12/01/2009

النموذج اللبناني في الصراع والتوافق


مهما كان رايك في النموذج اللبناني فانه يكشف عن عمل سياسي متقدم على معظم نظائره في البلدان الاخرى . واريد الاشارة خصوصا الى القدرة الباهرة على الانتقال من حالة الشقاق الى حالة الوفاق. قبل شهر تقريبا رأينا ممثلي حزب الله على طاولة واحدة مع زعماء سلفيين . مثل هذا التلاقي كان مفاجئا ومدهشا لانه جمع بين فريقين يقفان على طرفي نقيض . لم ينجح ذلك الاتفاق لكنه شكل اختراقا غير مسبوق.

 بعد ذلك بايام ، فوجئنا بمفاوضي حزب الله على طاولة واحدة مع ممثلي وليد جنبلاط ، الذي يعتبر المحرك الرئيس للصراع بين الموالاة والمعارضة . والواضح ان لقاء حزب الله مع السلفيين في طرابلس ومع جنبلاط في الجبل قد جعل اللقاء بين الحزب وتيار المستقبل الخطوة التالية المتوقعة . وهذا ما حدث فعلا . من يقارن الكلام الدائر في الساحة اللبنانية خلال الاسبوع الاخير من رمضان  بذلك الذي كنا نسمعه في اول الشهر سيصاب قطعا بالدهشة ، او سيفهمه كتعبير عن حيوية النموذج السياسي اللبناني وقدرة رجاله على الانتقال – من دون مقدمات احيانا – بين المواقف المتناقضة .

الامر يبدو محرجا بعض الشيء للمراقبين خارج لبنان وللسياسيين المهتمين بالشان اللبناني او المتعاطفين مع احد اطرافه. المتعاطفون مع المعارضة تكلموا عن رموز الموالاة كاعداء وعملاء ، والمتعاطفون مع الموالاة تحدثوا عن المعارضين كاطراف في مؤامرة تستهدف العرب باجمعهم . لكن السياسيين اللبنانيين كانوا ينظرون الى هذا الكلام كاوراق قوة يجمعونها كي يطرحونها في الوقت المناسب على طاولة التفاوض مع منافسيهم . بالنسبة للسياسيين اللبنانيين فان اي طرف من اطراف الصراع هو قوة سياسية محلية اولا واخيرا ، مما كان لونها ومهما كانت تحالفاتها الخارجية . وهم يتصارعون فيما بينهم من اجل كسب مواقع او تعزيز مواقف ، وهم يستثمرون الكلام الذي يقوله المراقبون والسياسيون خارج لبنان ، لكنه لا يهمهم جديا ولا يعتبرونه دليلا لهم .

استغل اللبنانيون فرصة رمضان المبارك لترتيب اوراقهم مع بعضهم البعض . تصالحت الموالاة والمعارضة ، او بدأوا مشوار المصالحة ، وتراجعت حملات التخوين والاتهام ، لتحل محلها ادبيات التوافق والسلام . جميع الفرقاء ينظرون الى استحقاقات العام القادم حين ياتي موعد الانتخابات النيابية ، ويحتاج كل طرف الى الاخر لضمان موقعه في الساحة السياسية .

في مقابل هذا التوجه الايجابي ، استغل الشيخ يوسف القرضاوي فرصة رمضان لاطلاق حملة تخويف عنوانها "الاختراق الشيعي للعالم السني" . كانت هذه فرصة لعدد ملحوظ من الباحثين عن فرصة لاسماع اصواتهم من الفريقين الشيعي والسني . الشيخ راشد الغنوشي الذي يكافح منذ سنين للحفاظ على اسمه في التداول السياسي علق قائلا ان جماعات شيعية استغلت غياب حركة النهضة التي يتزعمها لاختراق المجتمع التونسي .

بعض السلفيين السعوديين الذين كانوا يعتبرون القرضاوي عدوا لدودا ، اعاد النظر في هذه الاوصاف واكتشف انه رجل المرحلة وزعيم الحركة الاسلامية الذي لا ينازع. على الجانب الاخر ، استغل عدد من المشايخ والكتاب الشيعة تصريحات القرضاوي فاطلقوا حملة تشهير بالرجل واتهموه بالانزلاق الى مواقف منسجمة مع الصهيونية والامبريالية ، وما الى ذلك من الكلام المعتاد في ادبيات السجال الطائفي.

ما يدعو للعجب ان كثيرا من هذا الكلام كان تموجا لما سمعناه من سياسيين ورجال دين لبنانين اثر اجتياح المعارضة التي يتزعمها حزب الله لغرب بيروت في مايو الماضي. ويعتبر غرب العاصمة اللبنانية منطقة نفوذ لزعماء الطائفة السنية ، ولا سيما تيار المستقبل الذي يقوده سعد الحريري.

كثير من الذين تناولوا ذلك الحادث بالتحليل او اتخذوا مواقف منه ، اعتبروه انقلابا شيعيا على السنة او اختراقا موسعا للمجتمع السني وما الى ذلك . وهذه الاوصاف والتحليلات جاءت اولا على لسان سياسيين لبنانيين . لكن هؤلاء سرعان ما تجاوزا هذا الكلام وانصرفوا لترتيب البيت من خلال الحوار مع من كانوا اعداء .
لكن جماعتنا لا زالوا يكررون الكلام الاول الذي قيل في مايو ويونيو . اللبنانيون نجحوا خلال اربعة اشهر في تغيير سكة القطار من التصارع الى التفاهم . اما الجماعة الذين حجزوا مقاعد المتفرجين فالواضح انهم لازالوا مشغولين بانهاء فروض الصراع . ولعلهم يريدون استنفاذ ذخيرته قبل ان ينتهي زمنها .

