04/09/2025

هل جربت صنم الكهف؟

اتخيل ان نظرية "الاصنام الأربعة" التي اقترحها فرانسيس بيكون ، أثارت جدلا واسعا يوم نشرت اول مرة. لم اكن حاضرا يومئذ كي أرى بعيني (القراء الأعزاء يعرفون هذا بالتأكيد) كما لم اقرأ شيئا يؤكد واقعة كهذه. لكني اعلم أن الأمس مثل اليوم: كل رأي يعارض الأفهام السائدة ، سيثير شيئا من الجدل ، كثيرا أو قليلا.

لعل القراء الأعزاء يذكرون قول بيكون بأن عقل الانسان يتأثر دائما بعوامل من داخل النفس ومحيطها ، أبرزها ميل البشر لتعميم الأحكام التي يتوصلون اليها دون تمحيص. وهو ما اطلق عليه اسم صنم القبيلة ، ثم صنم الكهف ، وهو الميول الشخصية الناتجة عن انتماء الفرد الاجتماعي او مصادر ثقافته او مصالحه وبقية المؤثرات التي تسهم في تشكيل شخصيته. الثالث والرابع هما صنم السوق وصنم المسرح ، وسنعرض لهما في قادم الأيام.

افترض ان المجادلة الرئيسية التي واجهت نظرية بيكون هي: اذا كانت الاصنام الأربعة تؤثر على العقل بقدر يؤدي لتغييبه وتعطيل فاعليته ، حتى يعجز عن تمييز الحقائق ، فكيف نستعين به لاحقا ، في تفكيك الأفكار والتصورات وإعادة تركيبها ، وكيف يستطيع فرز المعلومات الصافية من تلك المشوبة بالمؤثرات السلبية؟.

يزعم معارضو رؤية بيكون بأنها تنطوي على تعارض داخلي ، كأنها تقول للمريض الذي تسمم بسبب الاناء الملوث: ضع مزيدا من الدواء في هذا الاناء نفسه وستشفى. فهل يمكن للوعاء الذي تسبب في مرضي أولا ، ان يكون أداة شفائي تاليا؟. فكذلك حال العقل المتأثر بالأوهام والأصنام: كيف له ، بعدما تأثر وانحرف بتفكيره عن الجادة ، ان يعود للصواب فيصلح عالمه؟.

لدى فرانسيس بيكون جواب على هذا. فقد استعار – كما أظن - اسطورة الكهف التي اقترحها افلاطون ، لتصوير المشكلة والحل.  خلاصة الأسطورة ان أشخاصا سجنوا مقيدين في كهف بابه وراء ظهورهم. يدخل الضوء من الباب ، فاذا تحرك الناس خارج الكهف انعكست ظلالهم على الجدار المقابل للباب ، ومر الزمان وسجناء الكهف لا يرون غير حركة الظلال على الجدار ، فاستقر في انفسهم ان هذه الظلال هي  التصوير الكامل للحركة الجارية في العالم. في يوم من الأيام ، أفرج عن أحدهم ، فلما خرج رأى حركة الناس مختلفة تماما ، في حجمها واتجاهاتها وتأثيرها ، وان الظلال التي كانوا يرونها في الكهف لم تكن سوى طرف ضئيل جدا من انعكاس تلك الحركة ، ولا تكشف حقيقتها. فعاد واخبر زملاءه في الكهف ، فلم يصدقوه ، وافترضوا ان زميلهم أصيب بلوثة بعدما خرج من "عالم الكهف". فكيف يصدقون ناقلا ويكذبون اعينهم؟. ولعلهم تمثلوا بقول العربي القديم: 

"يابن الكرام الا تدنو فتنظر ما 

قد حدثوك فما راء كمن سمعا".

تشير اسطورة الكهف الى امتلاء ذاكرة الانسان وعقله بالمعلومات المتحيزة التي تبني له عالما متوهما ، لكنه لا يشك أبدا في انه عالم حقيقي ، لأنه يراه بعينه (الصحيح انه يرى ما يصوره عقله ، لكنه عاجز عن التمييز بين الوهم والواقع).

ما يتسلل الى ذهنك من تفاعلات المحيط واللغة والثقافة السائدة والأعراف ، وما تصنعه من أفكار من خلال الدراسة والقراءة والتجارب الشخصية ، كلها تتعاضد في تكوين ذاكرتك وعقلك. هذا ما يسميه بيكون "صنم الكهف". أي المنظومة أو الكهف الذي يحبس عقلك.

-         كيف ينفتح العقل إذن ، كيف يكتشف انه يسير بالاتجاه الخطأ ، كيف يميز بين الوهم والواقع؟.

جواب افلاطون: اذا خرج من الكهف ، سيرى عوالم مختلفة ، سيضطر للمقارنة بين ما عرفه سابقا وما يراه الآن. سوف يثور الشك في ذهنه ، وسيبدأ العقل في إعادة ترتيب البيانات ومقارنتها.

الخلاصة ان العقل يبدأ في استعادة دوره ، حين يتحرر من الاتجاه الواحد والمحيط الواحد والخطاب الواحد ، حين يرى البدائل ويحصل على إمكانية المقارنة والاختيار. لعل كلا منا يسائل نفسه الآن: هل انكشف له كهفه ، وهل يحاول الانعتاق منه؟.

الشرق الأوسط الخميس - 12 ربيع الأول 1447 هـ - 4 سبتمبر 2025 م  https://aawsat.com/node/5182511

 

مقالات ذات صلة

 

هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟

  النقاش الدائر حول "اصنام العقل" الأربعة ، الذي عرضنا طرفا منه في الأسبوعين الماضيين ، محركه سؤال محوري ، شغل بال المفكرين قرونا ...