29/04/2015

أمين معلوف... الهويات القاتلة




بين ملايين البشر الذين عايشوا تجربة اصطراع الهويات في حياتهم ، ثمة عدد  ضئيل جدا حول هذه التجربة الى مختبر للتفكير والتأمل العلمي والابداعي. كان أمين معلوف واحدا من هذه الاقلية. ولد معلوف في جبل لبنان ، وحين اندلعت الحرب الاهلية هاجر الى فرنسا حيث اصبح واحدا من أعلام الادب فيها. "كثيرا ما سألني الناس: هل تشعر انك فرنسي ام لبناني ، وكنت اجيب: هذا وذاك". هكذا افتتح معلوف كتابه الشهير "الهويات القاتلة". لكن الامر لا يقف عند هذا الحد. بالنسبة لمفكر وأديب مثل معلوف ، فالقضية تتجاوز وصف الذات او تحديد المكان الاجتماعي ، الى التأمل العميق في معنى ان تكون اثنين في واحد ، او ان تنتمي لاثنين في آن واحد. ذلك ان الاثنين مجرد عنوان لسلسلة من التنوعات تختفي احيانا تحت عباءة الثنائية المدعاة ، لكنها تصارعها في احيان اخرى.

 وجد معلوف صراعا كامنا في داخل عائلته التي انقسمت بين من يتبع  الديانة الكاثوليكية ومن اختار نقيضها البروتستنتي ، في ظرف الصراع الشديد بين الفريقين. ثم وجد نفسه مثقفا عربيا يستند الى تاريخ ثقافي يشارك فيه مليار مسلم ، لكنه ليس واحدا منهم على وجه الدقة. فلو صادفه احد هؤلاء اثناء الحرب الاهلية التي ابعدته عن لبنان ، فلربما قتله على الهوية. لكن الناس في اوربا والعالم لا يعرفون هويته المسيحية قدر ما يعرفونه كمفكر عربي. هذا يجعله بالضرورة مصنفا ضمن العالم الاسلامي واطاراته المعرفية والثقافية.

عالج معلوف اشكاليات الهوية وأزماتها في العديد من أعماله البحثية والابداعية ، وركز خصوصا على العوامل السلبية في تشكيل هوية الفرد ، اي تصنيف الاخرين للجماعة التي ينتمي اليها ، والتي قد تكون دينا او عائلة او قبيلة او عرقا او لونا ..الخ. ينتمي هذا التصوير الى حقل التحليل النفسي الذي يعد اليوم واحدا من المقاربات الرئيسية في الابحاث الخاصة بالهوية. وهو يمزج – عمدا – بين ما يختاره الفرد ولو مرغما ، وبين ما يتسرب الى اعماقه دون وعي منه.  حسب اريك اريكسون ، عالم النفس الامريكي الشهير ، فان تشكل الهوية لا يتخذ مسارا مستقيما. تتفاعل خلفية الفرد الاجتماعية/العائلية مع ما يواجهه في محيطه ، فتنتج تعارضات وتأزمات ذهنية او نفسية في بعض الاحيان ، وتنتج  نجاحات في احيان أخرى. يمكن القول ان الامر يتعلق بهويتين تتصارعان ، هوية يريدها المجتمع وهوية يرفضها ، وعلى الفرد ان يتحمل عبء التوفيق بين الهويتين على نحو يجعله قادرا على الاندماج في عالم ذي معنى.

تاثير العوامل السلبية يزداد قوة حين يكون الفرد او الجماعة التي ينتمي اليها في ازمة او صراع مع الاطراف الاخرى ، سيما حين تضعه اقداره في الجانب الضعيف الذي يتعرض للعدوان. في ظروف الازمة يميل الناس الى استبعاد المختلفين عنهم ، حتى لو لم يكونوا مخالفين لهم. هذا يؤدي بالضرورة الى بروز الانقسامات الاجتماعية على نحو لا يكون ملحوظا جدا في الظروف الاعتيادية.

السؤال الذي طالما شغل أمين معلوف هو: الى أي حد يستطيع الفرد التحكم في تشكيل هويته. بعبارة اخرى: الى اي حد نصوغ شخصياتنا والى اي حد يصوغنا المجتمع والمحيط. وهل نستطيع فعلا كشف وتحديد الصفات والسلوكيات والمتبنيات التي تشكل – في نهاية المطاف – هويتنا الشخصية ، اي كشف ما اذا كنا نختارها بوعي ام انها تتسرب الينا من محيطنا الاجتماعي ونحن غافلون. ما ندعي اننا نريده ونعمل له ، وما ندعي انه مثالنا الذي نريد ان نكونه ، هل هو اختيارنا ام هو الذي اختاره لنا الاخرون وسربوه الى عقولنا؟.

نعلم بطبيعة الحال ان هوية الفرد غالبا ما تكون متحولة ، تتغير عناصرها بين زمن وآخر. لكن السؤال المهم هو: من يتحكم في هذا التحول ، وهل يجري في الوعي ام اننا نتحول تبعا لتحولات المحيط.

