31/01/2007

تجربة التعامل مع العنف بين العلم والسياسة


يبدو ان موجة العنف التي شهدتها البلاد في السنوات القليلة الماضية قد انحسرت واصبح بالامكان دراستها وتوثيقها كتجربة تنطوي على كثير من الدروس. بعض الذين درسوا تلك الموجة اعتبروها حدثا عارضا لا علاقة له باي عامل فعلي في النظام الاجتماعي او استراتيجيات العمل السائدة. وعلى هذا الاساس فهم يصنفون اعمال العنف تلك كحوادث فردية، فهناك دائما احتمال ان يقدم فرد ما على عمل غير متوقع لاسباب او دوافع تخصه وحده ولا يمكن التنبؤ بها.
ثمة رأي اخر يميل الى اعتبارها انعكاسا كاملا لتطورات خارجية، فهي لا تستمد وجودها من أي عامل محلي، ولا يمكن ان تستمر في الحياة من دون ذلك العامل الخارجي. الذين يقولون بهذا الراي يخلصون الى ان الوسيلة الوحيدة لمعالجة هذه المشكلة تكمن في الردع الفوري على المستوى الداخلي والعمل الدبلوماسي لتحييد العوامل الخارجية. الرأي الثالث الذي تبناه كثير من الكتاب في البلاد ينسب تلك الموجة الى تركيب من العوامل المحلية والخارجية، كما يميز بين البيئة المنتجة للعنف وبين عوامل فردية تجعل شخصا بعينه مرشحا للمشاركة فيه دون بقية الناس.

على أي حال فهذه الاراء وكثير من الاراء الاخرى التي طرحت خلال السنوات القليلة الماضية، وكذلك السياسات والاجراءات الحكومية، والمبادرات الاهلية، تشكل في مجموعها ارضية مناسبة لتحويل مسألة العنف الى موضوع للبحث العلمي بغرض اكتشاف جميع العوامل التي انتجته او يمكن ان تنتجه في المستقبل، العوامل المتوفرة فعلا او المحتملة. وكذلك اكتشاف البيئة او البيئات الاجتماعية الاكثر اهلية لتوفير القوة البشرية لجماعات العنف. واخيرا دراسة الوسائل الكفيلة بالتصدي له كحدث طارئ ثم معالجته كمظهر لعلة او مرض ذي جذور، وهذا يتضمن دراسة السياسات الرسمية المكرسة للتعامل مع هذا النوع من الاحداث وتوجيه المجتمع ومؤسساته، ومساعدتها في ابداع وسائل العمل الاهلية الضرورية لاستيعاب وتحييد هذه المشكلة فور وقوعها

ثمة سببان وراء هذه الدعوة، سبب علمي وسبب سياسي. بالنسبة لبلد نام مثل المملكة فان تطوير الانتاج العلمي يتخذ في المقام الاول صيغة «اعادة انتاج العلم ضمن شروط البيئة المحلية» ويتحقق هذا من خلال التطبيق النقدي للمقولات النظرية العامة او المستخلصة من تجارب سابقة محلية او اجنبية على الحدث او الظاهرة بغرض اكتشاف صحة او خطأ تلك المقولات، ومدى ملاءمتها لهذه المشكلة او هذه البيئة بالذات، الامر الذي سيقود بالضرورة الى تعديلها او استبدالها بغيرها او ابتكار مفاهيم وقواعد نظرية جديدة كليا.

 في هذا الاطار فان عددا كبيرا من الباحثين سيعالجون مختلف الجوانب التي تشترك في تشكيل الحالة او الظاهرة، كل من زاوية اختصاصه او بناء على المدرسة النظرية التي يميل اليها. وبالنظر الى خلفيتهم الثقافية والاطار الاجتماعي الذي تدرس فيه المسألة فان الناتج العلمي سيكون محليا لكنه متواصل مع النتاج العلمي المتوفر في العالم. مثل هذه التجربة ستكون من غير شك اضافة بارزة الى البحث العلمي المحلي وقد تشكل منطلقا للعديد من البحوث في مجالات مقاربة

اما السبب السياسي، فهو يشير الى حاجتنا لوضع سيناريوهات عمل مسبقة التجهيز. سيناريو العمل هو عبارة عن اجراءات محددة تستند الى دراسات موضعية تربط بين النظرية المجردة وظروف العمل المتوفرة في الواقع، أي الامكانات المادية وغير المادية والحدود القصوى لما يمكن فعله ضمن اطار اجتماعي او سياسي محدد. ما يفرق بين سيناريوهات العمل وبين البحوث العلمية البحتة هو اهتمام الاولى بالتطبيق الفعلي، مقابل تركيز الثانية على فهم الحالة او الظاهرة بغض النظر عن الامكانيات المتاحة لعلاجها.

