بين
ملايين البشر الذين عايشوا تجربة اصطراع الهويات في حياتهم ، ثمة عدد ضئيل جدا حول هذه التجربة الى مختبر للتفكير
والتأمل العلمي والابداعي. كان أمين معلوف واحدا من هذه الاقلية.
ولد معلوف في جبل لبنان ، وحين اندلعت الحرب الاهلية هاجر الى فرنسا حيث اصبح
واحدا من أعلام الادب فيها. "كثيرا ما سألني الناس: هل تشعر انك فرنسي ام
لبناني ، وكنت اجيب: هذا وذاك". هكذا افتتح معلوف كتابه الشهير "الهويات القاتلة". لكن الامر
لا يقف عند هذا الحد. بالنسبة لمفكر وأديب مثل معلوف ، فالقضية تتجاوز وصف الذات
او تحديد المكان الاجتماعي ، الى التأمل العميق في معنى ان تكون اثنين في واحد ،
او ان تنتمي لاثنين في آن واحد. ذلك ان الاثنين مجرد عنوان لسلسلة من التنوعات
تختفي احيانا تحت عباءة الثنائية المدعاة ، لكنها تصارعها في احيان اخرى.
وجد معلوف صراعا كامنا في داخل عائلته التي انقسمت بين من يتبع الديانة الكاثوليكية ومن اختار نقيضها البروتستنتي ، في ظرف الصراع الشديد بين الفريقين. ثم وجد نفسه مثقفا عربيا يستند الى تاريخ ثقافي يشارك فيه مليار مسلم ، لكنه ليس واحدا منهم على وجه الدقة. فلو صادفه احد هؤلاء اثناء الحرب الاهلية التي ابعدته عن لبنان ، فلربما قتله على الهوية. لكن الناس في اوربا والعالم لا يعرفون هويته المسيحية قدر ما يعرفونه كمفكر عربي. هذا يجعله بالضرورة مصنفا ضمن العالم الاسلامي واطاراته المعرفية والثقافية.
عالج
معلوف اشكاليات الهوية وأزماتها في العديد من أعماله البحثية والابداعية ، وركز
خصوصا على العوامل السلبية في تشكيل هوية الفرد ، اي تصنيف الاخرين للجماعة التي
ينتمي اليها ، والتي قد تكون دينا او عائلة او قبيلة او عرقا او لونا ..الخ. ينتمي
هذا التصوير الى حقل التحليل النفسي الذي يعد اليوم واحدا من المقاربات الرئيسية
في الابحاث الخاصة بالهوية. وهو يمزج – عمدا – بين ما يختاره الفرد ولو مرغما ،
وبين ما يتسرب الى اعماقه دون وعي منه.
حسب اريك اريكسون ، عالم النفس الامريكي
الشهير ، فان تشكل الهوية لا يتخذ مسارا مستقيما. تتفاعل خلفية الفرد
الاجتماعية/العائلية مع ما يواجهه في محيطه ، فتنتج تعارضات وتأزمات ذهنية او
نفسية في بعض الاحيان ، وتنتج نجاحات في
احيان أخرى. يمكن القول ان الامر يتعلق بهويتين تتصارعان ، هوية يريدها المجتمع
وهوية يرفضها ، وعلى الفرد ان يتحمل عبء التوفيق بين الهويتين على نحو يجعله قادرا
على الاندماج في عالم ذي معنى.
تاثير
العوامل السلبية يزداد قوة حين يكون الفرد او الجماعة التي ينتمي اليها في ازمة او
صراع مع الاطراف الاخرى ، سيما حين تضعه اقداره في الجانب الضعيف الذي يتعرض
للعدوان. في ظروف الازمة يميل الناس الى استبعاد المختلفين عنهم ، حتى لو لم
يكونوا مخالفين لهم. هذا يؤدي بالضرورة الى بروز الانقسامات الاجتماعية على نحو لا
يكون ملحوظا جدا في الظروف الاعتيادية.
السؤال
الذي طالما شغل أمين معلوف هو: الى أي حد يستطيع الفرد التحكم في تشكيل هويته.
بعبارة اخرى: الى اي حد نصوغ شخصياتنا والى اي حد يصوغنا المجتمع والمحيط. وهل
نستطيع فعلا كشف وتحديد الصفات والسلوكيات والمتبنيات التي تشكل – في نهاية المطاف
– هويتنا الشخصية ، اي كشف ما اذا كنا نختارها بوعي ام انها تتسرب الينا من محيطنا
الاجتماعي ونحن غافلون. ما ندعي اننا نريده ونعمل له ، وما ندعي انه مثالنا الذي
نريد ان نكونه ، هل هو اختيارنا ام هو الذي اختاره لنا الاخرون وسربوه الى
عقولنا؟.
نعلم
بطبيعة الحال ان هوية الفرد غالبا ما تكون متحولة ، تتغير عناصرها بين زمن وآخر.
لكن السؤال المهم هو: من يتحكم في هذا التحول ، وهل يجري في الوعي ام اننا نتحول
تبعا لتحولات المحيط.
الشرق
الاوسط 29 ابريل 2015