09/05/2012

في بيان ان حقوق المواطنة اعلى من قانون الدولة


يمكن تنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة على واحد من وجهين:
1- تبعية المجتمع للدولة ، اي كون الدولة سيدا على المجتمع وحاكما فوقه
2- تبعية الدولة للمجتمع ، اي كون الدولة وكيلا عن المجتمع وممثلا له ، باعتبار المجتمع مصدرا للسلطة.
تشرح السطور التالية ان الوجه الثاني هو الوحيد المشروع ، استنادا الى نظرية " شراكة التراب " التي ادعو اليها.
لويس الرابع عشر: الدولة أنا
من المفهوم ان الدولة لم تخلق ارض الوطن ولا سكانها ، ولم تجلبهم من أماكن أخرى ، وتعمر أرضهم وتسكنهم فيها. الأرض التي تخضع لسلطان الدولة هي ملك أصلي للذين يعيشون فوقها. وبموجب هذا الملك فإنهم وحدهم أصحاب الحق في إدارة مواردها والتصرف فيها. الدولة لا حق لها في أي شيء من تلك التصرفات إلا إذا اتفق أولئك المالكون على تفويضها هذا الحق. ملكية الأرض أعلى وأسبق - من حيث قابليتها لتوليد حقوق التصرف- من الدين والقانون والتوافقات، وإنما تصبح أحكام الدين والقانون سارية إذا وافق المالك على الخضوع لها.
وعلى هذا الاساس فان الدعوة للمساواة والعدالة في توزيع الموارد، ليست مجرد دعوة أخلاقية أو ضرورة سياسية. بل هي أولاً وقبل كل شيء تعبير عن حق أصلي ثابت ، سابق للدولة والدين والقانون. وإنما تأتي القوانين والأحكام لتنظيم القيام بهذا الحق وتمكين كل فرد من أن يحصل على نصيبه العادل منه.
والحق ان العالم كله يأخذ اليوم بمفهوم الشراكة هذا. الدول العربية تقع ضمن شريحة صغيرة جدا ضمن 194 دولة عضو في الامم المتحدة ما زالت تعيش على النظم والقيم القديمة التي تنكر شراكة الجمهور وملكيته لارضه وما يترتب عليها من حقوق سياسية. نتحدث احيانا عن عالم ما قبل قرنين ، فنستنكر ما جرى فيه ، لكن ذلك العالم مازال قائما – ولو بتمثيلات مصغرة – في الدول العربية المعاصرة . نتذكر مثلا مقولة ملك فرنسا لويس الرابع عشر «الدولة هي أنا» التي تختصر واقع الحال في الأكثرية الساحقة من أقطار العالم يومذاك. ولعلنا نتذكر ما نقله مؤرخو العالم الإسلامي عن تحول الناس عن الدين أو المذهب الغالب في بلدهم إذا تولى الحكم ملك يتبع مذهباً مختلفاً. يمكن القول بكلام مجمل: إن الخضوع والتسليم لشخص الحاكم كان المضمون العام لعلاقة المجتمع مع حكومته.
تغيير تلك المفاهيم بدأ في اوربا خلال القرن السابع عشر ، متاثرا بالأفكار السياسية الجديدة التي أطلقها فلاسفة عصر النهضة. كما اكتسب التغيير زخماً إضافيًّا بعد الحروب الأهلية والنزاعات الدينية والحركات الثورية، لا سيما الثورتين الفرنسية (1789) والأمريكية (1783). جوهر التغيُّر المذكور هو تحول صفة الدولة من حاكم فوق الشعب إلى حكم بين أفراد الشعب وممثل للمجتمع ، تستمد سلطتها منه. وترتب عليه نزع الصفة المتعالية للدولة، وتحديد سلطتها واعتبارها مسؤولة عن أعمالها وعما يجري إجمالاً في الإقليم السياسي الخاضع لسلطانها.