نحن بحاجة الى وضع سيناريوهات مختلفة للتعامل مع الظروف الطارئة لاسباب كثيرة، من ابرزها حاجتنا الى احتساب الكلفة التفصيلية للتعامل مع تلك الحالات. من المفهوم ان التخطيط العام يستهدف دائما تحديد المشروعات المراد القيام بها سلفا لتوفير الاموال والقوى البشرية والاطار القانوني والتمهيد الاعلامي والاجتماعي وغير ذلك مما يحتاجه المشروع لضمان انجازه في الوقت المحدد. يمثل التنبؤ ووضع الاحتمالات وسيناريوهات العمل المقابلة لها مرحلة متقدمة في مجال التخطيط، اذ انه يدرس حالة غير قائمة او مقررة بالفعل، لكنه – من خلال هذه الدراسة – يحولها من مجهول الى معلوم، فيتعامل معها عند وقوعها باستعداد كامل كما لو كانت حدثا معروفا، محددا ومنتظرا.

مثل هذا المستوى من التخطيط سوف يوفر على الادارة الحكومية والمجتمع مؤونة التجريب وربما اللجوء الى حلول غير مدروسة، بما تنطوي عليه من كلف غير ضرورية.
زبدة القول ان تجربة المجتمع السعودي مع العنف تمثل موضوعا جديرا بدراسات اوسع مما جرى حتى الان، واملي ان يتحول الى منطلق لتطوير اساسي في حقل البحوث الاجتماعية، وهو حقل لا يزال فقيرا في بلادنا.

عكاظ 31  يناير 2007  العدد : 2054

23/01/2007

كي نخرج من علاقة الارتياب


 انعقاد المجلس النيابي هو الخطوة الاولى الضرورية لمأسسة وترسيخ العملية الديمقراطية. لكنه بكل تأكيد ليس خلاصة التحول الديمقراطي، لا سيما في الديمقراطيات الجديدة والناشئة. وكما في تجربة البحرين والكثير من التجارب المماثلة في دول عربية ونامية أخرى، فان انجاز هذه الخطوة يتحقق بعد الكثير من الصعوبات والمماحكات، هي وسيلة كل طرف من اطراف المجتمع السياسي لتحقيق مراداته وتطلعاته من دون تقديم ما يقابلها من تنازلات

من هذه الزاوية فهي تشبه الى حد كبير صفقة ضخمة يجريها تجار في السوق، يحاول كل منهم الحصول على اكبر قدر من المكاسب مقابل اقل قدر من الالتزامات. ونعلم ان افضل الصفقات هي تلك التي يحصل التاجر من ورائها على الغنيمة كلها من دون غرم.

لكننا نعلم ايضا ان هذه الصفقة مستحيلة، بل انها لا تجري في الواقع ابدا. يمكن بطبيعة الحال لرجل قوي ان يستعمل قوته في فرض ما يريد فيحصل عليه لأن الاخرين يهابون قهره او يخشون سطوته. لكن هذا لا يسمى توافقا، نحن لا نتحدث عن حالات مثل هذه، لان الديمقراطية هي في الجوهر عملية مساومة وغرضها التوصل الى عمل يقوم على التفاهم والتوافق، وهذا يتطلب تنازلا من كل طرف عن بعض ما يريد كي يحصل على غيره. واذا لم يقبل اي طرف بالتنازل عن شيء فلن تحصل صفقة. واذا لم تحصل صفقة فلن تكون ديمقراطية بل حكم جبري يقوم على الاستبداد والاستعباد، او فشل كلي يقود الى الاعتزال والتباعد والانقسام.

