03/01/2006

ان تكون عبدا لغيرك

كلنا يريد الحرية وكلنا يخاف منها.  نريد التحرر من سيطرة الاقوياء ومن الانظمة الضيقة النظر ، ونرى ان من حقنا ان نعيش كما نريد. لكن ، حين يأتي وقت التطبيق ، ولا سيما حين يمارس غيرنا حريته على نحو يخالف ما ألفناه وما نرغب فيه ، فاننا نشعر بالقلق وقد نكتشف في الحرية التي طالبنا بها ، جوانب مرعبة  تبرر لنا التراجع عن ذلك المطلب ، وربما التنازل عن حريتنا الخاصة.
نريد مثلا التمتع بحرية التعبير عن ارائنا من دون قيود. نريد ان يسمع الاخرون ما نقول في الصحافة والمجالس العامة والتلفزيون. لكن حين يأتي شخص آخر ويوجه الينا سهام نقده ، الى اشخاصنا او معتقداتنا او مواقفنا الاجتماعية ، فاننا ننظر اليه كتهديد ونتعامل مع ارائه كما لو كانت اعلان حرب. في حقيقة الامر فان ما فعله ذلك الشخص لم يكن سوى ممارسة لحق سبق لنا ان مارسناه او طالبنا به. 
بكلمة اخرى فان مشكلتنا مع الحرية تكمن في اننا نريدها لانفسنا فقط وليس لنا ولغيرنا في الوقت نفسه. يضيق شخص عادي مثلي بآراء الاخرين ويتمنى لو كان بيده القوة لمنع تلك الاراء البغيضة. ولو حصلت لي هذه القوة في يوم من الايام ، فلعلي لا اتردد في تحقيق تلك الامنية ، اي حرمان الغير من حرية التعبير عن ارائهم المزعجة. واذا لم تحصل لي تلك القوة ، فقد ابحث عن وسيلة اخرى مثل توجيه السباب الى ذلك الشخص واتهامه في دينه او اخلاقه او امانته او وطنيته ، على طريقة العربي القديم الذي لم يجد عزاء حين سرقت جماله سوى الشتيمة : "اوسعتهم سبا وراحوا بالابل".
ثمة اسباب متعددة لهذا السلوك الملتبس ، تاريخية واجتماعية وسياسية. ولعل ابرزها هو افتقار تراثنا الثقافي الى مفهوم يشبه مفهوم الحرية الذي نتداوله اليوم. وحسب تعبير آية الله شبستري ، الفقيه الايراني المعاصر ، فان مفاهيم مثل الحقوق الفردية والحريات المدنية ، هي جديدة تماما في ثقافتنا الدينية وقد اكتشفناها فقط حين اتصلنا مع الغرب[1]. صحيح انك قد تجد في تراثنا الديني اشارات الى حقوق طبيعية للانسان ، ومن بينها مثلا حرية اختيار دينه واختيار طريقته في الحياة. لكن هذه الاشارات لم تتحول الى فلسفة عامة في حياة المجتمع وفي علاقة الافراد مع بعضهم.
قامت فلسفة الحرية في الغرب على استقلال الفرد بنفسه ، وتحرره من تدخل أي طرف خارجي في صياغة حياته ، سواء كان عائلته او مجتمعه او حكومته. وقيل بناء عليه ان علاقة الفرد مع مجتمعه علاقة تعاقدية ، ومثل ذلك علاقة المجتمع مع الدولة. وعلى هذا الاساس جرى قصر تدخل المجتمع في حياة الفرد ، وتدخل الدولة في حياة المجتمع ، على الحد الادنى الذي يوافق عليه الفرد. 
ونتيجة لهذا ، اعتبر الدين والثقافة والسلوك الشخصي ونمط المعيشة ، امورا شخصية لا يحق للمجتمع او الدولة فرضها على الافراد. وذلك لان الافراد ارادوا ان يتحرروا من تدخل غيرهم في هذه الامور. ارادوا ان يعبدوا ربهم بالطريقة التي يرونها مناسبة ، وان يفكروا ويعبروا عن افكارهم الى المدى الذي تصله عقولهم ، وان يعيشوا حياتهم من دون انشغال بما يعجب فلانا او يرضي علانا. 
في حقيقة الامر فان الحياة والدين والثقافة لم تعد عبئا ثقيلا على الانسان ، بل ممارسة حرة مريحة. ولهذا فان المسلم الذي يعيش في الغرب ، لا يجد عسرا في التعبير عن دينه او رأيه ، او اختيار لباسه او نمط معيشته او العمل الذي يلائم خبراته.
اما في بلاد المسلمين ، فلا يستطيع المسلم ان يجاهر برأي يخالف الراي السائد ، او يلبس لباسا يخالف العرف السائد ، او يعمل عملا يخالف التنميط السائد. في نهاية المطاف فان حياة الانسان تتحول الى عبء عليه ، ولا بد ان يتكلف حتى يرضي الناس ويسلم من السنتهم او ردود فعلهم. الناس يريدونك ان تكون مثلهم ، تقول ما يقولون وتفعل ما يفعلون ، لان الجميع متفق على ان الفرد غير موجود ، واذا وجد فلا قيمة له ولا اعتبار. الجماعة هي الموجود الوحيد المعتبر ، وعلى كل فرد ان يذوب فيها او يعتزل.
نعود الى مقالة شبستري ، الذي يرى ان المسلمين قد تعارفوا على القبول بمفهوم الحقوق الفردية والحريات المدنية ، لان الفقهاء – بعضهم على الاقل – قد اقر بها ، فدخلت في النطاق المعرفي الديني وان لم يكن لها اصل راسخ في ماضيه. وهذا الاقرار يمثل خطوة اولى في طريق تحويلها من فكرة عامة غائمة الى اصل من اصول حياتنا وفلسفة تقوم عليها ثقافتنا ونظرتنا الى انفسنا والى الناس والعالم المحيط بنا. 
الحقوق الفردية والحريات المدنية تعني – في جانبها الفلسفي – ان كل انسان حر:  يولد حرا ويبقى حرا ، حرية لا يستطيع احد مهما بلغ شأنه ان يسلبها منه او يستنقصها او يحددها. هذه الحرية ليست فقط حرية الانسجام مع الاراء السائدة وانماط المعيشة المتعارفة ، بل هي في الاساس حرية اختيار هذه الاراء والانماط ، فلو اراد شخص ان يخالف المجتمع ، كأن يغير معتقداته ، او اراءه ، او انتماءه ، او طريقة حياته  ، فذلك كله حق طبيعي له.
لكل انسان الحق في اختيار الحرية او اختيار العبودية ، وبطبيعة الحال فان غالبية الناس يأبوا ان يكونوا عبيدا لغيرهم ، لكنهم يستمرئون العيش كأتباع ، تبعية لا تختلف – من حيث الجوهر – عن العبودية. وقد يرون في هذا القدر من العبودية راحة نفس او سعادة او مصلحة. هم احرار في ان يفعلوا هذا لانهم احرار في اختيار نوعية حياتهم ، وغيرهم – بنفس القدر - حر في مخالفة هذا السبيل ولنفس الاسباب. تلك هي اولا واخيرا فلسفة الحرية.