خرج اللبنانيون من رمضان وهم اقرب الى بعضهم ، وخرجنا من رمضان ونحن ابعد عن بعضنا ، فكرمى لهم ونعم ، واسفا علينا وعلى شيوخنا وزعمائنا . اني آمل ونحن في العيد ان نستعيد معناه الابرز ، اي التراحم والتعاطف وان نتحدث حديث المحبة والسلام ولو تكلفا وتصنعا . في نهاية المطاف فان الكلمة الطيبة تطيب الخواطر والنفوس حتى لو كانت مصطنعة ، بخلاف كلمة الفراق المؤذية والمؤلمة ، حتى لو صدرت عن فم مخلص.
يناير 2009

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟


قلنا في مقال سابق إن عدالة النظام الاجتماعي رهن بتوفر الضمان القانوني للحريات الفردية. وهذا يتعارض إلى حد كبير مع النظريات التي ترى أن القانون بطبعه قيد على الحرية. من المفهوم أن القانون ضروري لسلامة الحياة الاجتماعية مثلما الحرية ضرورية لانسانية الانسان. الاشكالية اذن تكمن في الموازنة بين متطلبات هذه ومتطلبات ذاك. وهذا يقودنا بالضرورة إلى التساؤل عن كيفية ضمان القانون للحرية.
Image result for "the spirit of the law" montesquieu
في الحقيقة فإن العدو الأول للحريات الفردية هو التدخل الشخصي والاعتباطي في خصوصيات الناس ومصالحهم وإرادتهم.
في المقابل يتميز القانون بالثبات وعدم التمييز بين شخص وآخر أو بين حالة وأخرى. وحسب تعبير مونتسكيو الفيلسوف الفرنسي الذي اشتهر بكتابه «روح الشرائع» فان الحرية هي أن «لاتكون مجبرا على فعل شيء لم يأمر به القانون، وأن لا تمنع من شيء لم يمنعه القانون. ذلك لان القانون هو الحاكم، نحن أحرار لاننا نعيش تحت قانون مدني».
في أي نظام اجتماعي ثمة فرص لتدخل الأقوياء في حياتك. وفي غياب القانون فأنت مضطر لاستخدام قوتك الجسدية أو المال أو العلاقات الشخصية لتحييد أو اعاقة التدخلات الاعتباطية والشخصية. لكن كم من الناس ياترى يملك المال أو القوة أو العلاقات، أو يستطيع استخدامها لضمان مصالحه ؟. في الحقيقة لا يمكن الاعتماد على هذه الوسائل في إقامة نظام اجتماعي سليم. وجود القانون هو الضمان الوحيد لمصالح الجميع بغض النظر عن قوتهم الشخصية.
عمومية القانون هي أبرز الفوارق بينه وبين التدخلات الشخصية التي تصاغ عادة في صورة أوامر ادارية. تصدر هذه الأوامر لمعالجة حالة خاصة، أما القانون فهو يقوم على مبدأ عام ويتوجه للجميع دون النظر إلى أشخاص بعينهم أو حالات بعينها. ولهذا فان القانون يبقى ساريا إلى أن يلغى بقانون مماثل، بينما ينتهي مفعول الأوامر الادارية فور انتهاء موضوعها الخاص.
من ناحية أخرى فان القانون هو تقرير للأغراض المستهدفة. فهو يصدر بعد دراسة متأنية ويشرح في ديباجته العلل التي اوجبت صدوره. ولهذا قيل إن القانون لا يطاع إلا إذا كان معلنا ومعروف المبررات. أما الامر الاداري فيعبر عن إرادة المدير، وربما يصدر في لحظات انفعال ومن دون دراسة متانية أو من دون أن تكون متوقعة من قبل عامة الناس. كما لا يتضمن تعليلا قانونيا مفتوحا لنقد العامة وتدقيقها.
وقد تقرر في نظام أثينا القديمة أن فهم الناس للقانون هو ما يوجب طاعتهم له. وكما يقول هانز- جورج غادامر الفيلسوف الألماني، فإن أحد الأركان الكبرى في فكرة النظام القانوني هو أن أحكام القاضي قابلة للتنبؤ مسبقا لأنها تقوم على مبررات وقواعد قانونية معروفة للجميع. وهذا هو الذي يجعل القانون علة للاستقرار. كل محام أو مستشار قادر من حيث المبدأ على إعطاء مشورة صحيحة، أي أنه قادر على التنبؤ بشكل صحيح بقرار القاضي بناء على القوانين الموجودة.
يتميز القانون أيضاً بأنه ضامن للحقوق والالتزامات التي أنشئت في ظله حتى بعد إلغائه. ذلك لأن القوانين العادلة لا تكون رجعية، بمعنى أن مفعولها يسري منذ لحظة إعلانها، فلا تلغي حقا جرى اقراره في ظل قانون سابق. فاذا حصل مواطن على حقوق أو مصالح أو التزامات في إطار القانون، فإنها تبقى قائمة محترمة حتى لو صدر قانون جديد مختلف. ومن هنا يستطيع الناس التخطيط لمستقبلهم بثقة واطمئنان، لأن أحداً لن يستطيع نقض مكتسباتهم.
عكاظ 12/ يناير /2009  العدد : 2766

مقالات ذات علاقة 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...