قبل قرن ونصف تقريبا وضع الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو قاعدة بسيطة توضح اهمية التوافق في الحياة السياسية. هذه القاعدة نسميها اليوم »الشرعية السياسية«. كل عمل انساني ينبغي ان يستند الى مبرر صحيح او مقبول عند العقلاء والا عد عبثا. في هذا السياق فان العمل السياسي ينبغي ان يستند الى قاعدة »الشرعية السياسية« والا عد باطلا او غير عقلائي.

التوافق ضروري للسياسة لانه يوفر شرعية العمل السياسي، وحسب تعبير روسو فان »الاقوى ليس قويا تماما حتى يتقبل الاخرون سلطته باعتبارها حقا وطاعتهم اياه كواجب«. من المفهوم ان هذا الزمان لم يترك فرصة لأحد كي يملي على الناس قناعاتهم او يفرض عليهم الطريقة التي يفكرون بها ويصنعون اراءهم. الطريقة الوحيدة للحصول على تأييد الغير هو الاقناع او التوافق. وكلا الامرين مستحيل من دون مساومة تنطوي على تنازلات.

يجب ان لا ننكر حقيقة ان تأخير الديمقراطية في بلادنا قد تسبب في تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية، واثمر عن تحويل التنوع الطبيعي في الثقافات والمصالح والهموم الى مطبخ يغذي التنافر والارتياب. والارتياب هو مكمن المرض في التجربة الديمقراطية، ولا سيما في بداياتها.

ينبغي ان لا نتوهم بان جلسة او اثنتين او اكثر سوف تنهي حالة الارتياب، مهما بالغنا في كشف الاوراق والتصارح. فالريبة من الجينات الوراثية الاساسية في السياسة، كل سياسة بلا استثناء، ولهذا قال علماء السياسة بان العلاقة بين الحكومة والمعارضة، محكومة اساسا بالشك وليس بالثقة، بل ان العلاقة بين اطراف الحكومة نفسها، سواء بين السلطات الثلاث، او بين مراتب البيروقراطية المختلفة لا تخلو من قدر من الشك، يزيد او ينقص بحسب درجة التفاهم واختلاف الظروف والاحوال.
ما ينبغي السعي اليه اذن ليس التناغم القلبي والانسجام الكامل، فهو ليس من الامور الضرورية في السياسة.

ما نحتاجه على وجه التحديد هو درجة متقدمة من التفاهم والتوافق على الخطوط الاساسية للسياسة، اي قبول كل من اطراف اللعبة الديمقراطية ببعض مرادات الآخرين كي نتوصل الى صفقة تحقق حدا وسطا بين توازنات القوى الواقعية وحاجات المجتمع السياسي. هذا التوافق يتطلب انفتاحا متبادلا كما يتطلب وضع اوراق اللعبة جميعها فوق الطاولة وليس تحتها، اي جعل السياسة المشتركة شفافة ومكشوفة لجميع اطرافها.

نفهم ان كشف اوراق السياسة ليس من التقاليد الراسخة في مجتمعنا العربي، ونفهم ان التكتم هو صفة ملازمة للعمل السياسي في المجتمعات التقليدية، ولهذا فان دعوتنا هذه لا ترمي الى القفز على الواقع القائم او انكاره، بل التأكيد على الحاجة الى علاج تدريجي يقوم على تفهم كل طرف من اطراف العملية الديمقراطية لحاجات الآخر، كمقدمة لا بد منها للتوصل الى توافقات على السياسة المشتركة التي تحظى بالمشروعية ودعم الجميع.

ليس من الصحيح مطالبة طرف واحد بتقديم تنازلات كاملة دون مقابل، وليس من الصحيح دعوته للانقلاع الفوري من تقاليد مترسخة، بل ان مثل هذه المطالبات قد تعزز الارتياب الذي نطمح الى الخلاص منه. الصحيح في اعتقادنا هو الاقرار بالمشكلة والعمل على تفكيكها تدريجيا، خطوة مقابل خطوة، وتنازلا مقابل تنازل. من نافل القول ان الوصول الى حياة ديمقراطية كاملة ليس قرارا ينفذ بين يوم وليلة، بل عملية طويلة يحتاج اولها الى قرار، لكنها في جميع المراحل تحتاج الى عزم كما تحتاج الى صبر.
صحيفة الأيام البحرينية      23 / 1 / 2007م

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...