24/02/2016

رأي الجمهور



الشورى العامة ليست عملا ترفيهيا او تجميليا ، وليست اجراء اضافيا. بل هي جوهر مفهوم "القيام بالعدل" في الحياة السياسية.

عام 1995 طرح وزير الداخلية البريطاني اقتراحا بالزام المواطنين بحمل بطاقة هوية. لكنه سرعان ما تخلى عنه بعدما اثار اعتراضات واسعة. وليس في بريطانيا حتى الآن قانون يلزم المواطن بحمل هوية شخصية. وعند الضرورة فان اي وثيقة رسمية مع صورة تكفي لاثبات الشخصية.
تكررت المحاولة بعد الهجوم الشهير على نيويورك في سبتمبر 2001. وطرح الوزير يومها مشروعا متكاملا يحوي تفصيلا للاجراءات التي ستتخذ لتنفيذ القانون ، والنفقات المتوقعة ونوعية المعلومات الشخصية التي سيسمح للحكومة بتخزينها ، والجهات التي سيمكنها الاطلاع على تلك المعلومات ، وحقوق الافراد الذين تخزن معلوماتهم الشخصية ، والاجراءات الادارية والقضائية التي يمكنهم اتباعها في حال تضرروا من تطبيق القانون عليهم.
طرح مشروع القانون للنقاش العام نحو ثلاث سنين. وخلال هذه المدة خضع للكثير من التعديلات حتى وافق عليه البرلمان في 2006. لكن كثيرا من القانونيين ومنظمات المجتمع المدني واصلوا اعتراضهم على القانون ، وجادلوا بان كمية المعلومات الشخصية التي تحتفظ بها الحكومة ، تمكن اجهزتها من مراقبة الافراد وربما التدخل في حياتهم ، على نحو يخرق استقلالهم وخصوصيتهم. وفي 2011 عاد البرلمان فاستبدل ذلك القانون بآخر مخففا ، يخلو من معظم البنود المثيرة للجدل.
قد يندهش القراء من سياسة كهذه. لانهم يفترضون ان حمل بطاقة شخصية واحتفاظ الحكومة بمعلومات كثيرة عن مواطنيها ، هي أمور طبيعية. أنا ايضا افترض انه طبيعي. لكن هذا ليس موضوعنا اليوم. موضع اهتمامنا هو "حق" المواطنين في مناقشة القوانين العامة والقرارات الحكومية قبل اعتمادها ، سيما تلك التي تؤثر على حياتهم او حقوقهم ، حتى لو كان القانون بديهيا مثل حمل بطاقة شخصية.
ثمة فرضية بسيطة وراء هذا المبدأ ، خلاصتها ان الحكومة ليست كونا مستقلا عن المجتمع ، بل هي جهاز خدمة عامة ، يعيش على رضا الناس وأموالهم ، وأن مهمتها الوحيدة هي احسان خدمة المجتمع ، وليس التسلط عليه. ومن هذا المنطلق فمن واجبها مشاورة المجتمع ، قبل تبني سياسات يراها كل الناس او بعضهم ، مضرة بأشخاصهم او مصالحهم او معاكسة لمراداتهم. الشورى العامة ليست عملا ترفيهيا او تجميليا ، وهي ليست اجراء اضافيا ، بل هي جزء جوهري من مفهوم "القيام بالعدل" في الحياة السياسية.
عرف تاريخ العالم حكاما متسلطين ، يقررون ما يشاؤون ويفعلون ما يريدون ، دون نقاش او مساءلة. اما في عالم اليوم ، فان معيار عدالة الدولة هو الانصاف ، اي الاقرار بحقوق جميع افراد المجتمع وضمانها بالقانون. نعلم طبعا انه يستحيل ارضاء كافة الافراد. لكنا نعلم ايضا ان الحكومة ستكون معذورة اذا طرحت سياساتها على الناس ، حتى يعلم كل فرد بما سيخسره او يربحه او يترتب عليه من وراء كل سياسة او قانون جديد ، كي يكيف نفسه وحياته بناء عليه. وهذا هو الحد الأدنى من الانصاف.
مثل هذا المبدأ يبدو أكثر لزوما في ظروف العسر ، كالازمات الاقتصادية والسياسية ، التي تدفع الحكومات لاتخاذ سياسات ضاغطة ، تؤثر في معظم الشرائح الاجتماعية.
تصدر القرارات عادة بعد مشاورة اهل الاختصاص. ولعل هذا يتخذ حجة لتجاوز رأي الجمهور. لكنها حجة باطلة ، لأن رضا العامة جزء من جوهر مبدأ "القيام بالعدل" وليس اجراء اضافيا. والتفريط فيه تفريط في المبدأ.
الشرق الاوسط 24 فبراير 2016
http://aawsat.com/node/576151



17/02/2016

حول مكانة الهيئات الدينية


هل نعتبر صون الحريات الفردية شرطا لعدالة القانون ، وبالتالي هل يلزمنا طاعة القانون الذي يسمح بخرق حرياتنا؟.