الشرق الاوسط 29 ابريل 2015

 http://goo.gl/WJbfkU

22/04/2015

اسطورة الحرب النظيفة


لا اعرف اسم الذي ابتكر مصطلح "الحرب النظيفة". لكن الشركات المنتجة لما يسمى بالقنابل الذكية والصواريخ الموجهة ، بذلت جهدا كبيرا لترويج الفكرة في العقد الاخير من القرن المنصرم. كان صامويل كوهين مخترع القنبلة النيوترونية قد اطلق عليها اسم "القنبلة النظيفة" فهي لا تدمر جسرا ولا سيارة بل تكتفي بقتل البشر والحيوانات والشجر وكل كائن حي يتعرض لشعاعها. انها ببساطة تخلص الدنيا من الاحياء (ربما كان كوهين يعتبرهم قذرين او سببا لقذارة العالم).
كانت حرب الخليج الثانية (1991) اول حرب حقيقية تشهد استعمالا فعليا للقنابل الذكية. ثم ظهرت كسلاح رئيسي لدى القوات الامريكية في اجتياحها للعراق عام 2003. وقد اجتهد صناعها يومئذ في الترويج لفكرة انها نظيفة بمعنى انها تصيب الاهداف المحددة على نحو دقيق يحول دون اصابة المدنيين والمنشآت غير المستهدفة سلفا. كان هذا الاسم ردا على الصحفيين وناشطي المجتمع المدني الذين حاولوا ثني البيت الابيض عن تكرار ما جرى في حرب فيتنام من تدمير كارثي للغابات والمدن فضلا عن المباني الحكومية.
لكني اظن ان مصطلحات مثل قنبلة ذكية وحرب نظيفة تحمل من السخرية اكثر مما توحي بأساطير القوة وعظمة التكنولوجيا. لا توجد حرب نظيفة في واقع الامر. السلاح الاكثر ذكاء هو السلاح الاكثر تدميرا. ربما يكون نظيفا بمعنى انه لا يؤذي مستعمله او لا يستتبع اعباء اخلاقية فيما لو انحرف عن هدفه. لكن الحرب هي الحرب ، يكفي ذكر اسمها عن وصفها او شرح ما تحمله في طياتها من مآس وآلام.
قد يكون هذا الكلام مفيدا قبل ان تبدأ الحرب. أما وقد اشتعل اوارها ، فهو انشاء غير ضروري ولا يستحق التوقف.  ما يهم فعلا في ظرف الحرب هو التأمل في نهايتها. ربما كان وينستون تشرشل ، الزعيم البريطاني ، هو الذي قال يوما ان الحرب اداة للتفاوض مع الخصم ، وليست هدفا بذاتها. هذه الفكرة اصبحت اليوم من بديهيات السياسة. فالحكومات تحارب كي تعيد تشكيل المشهد السياسي في البلد المستهدف ، او كي تفرض على خصومها تعديل مواقفهم على النحو الذي ينسجم مع خطة سلام جرى اعدادها سلفا.
المسألة المهمة اذن تتعلق بالغايات المستهدفة من وراء الحرب. فيما يخص عاصفة الحزم ، فالواضح الآن انها قد انجزت هدفها الابرز ، الذي افترض انه تعديل موازين القوى على الساحة اليمنية ، على نحو يسمح باطلاق حوار سياسي متكافيء بين الاطراف المتصارعة على السلطة هناك.
صحيح ان السلطة الرسمية لم تستطع حتى الان استعادة موقعها في الميدان. لكن الأطراف الاخرى ، واعني خصوصا الحوثيين وحزب المؤتمر والحراك الجنوبي استوعبت على نحو واضح الحدود القصوى لقوتها الميدانية وما يمكن ان تنتجه من وقائع سياسية او مكاسب سياسية. فكرة "حدود القوة" هي احدى التعبيرات المشهورة التي تساعد في تفسير العلاقة بين الوزن الميداني والوزن السياسي لكل طرف. وفحواها ان ما يهم في نهاية المطاف ليس عدد الجنود الذين تحركهم ، وليس مساحة الارض التي تسيطر عليها ، بل اعتراف الاطراف الاخرى المنافسة بحقك في استعمال هذه العناصر كخلفية ومبرر لمطالبك السياسية. ما لم يعترف الاخرون بان هذه مبررات مقبولة فانها لا تنتج اية مفاعيل سياسية.
المفاوضات هي الطريق الوحيد لترجمة المكاسب الميدانية الى مكاسب سياسية ، اي حصة في سلطة يعترف بها الاخرون. نعلم ان تحالف عاصفة الحزم لا ينوي حكم اليمن ، وهو لا يستطيع ذلك على اي حال. ان الغرض الوحيد الذي يبدو معقولا هو اعادة تشكيل المشهد السياسي على نحو متوازن ، يسهم في تحييد المخاطر التي يمكن ان تنجم عن انفراد طرف معين بمصادر القوة والقرار ، المخاطر على البلد نفسه وعلى الامن الاقليمي.
من هنا فان التحالف مطالب باطلاق خطة تحول سياسي ، تستثمر منجزات الحرب في اعادة بناء يمن جديد اكثر استقرارا وقدرة على النمو ، وحكومة قادرة على التحكم في مجريات الاوضاع على ارضها. هذا يعني على وجه التحديد مشروعا تأسيسيا تتفاوض عليه اطراف الصراع كي تنتقل الى مرحلة السلم واعادة البناء.
من المهم ان يبادر التحالف الى طرح خطة من هذا النوع ، لأن الظرف مناسب لاستقطاب الدعم الدولي. لو تأخر الامر فربما تطرح مشروعات موزاية من جانب قوى اقليمية او دولية ، قد لا تلبي بالضرورة الحاجات التي تسببت في اطلاق الحرب.
ربما نتحدث عن "الحرب النظيفة" في معنى اختصار المسافة بين بداية الحرب وبداية المفاوضات. اي في معنى اختصار الخسائر المادية والبشرية ، والتعجيل في ترجمة المنجز الميداني الى مساومة سياسية ، تعيد السلم الاهلي والاستقرار الاقليمي. هذا لا يجعل الحرب نظيفة تماما ، لكنه – على اقل التقادير – يخفف من أكلافها الانسانية.
الشرق الاوسط 22 ابريل 2015
http://goo.gl/xcz5XH


المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...