30/10/2012

عشرون عاما من التجربة

وراءنا عشرون عاما من التجربة مع النظام الاساسي للحكم ونظامي مجلس الشورى والمناطق. يقرر الفقه الدستوري ان الهدف الاعلى للنظام الاساسي هو ارساء علاقة قانونية بين المجتمع والدولة ، كبديل للعلاقة الشخصية. ويهدف نظام المناطق للتخلص من المركزية الادارية التي وسمت ظرف الانتقال من المرحلة التقليدية الى الاقتصاد الحديث. اما نظام مجلس الشورى فهو اشبه بمعالجة تجريبية لمبدأ الشراكة، يفترض ان تقود الى نظام نيابي تمثيلي.
مجلس الشورى السعودي
طبقت هذه التجربة في ظروف شهدت تحولات عظيمة في النظام الاجتماعي والثقافة والاقتصاد ، في المملكة ومحيطها ، وفي العالم بمجمله. بعد عقدين من الزمن نستطيع القول ان نقاط القوة والضعف في الانظمة الثلاثة اصبحت واضحة. في سبتمبر 1993 اخبرنا الملك فهد رحمه الله ان الانظمة الثلاثة خطوة اولى وليست نهاية المطاف : "نساير التطور الاجتماعي ونصعد السلم درجة درجة". وافترض ان كثيرا من رجال النخبة السياسية يضعون في اعتبارهم الحاجة الى مراجعة هذه التجربة وتطويرها.
فيما يتعلق بالنظام الاساسي، فاننا بحاجة الى التوسع في النص على الحريات العامة والحقوق المدنية والادوات القانونية اللازمة لضمانها. كما اننا بحاجة للتاكيد على سيادة القانون وخضوع الجميع - كبار موظفي الدولة مثل عامة المواطنين - للقانون في تعاملاتهم والعلاقة بينهم.
وفيما يتعلق بنظام المناطق ، فان هدفه المحوري ، اي اقامة نظام لامركزي ، لم يتحقق على النحو المطلوب. لازالت امور البلد كلها تقريبا تدار من العاصمة ، في وقت يتجه العالم كله للتخلص من الادارة المركزية.
 يجب القول ان مفهوم اللامركزية لم يعد منصرفا الى المعنى الجغرافي كما كان الامر حين صدر النظام في 1992. الانتشار الواسع لانظمة الاتصال الالي ابرزت مفهوما بديلا ، يركز على التعامل المعياري مع القضايا والطلبات ، بدل التعامل الشخصي الذي هو ابرز صفات النظام المركزي. من هذه الزاوية ، يتقاطع مبدأ اللامركزية مع مبدئين اخرين مهمين هما سيادة القانون وفصل السلطات ، وتشكل المباديء الثلاثة منظومة واحدة متفاعلة.  
اما التطوير المطلوب في نظام مجلس الشورى، فجوهره هو التحول من هيئة استشارية الى مجلس يمثل الراي العام ومصالح الجمهور. هذا يقتضي ان يأتي اعضاؤه من خلال انتخابات عامة ، وان يتمتع بصلاحيات اوسع واعمق لا سيما في مجالي التشريع والمحاسبة.
نفهم ان النخبة السياسية تسعى لتحديث انظمة الخدمة العامة وتحسين كفاءة الادارة الرسمية. لكن تجربة العالم تخبرنا ان قدرة القيادة على تحديث تلك الانظمة مقصورة على المراحل الابتدائية فقط. اما المراحل المتقدمة فهي تتطلب اشراك الراي العام بصورة فعالة ، من خلال ممثلين منتخبين. من هذه الزاوية فان تمثيل الشعب في جهاز الدولة سوف يريح النظام السياسي من اعباء مرهقة ، وسوف يفسح مجالا رحبا للمجتمع كي يشارك في صياغة حياته وعلاقته مع الدولة.
تفصلنا اسابيع قليلة عن نهاية الدورة الحالية لمجلس الشورى. واظن ان الوقت ملائم للاقدام على الخطوة المفصلية التالية ، اي تطوير الانظمة الثلاثة واعادة تشكيل مجلس الشورى عن طريق الانتخابات العامة.
الاقتصادية 30 اكتوبر 2012
http://www.aleqt.com/2012/10/30/article_705573.html