وصل التغيير في الدول الصناعية إلى مرحلة متقدمة من النضج ، فرسخت مفاهيم مثل الحقوق الطبيعية والمدنية والمساواة بين المواطنين، وحاكمية القانون وكون الدولة ضامناً للحقوق الدستورية لكل مواطن. ولهذا فإن الاختلاف المذهبي أو الديني بين أبناء الوطن الواحد لم يعد مشكلة أو مولداً لمشكلة. فعدا عن الحق الأولي في المساواة بين الأفراد بغض النظر عن معتقداتهم، فإن النظام السياسي يوفر آليات قانونية محددة وموثوقة لمعالجة التمييز والعدوان فور حدوثه.
سار العالم الإسلامي في طريق مختلف. فبعد استقلال أقطاره، هيمنت على الحياة السياسية نخب اوتوقراطية تفهم الدولة والمجتمع في نفس الإطار الذي كان متعارفا في القرون الوسطى ، أي اعتبار الدولة هيئة مستقلة عن المجتمع ، تتمتع بسلطات مطلقة. لا يمكن بطبيعة الحال إفراد النخب الحاكمة باللوم على ما جرى. فالمجتمعات المسلمة وقادة الرأي من أهلها يتحملون نصيباً من اللوم على افتقارها إلى ثقافة سياسية تُعلي شأن الإنسان الفرد وحقوقه، وتسمح بالتفكير في سلطة تمثيلية منبعثة من المجتمع.  اغفلت الدولة والمجتمع العربي حقيقة كون الناس مالكين لأرضهم، بل واعتبروها -صراحة أو ضمناً- ملكاً للدولة المستقلة عن المجتمع والحاكمة فوقه. وانطلاقاً من هذا الفهم أهملت الدولة العربية مسألة العدالة في توزيع الموارد . ثم انكرت على عامة الشعب حقه في المشاركة الكاملة في صناعة السياسات التي تؤثر على حاضره ومستقبله. في بعض الحالات وجدنا طبقات أو طوائف أو قبائل بعينها تستأثر بمعظم خيرات البلد ومناصب الدولة ، حتى اصبحت هي والدولة شيئا واحدا ، بينما اكثرية الناس لا حظ لهم ولا حصة ولا صوتا.
على المستوى النظري فان جميع دساتير الدول العربية – عدا اثنين او ثلاثة ربما - يقرر ان الشعب هو مصدر السلطة. الا ان هذا لا يكشف عن حقيقة الحال. كي يتحول هذا المفهوم الى واقع ، فاننا بحاجة الى التاكيد على قاعدته الفلسفية ، اي كون الشعب مالكا للاقليم الارضي الذي هو وطنهم. هذا يعني ان جميع اعضاء المجتمع، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه. ويقترب هذا المفهوم الى حد كبير من فكرة "الخراج" المعروفة في الفقه الاسلامي القديم، التي تؤكد على ملكية عامة المسلمين للموارد الطبيعية ملكا مشاعا[1].
بناء على مفهوم الشراكة فان المواطنين يولدون متساوين متكافئين ويبقون كذلك طيلة حياتهم. سواء نص القانون الوطني على هذا ام سكت عنه. ومن هنا فان اي عضو في هذا النظام لا يستطيع الغاء عضوية الاخر ، بنزع الجنسية مثلا . الوطن في هذا المفهوم لا يتكون من اقلية واكثرية ، بل من مواطنين متكافئين في الحقوق والواجبات ، بغض النظر عن اصولهم العرقية وجنسهم وانتماءاتهم الثقافية والاجتماعية. هذه الحقوق لا يمكن حجبها لأنها منبثقة عن ملك شرعي صحيح وكامل الاركان.
موقع المقال 9 مايو 2012