[1] محمد مجتهد شبستري: الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية (2011) http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_8707.html
   الايام - الاسبوع الاول من يناير 2006

مقالات ذات علاقة


 ان تكون عبدا لغيرك

20/12/2005

الجدل المذهبي والعاب الفيديو


 ~بعض الدعاة ، من الشيعة والسنة ، حول الجدل المذهبي الى حرب واستثمرها لكسب المال والشهرة}


اريد الاشادة هنا بشجاعة الشيخ حسن النمر ، الفقيه الشيعي السعودي ، الذي اعلن صراحة انه يحرم ويجرم شتم صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام ، رغم انه لا يعتقد بعصمتهم ولا يمنع نقد التجربة التاريخية التي خاضوها . وبهذه المناسبة فاني اشيد ايضا بشجاعة فقيه سعودي آخر هو الشيخ حسن الصفار ، الذي سبق الى اعلان مثل هذا الموقف . ويتمتع كلا الرجلين بمصداقية تضفي اهمية خاصة على اقواله . فكلاهما مشهود له بسعة العلم ويحمل لقب حجة الاسلام ، وكلاهما يتمتع بنفوذ بين قومه ، وبثقة كبرى المرجعيات الدينية ، كما يحظى الصفار باحترام كبير بين شيعة العالم .
وتكمن اهمية تصريحات الرجلين في الظرف الخاص والمكان الذي شهد اعلانها . خلال السنوات الثلاث الاخيرة تبلور بين السعوديين ، الشيعة والسنة ، شعور عميق بان عليهم وضع حد للجدل المذهبي السقيم الذي اضر بوحدتهم الوطنية واوشك في الوقت نفسه ان يقوض أخلاقياتهم الدينية .
منذ زمن طويل تحول الجدل المذهبي الى تجارة رابحة لعدد من الرجال ، من الشيعة والسنة . وكان من الامور المعروفة في مجتمعات الخليج ان اقرب الطرق الى الشهرة هو خوض هذا النوع من الحروب الوهمية . فالداعية الابرع في اصطناع القصص حول فساد عقيدة الطرف الاخر ، هو الاقدر على النفاذ الى قلوب الناس . وكانت الكتب الاكثر رواجا هي تلك التي تسرد الجدالات التاريخية والمعاصرة بين الفريقين.
في الحقيقة فان كلا من الطرفين ، الشيعة والسنة ، كان قد تصور نفسه يخوض حربا ضروسا في الدفاع عن عقيدته . لكنها لم تكن – في حقيقة الامر – سوى حرب رمزية ، فيها من الوهم كثير ومن الحقيقة اقل القليل. فهم لا يتجادلون حول تطوير بلادهم ، ولا حول مستقبل اطفالهم ، ولا يختلفون على سبل التحول الى مجتمع صناعي ينافس المجتمعات المتقدمة ، ولا يناقشون سبل تطوير العلم والمعرفة في مجتمعاتهم ، ولا يطرحون ابدا اي مسألة تتعلق بسبل النهوض الحضاري واكتساب القوة الذاتية . بل ينصب همهم كله على اثبات صحة او بطلان ما جرى قبل اربعة عشر قرنا من الزمن ، وتحديد المسؤول عن تلك الحوادث التي مضى زمنها ومات اصحابها وأكل عليها الدهر وشرب كرات ومرات ، ولم يعد لها من وجود في واقع الناس ، سوى الوجود الرمزي اذا لم نقل الوهمي.  بكلمة اخرى فان هؤلاء الناس مشغولون بحروب بين كائنات رمزية ، لها مسميات ولها عناوين ، لكن ليس لها وجود مادي في الواقع . حروب يستوى فيها النصر والهزيمة ، فلا المنتصر رابح ولا المهزوم خسران . ولهذا السبب بالذات فان قادة تلك الحروب وجنودها لا يكلون عنها ولا يملون منها ، فهي اشبه بالعاب الفيديو التي يستمتع بها الاطفال ايما متعة فينتصرون او ينهزمون دون ان يتحركوا من اماكنهم .  
video gaming, video games
 لكن اخطر ما في الجدالات المذهبية هو انها تولد او تعزز ثقافة الاقصاء ، التي تقود بالضرورة الى احتقار الطرف الاخر وفي مرحلة اعلى الى تكفيره ، واخيرا الى استباحة دمه . وما جرى في الجزائر في اوائل التسعينات ، وبعدها في افغانستان واليوم في العراق هو مثال على النتائج الكارثية لمثل هذه الثقافة البائسة .