خلال الأسبوعين الماضيين انشغلت الصحافة السعودية بعدد من الحوادث التي كانت هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت طرفا فيها. قد تبدو المسألة محلية جدا ، الا انها تثير تأملات حول مكانة الدين في الحياة العامة ، أظنها موضع جدل في معظم المجتمعات العربية ، سيما المحافظة منها.

تمتاز "الهيئة" عن بقية الاجهزة الحكومية بتصنيف العرف لها كجزء من المؤسسة الدينية. ويلحقها بالتالي ما يلحق هذه المؤسسة من صفات وهالات. ولهذا فكل جدل حولها يستنهض في العادة مخاوف حول الدين عند فريق من المجتمع ، وحول القانون عند فريق آخر ، وحول الحريات الشخصية عند فريق ثالث.


يقر الجميع بطبيعة الحال ، ان على الهيئة وكل منظمة حكومية أخرى ، ان تلزم حدود القانون في كل أعمالها. وفي هذا الاطار فان تجاوزات موظفيها تستدعي العقوبات الادارية التي ينص عليها القانون. لكن الفريق الأول يشعر بالقلق مما يعتبره تركيزا استثنائيا في الصحافة على اعمال "الهيئة". وهم يقولون – مباشرة او مداورة – ان الدين هو المستهدف في شخص "الهيئة" ، وأن هذا الاستهداف يتمثل غالبا في تضخيم أخطاء قد تصدر من أي منظمة رسمية أو أهلية أخرى.

اما الفريق الثاني فيجادل بأن الخطأ ، سواء كان فرديا أو مؤسسيا ، لا يترك او ينسى ، لأنه يشير الى علة في المؤسسة تستدعي العلاج لا الاغفال. الهيئة جزء من منظومة الادارة العامة وينفق عليها من المال العام ، والمبرر الوحيد لوجودها هو خدمة أفراد المجتمع ، فلا يصح ان تتسلط عليهم او تخرق حقوقهم. ارتباطها بالدين لا يغير من حقيقة كونها جهاز خدمة عامة ، محكوما بالقانون. إذا تصرف موظف حكومي بموجب اجتهاده الشخصي فهو مذنب ، لأن الموظف العمومي ممنوع بحكم القانون من اتباع رأيه أو اجتهاده الشخصي.

ينظر الفريق الثالث الى عامل مشترك بين الحوادث التي أثارت ضجة حول عمل الهيئة ، وهو اشتمالها على خرق واضح لحريات شخصية. ولحسن الحظ فان معظم الحوادث المثيرة كانت موثقة بالصور التي تدل قطعا على الخروقات المزعومة. لا يتعلق الأمر في هذه الحوادث بمجرم يدعي خرق حريته ، بل بشخص عادي يتعرض للاذلال او حتى الايذاء البدني ، لأن موظفا حكوميا اجتهد فاعتبر سلوكه مخالفا للآداب العامة أو احكام الشريعة.

هذا يثير سؤالا جديا حول العلاقة بين الالتزام الديني والحرية الشخصية. ونعلم ان مثل هذا السؤال يبدو للمجتمعات المحافظة ، غامضا ، وربما فارغا. الا انه يكشف من ناحية أخرى عن الحاجة الى مراجعة الفهم الموروث للحرية الشخصية ونقاط الاشتباك بينها وبين الاحكام الشرعية المنظمة للسلوك ، فضلا عن الاعراف والتقاليد التي تحمل ظلالا دينية.

ينصرف جدل العلاقة بين الحريات الشخصية والاحكام الشرعية الى ثلاثة أسئلة محورية ، اولها يتناول الترتيب بين الحرية والحكم الشرعي او العرف الاجتماعي ، ايهما حاكم على الآخر ومقدم عليه. بينما يتعلق الثاني بالمسافة بين القانون والحرية ، اي: هل نعتبر صون الحريات الفردية شرطا لعدالة القانون ، وبالتالي هل يلزمنا طاعة القانون الذي يسمح بخرق حرياتنا؟. يتناول السؤال الثالث القوانين المستمدة من احكام شرعية او معتمدة عليها ، هل نعتبرها مثل القوانين العادية ، ام نبتكر لها مرتبة فوق القانون العادي. هذا السؤال يتناول بالضرورة المؤسسات الدينية أيضا ، فهل نعاملها كاجهزة خدمة عامة ، ام نبتكر لها وصفا خاصا يرفعها عرفيا ووظيفيا عن مستوى تلك الاجهزة؟.

الشرق الاوسط 17 فبراير 2016

http://aawsat.com/node/570426

 

مقالات ذات علاقة

ام عبد العزيز

تجارة الخوف

تحولات التيار الديني - 2 نهايات المعارك

تحولات التيار الديني-3 اعباء السياسة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

الحكومة ضد الحكومة

حلاق المؤمنين

حول التدين القسري

حول مكانة الهيئات الدينية

دولة "الحارس الليلي"

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

سيادة القانون ورضا العامة

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون 

الليبرالية ليست خيارا

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

نقاط الاحتكاك بين المجتمع والدولة

واتس اب (1/2) أغراض القانون

واتس اب (2/2) عتبة البيت

الوجه السياسي لسد الذرائع

وجهات "الخطر" وقهر العامة

 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...