الأعراف والتقاليد والعلاقات التي نشأت كناتج جانبي في ظله.
لتوضيح الفكرة سوف اقارنها بالفرق
بين الاغراض والوسائل مثل ان يهتم الناس بالمسجد اكثر من اهتمامهم بالصلاة. ومثل
اهتمامهم بتلاوة القرآن وحفظه أكثر من معانيه وتعاليمه. ومنه ايضا اهتماهم بتفادي
الارباح الربوية في البنوك ، دون اهتمام مواز بالغرض الذي حرم الربا من أجله.
حين أقرأ الآراء التي ينشرها بعض
الدعاة المعاصرين ، كتبرير لمواقفهم من قضايا سياسية او جدالات اجتماعية ، أرى
فيها اهتماما بمكانة "الجماعة" او التيار ، يفوق اهتمامهم بالأغراض الكبرى
للدين وقيمه العليا.
ناقشت في وقت سابق صديقا من الدعاة
المعروفين حول ما يكتبه عن الصراع بين الاخوان المسلمين والحكومة المصرية ، ولا
سيما استهانته بوحدة المجتمع المصري والسلم الاهلي فيه ، واعتباره كل مخالف
للاخوان منافقا او مغفلا ومطية للأجانب. فأجابني ببساطة ان "صراع الحق
والباطل لا يحتمل المواقف الرمادية: اما ان تكون مع الحق او مع الباطل ، مع
الاخوان او الحكومة".
سواء كنا مع احد الطرفين او ضدهما ،
فان اعتبار احدهما معيارا للحق والباطل ، يعني بالضبط نقل صراع سياسي من مستواه
العرفي الى مستوى المقدس الديني. تدار الصراعات السياسية بناء على تقديرات عقلية ،
تتغير تبعا لمصالح أطراف الصراع. وقد يلتزم هؤلاء بالمعايير الاخلاقية أو
يغفلونها. لكن اعتبارها موضوعا دينيا ، يترتب عليه عقاب وثواب أخروي ، ينطوي على
مخاطرة الابتداع في الدين. والابتداع كما نعلم هو ان تدخل في الدين ما ليس منه.
لا شك ان اقحام هذا النوع من صراعات
المصالح في المجال الديني ، ينطوي على تكلف كبير. سواء عبرنا عنه باعتدال او
بخشونة ، وسواء اتبعنا في التوصل اليه منهج اجتهاد تقليدي أو حديث. جوهر المشكلة
هو إلباس العرفي ثوب المقدس ، وليس طريقة التعبير عنه.
اقوى المبررات التي تطرح في مقابل
هذه الرؤية ، هو قولهم ان الدين منهج يتسع لقضايا الحياة كلها دون استثناء. وهو قول
مرسل لا يستند الى دليل ديني يتحمل ثقله. لكنه شائع جدا بين المسلمين الى حد
اعتباره من المسلمات.
ومن هنا فان المهمة الاكثر إلحاحا في
مسار الاصلاح الديني ، هي مراجعة العلاقة بين الدين وقضايا الحياة ، لرسم الخط
الفاصل بين موضوعات الدين وما هو خارج الدين.
الشرق الاوسط 8 مارس 2017
http://aawsat.com/node/872016
مقالات ذات علاقة