منذ العام 2003 شهدت المملكة العربية السعودية ظهور تيار جديد يضم عددا بارزا من رموز النخبة الثقافية والسياسية وقادة الرأي ، تيار يدعو الى صياغة جديدة للعلاقة بين الاطياف المتعددة ، المذهبية والثقافية ، التي يتشكل منها المجتمع السعودي ، علاقة تقوم على احترام التنوع والتعدد الذي لا يخلو منه اي مجتمع والتاكيد على الشراكة المتساوية للجميع في التراب الوطني .


وكما جرت العادة فقد ارتاب كثير من الناس ، في هذا الطرف او ذاك ، في اول الامر ، في مصداقية هذه الدعوة وجدواها ، وبدأ بعضهم يتحدث عن خطوط حمراء وصفراء لا يمكن عبورها . وكما هي العادة ايضا فان تجار الخيبة قد رفعوا اصواتهم بالتحذير من مفاسد الحوار بين الطرفين وخطره الداهم على عقائد الناس . لكن مع استمرار الحوار الايجابي وشجاعة الرجال والنساء الذين شاركوا فيه ، فقد نجج الطرفان في ايصال شريحة واسعة من الجمهور الى فهم مشترك ، فحواه ان الجغرافيا قدر ، فما دمنا موجودين معا على ارض واحدة فلا يمكن لاحدنا ان ينفي الاخر او ينكره او يتجاهله . وان الاخوة والمحبة هي السبيل الوحيد لكي نعيش في امان وسلام ، ولكي تكون حياتنا ومستقبل اطفالنا اكثر جمالا وازدهارا .

في هذا المجال فان جانبا كبيرا من الفضل يرجع الى مبادرة الملك عبد الله بتاسيس مركز الحوار الوطني الذي احتضن حوارات متعددة ساهمت في تظهير هذا التيار الاصلاحي وتطوير طروحاته وعرضها على الملأ . كما اشير الى الدور الحيوي الذي لعبته جريدة "الوطن" في تجاوز الاوهام الموروثة في الصحافة المحلية التي دأبت على اغفال التعدد الواقعي في الاراء والتوجهات والانتماءات . قامت جريدة "الوطن" خلال السنوات الثلاث المنصرمة بالتاكيد على تعددية المجتمع السعودي ودعت الى الاقرار به واحترامه وفسح المجال امام تعبيراته الايجابية .

تصريحات الفقيهين الفاضلين النمر والصفار ، قابلتها دعوات متعددة من جانب كتاب ودعاة بارزين وشخصيات سياسية محترمة من السنة ، تدعو الى التخلص من القيود الثقيلة التي ورثناها من اسلافنا ، القيود التي تشدنا الى الماضي وتحجب عنا رؤية الحاضر والمستقبل . القيود التي تعيدنا الى الجدال والصراع حول الاموات والمقابر كلما اردنا ان نتحدث او نمد ايدينا الى الاحياء .

يمكن لنا كسعوديين ان نقوم بدور ريادي في اعادة الصفاء واللحمة الى عالم الاسلام . قد لا نستطيع الوصول الى وحدة اسلامية كاملة . لكن ليس ثمة شك في ان تحررنا من الصراع المذهبي والجدل حول الاموات ، سوف يسمح لنا بتوجيه اهتمامنا الى اعادة بناء حياتنا والتفكير جديا في اصلاحها وتطويرها . اي ان نفكر في بناء المستقبل بدل انشغالنا النفسي والثقافي في الجدل حول الاموات. (تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) . صدق الله العظيم.

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...