مقالات ذات صلة




[1]  لتفصيلات حول الخراج واحكامه واستخدامه في تاسيس مبدأ الشراكة ، انظر توفيق السيف : نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، الباب الثالث

08/05/2012

في تفسير التنازع بين الدعاة والمصلحين


خلال العقدين الماضيين ، تحولت شريحة كبيرة من العاملين في الحقل الديني ، الى العمل السياسي الصريح او الضمني ، بعدما "اكتشفت" ان الدعوة الى مكارم الاخلاق ، وتعليم الناس عقائدهم وعباداتهم ، تنطوي – ضمنيا – على بعد سياسي.

تبعا لذلك ، برز في المجتمع المحلي ما يمكن وصفه بحالة استقطاب polarization  متعددة  المحاور، تبرز فيها جماعات دينية تقليدية واخرى اصلاحية ، وجماعات ليبرالية ، فضلا عن مجموعات شبابية غير مؤدلجة. بعض هذه الاقطاب يتبنى مباشرة او مداورة اجندات سياسية ، وبعضها يصر على ترك السياسة للسياسيين والتفرغ للعمل الديني البحت.

كل عمل يستهدف التاثير على المجتمع ، فهو ينطوي – بالضرورة – على مضمون سياسي. لانه يستهدف ، او يؤدي الى اقامة دائرة نفوذ ، يكون الداعية قطبا فيها او موجها لحركتها. وهذا يقود الى مزاحمة – عفوية او مقصودة – لدوائر النفوذ الاخرى ، المماثلة او المختلفة. نعرف ان المجتمع لا يتالف من افراد هائمين في فراغ ، بل من دوائر ينتمي اليها الناس لانهم يرون فيها تعبيرا عن مصالحهم او تطلعاتهم او اطمئنان نفوسهم. العلاقة بين هذه الدوائر تتحدد – في الغالب – على ضوء توازنات القوى او التوافقات والتعارضات في المصالح. اما الافكار فهي تلعب دور التبرير لانظمة العلاقات هذه.

جرت عادة اصحاب النفوذ والساعين اليه ، على ابراز المبررات التي تؤكد على صحة دعواهم ، مع السكوت عن جوهر ما يسعون اليه ، اي الرسالة النهائية التي يريدون اقناع الناس بها او استثمار نواتجها. سبب هذا الغموض المرحلي ، هو ان الناس يكرهون مصارحة انفسهم بفكرة التسليم لنفوذ شخص او اشخاص محددين ، مهما علا شأنهم. لكن اولئك الناس لا يمانعون من قبول المبررات التي تؤدي – بالضرورة – الى التسليم لهذا الشخص. حين يطلق الناس على شخص لقبا ذا قيمة ، وحين يمتدحون علمه او خدماته ، او يتحدثون عن قبول الاخرين له ، فهم – في حقيقة الامر - يسعون لارضاء انفسهم بفكرة التسليم له والخضوع لنفوذه.

قديما قال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو "الاقوى ليس قويا تماما حتى يقنع الناس بان سلطته عليهم حق وان طاعتهم له واجب". وهذا جوهر مفهوم الشرعية السياسية ، او شرعية السلطة والقيادة. واليوم يسعى جميع النافذين والساعين للنفوذ وراء هذا المثال: اقناع الناس بان ما يامرونهم به هو الحق ، وان ما يطلبونه منهم واجب عليهم. هذا واحد من ابرز وجوه السياسة. والذين يمارسونه هم في واقع الامر فاعلون سياسيون ، سواء كانوا واعين بهذه الحقيقة او غافلين عنها.

ظهور دائرة نفوذ جديدة ، او تمدد دائرة نفوذ قائمة ، يؤدي – شئنا ام ابينا - الى شعور الاخرين بالمزاحمة وربما التهديد. هذا يفسر عجز الدعاة والمثقفين والعاملين في المجال الخيري عن توحيد جهودهم. تسمعهم يتحدثون عن قيمة الوحدة وأمر الله بها. لكنهم مع ذلك ليسوا مستعدين ابدا للمبادرة بالاتحاد غير المشروط مع الاخرين. المسالة – في الجوهر – لا تتعلق بالعمل نفسه ، وضرورة توحيده او ابقائه منقسما ، قدر ما تتعلق بكيانات ودوائر نفوذ ، يعتقد اصحابها بالحاجة الى ابقائها قائمة وفعالة ، ايا كانت المبررات اللازمة.

هذا اذن تطور طبيعي يمكن ان يحدث في اي مجتمع : ظهور دائرة مصالح جديدة ، يستثير رد فعل معاكس من جانب الدوائر القائمة ، ويؤدي – تاليا – الى اعادة تحديد من يصنفون كاصدقاء واعداء ومنافسين ، اي كفرصة محتملة او تهديد محتمل.

الاقتصادية 8 مايو 2012  http://www.aleqt.com/2012/05/08/article_654656.html

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...