مقالات ذات صلة

23/10/2012

فاتورة الوزير

في يوم صيفي من ايام 1993 التقى جوناثان ايتكن في مقهى باريسي بصديق جديد. وبعد ساعة ، خرج دون ان يدفع الفاتورة. عرف الناس بالقصة في ابريل 1995 حين نشرت صحيفة الغارديان تحقيقا على صفحتها الاولى ، اثار سؤالا بسيطا ، لكنه بدا للناس شديد الاهمية: "من دفع الفاتورة؟.
كان ايتكن نجما صاعدا في سماء السياسة البريطانية. فهو الوزير المسؤول عن مبيعات الاسلحة، وعين في وقت لاحق وزيرا للمالية. وهو منصب يؤهل شاغله – حسب العرف الدارج – لرئاسة الحكومة او الحزب الحاكم.
لكن الصحافة الحرة "جابت فيه العيد" كما يقول اهل بلدنا . في 1999 وقف جوناثان ايتكن امام القاضي الذي حكم عليه بالسجن ، بعدما خسر الوزارة وخسر مقعده البرلماني ، وانهار مستقبله السياسي.
"الفاتورة" هي كل المسألة. اكتشف صحافي شاب ان شخصا ما قد دفع فاتورة الوزير. فتساءل في نفسه: ما السبب الذي يدعو شخصا للانفاق على شخص آخر ، صادف انه وزير لمبيعات الاسلحة؟. تحقيقات الصحفي قادته الى كشف تعاملات غير قانونية تتضمن دفع رشاوى لنافذين اجانب لتامين مبيعات عسكرية.
ناقشت احد اساتذتي يوما حول دور القضاء والبرلمان والصحافة في تطهير المجتمع السياسي ، فقال لي ان فصل السلطات عامل مهم ، لكن الصحافة هي الاداة الاكثر فاعلية ، لسبب بسيط هو ان تلك المؤسسات تحتلها النخبة ، التي قد تتوافق – ضمنيا على الاقل – على السكوت او التكاذب. لكن الصحافة لا تسكت طالما كان في البلد قانون يحمي حق التعبير والنشر. لهذا فان معظم قضايا الفساد التي كشفت في الدول الصناعية ، ظهر خيطها الاول في الصحافة.
يؤدي الفساد المالي والاداري الى اضعاف هيبة الدولة ، واثارة الارتياب في مشاريعها. من المؤكد ان كبار رجال الحكم في اي دولة حريصون على نقاء المؤسسات التي يرأسونها. في المقابل ، يصطنع الفاسدون  الف طريقة وطريقة لتسويغ مسلكهم وابرازه كممارسة شريفة وعادلة .
الصحافة الحرة هي الاداة الوحيدة القادرة على كشف الفساد المستتر. حرية الصحافة لا تعني – فقط – السماح بالحديث عن وجود فساد او الحاجة الى مكافحته. بل تعني تحديدا توفر قواعد قانونية تحمي الصحف والصحفيين من انتقام الفاسدين وحلفائهم. لا معنى لحرية الصحافة ، اذا كان الصحفي سيخسر وظيفته بعد نشره تحقيقا عن حالات فساد. ولا معنى للحرية اذا عوقبت الصحيفة بحجب الاعلان عنها ، او منع النشر فيها او طرد مراسليها.
يعرف الناس مئات من حوادث الفساد ، وثمة جديد يظهر كل يوم. من المشكوك فيه ان تستطيع اية هيئة متخصصة متابعة هذه الحوادث ، فضلا عن التحقيق في كل واحدة منها. لكن الصحافة تستطيع ذلك ، اذا ضمن القانون حريتها ووفر لها الحماية اللازمة. 
ربما لا يخشى الفاسدون من المحاكم ، لانهم يستطيعون تدبير اقوى المحامين. لكنهم يخشون الصحافة، لانهم – ببساطة – يخشون الفضيحة اكثر مما يخشون ربهم واكثر مما يخشون القانون.
تطهير بلدنا من الفساد رهن بتوفير الضمان القانوني لحرية الصحافة. لسنا بحاجة الى اعادة اختراع العجلة. وجد الفساد قبل ان نعرفه.  وعرف علاجه قبل ان نتحدث عنه . وطالما تاكدنا من فاعلية الدواء ، فلنجربه علاجا لعلتنا ، والباقي على الله.
الاقتصادية 23 اكتوبر 2012

مقالات ذات علاقة

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...