08/10/2020

ايزايا برلين ... حياته وفكره

 

بقلم جوشوا شيرنيس و هنري هاردي . ترجمة توفيق السيف

نشر في مجلة حكمة 8 ديسمبر 2020

فهرس:

1. حياته. 4

1.1- تحولاته الفكرية. 5

2- فلسفة المعرفة والعلوم الانسانية. 8

2.1 مفهوم الفلسفة. 8

2.2 القضايا الاساسية: المعرفة ، الميتافيزيقا ، والمنطق.. 12

2.3- التمييز بين العلوم والعلوم الإنسانية. 14

الحس التاريخي... 16

2.4- بين جبر التاريخ وارادة الانسان. 18

3-تاريخ الافكار. 22

4-الفكر الاخلاقي وتعددية القيم. 26

4.1 -"التعددية القيمية" وفقا لتعريف برلين.. 29

4.2- التعددية القيمية قبل برلين.. 32

4.3- ظهور تعددية القيم في أعمال برلين.. 34

4.4- تعددية القيم بعد برلين : بعض الجدالات.. 36

تعريف النسبية. 37

دعوى موضوعية القيم. 40

دعوى تفرد القيم. 41

4.5- كيف نختار بين القيم اذن؟. 42

التعددية والليبرالية. 43

5-الفكر السياسي.... 44

5.1- مفهوم الحرية. 44

5.2-الحرية والتعددية. 48

5.3 - القومية. 51

5.4- القيادة واتخاذ القرار. 52

5.5- الاخلاق السياسية: العنف ، الغايات والوسائل.. 54

6- الخلاصة. 57

ببليوغرافيا 61

 ايزايا برلين واحد من أبرز المفكرين البريطانيين في القرن العشرين. ويذكر عادة بثقافته الواسعة والمتنوعة ، وكفاءته العالية في النقاش ، فضلا عن اسلوب كتابته الذي يجمع بين اللغة الجميلة والايجاز وعمق الفكرة في آن واحد. وقد تركت اعماله تأثيرا واضحا في الفلسفة السياسية المعاصرة وتاريخ المعرفة.  ان مقالته المسماة "مفهومان للحرية = Two Concepts of Liberty" لا تزال من اكثر النصوص تاثيرا في الدراسات الخاصة بموضوع الحرية ، رغم مرور ما يزيد عن ستة عقود على ظهورها. ويتفق المعجبون به ونقاده على أن تمييزه البارع بين الحرية الإيجابية والسلبية ، يشكل نقطة انطلاق رئيسية للمناقشات النظرية حول معنى وقيمة الحرية السياسية[1].


يوم توفي في 1997 قالت الصحافة البريطانية ، ان برلين كان واحدا من أفضل المتحدثين غزارة في المعلومات ، وقدرة على ربط الافكار والتحليل الفلسفي للمشكلات ، وكان الناس ينتظمون صفوفا للحصول على مقعد في محاضراته العامة[2].

في محاضرة القاها سنة 1988 قدم ايزايا برلين رؤية ، قال انها تمثل الخيط الذي يجمع بين تأملاته لما يزيد عن ستين عاما ، بدءا من قراءته الأولى لرواية ليو تولستوي المشهورة "الحرب والسلم"[3]. تتعلق هذه الرؤية بالدوافع الكامنة في اعماق النفس الانسانية ، والتي تجعل البشر يرتكبون اعظم الآثام ، ثم يكررونها مرات عديدة. لكنهم في نهاية المطاف يتمردون على ميلهم الغريزي للاثم والعدوان ، كما يتمردون على نوازع اليأس والاحباط والسخط ، ليتجهوا - من ثم – الى طريق الصلاح والاصلاح. المسألة في رأيه هي اكتشاف انك لا تستطيع الحصول على الخيرات كلها ، كما لا تستطيع تقديم حل شامل ونهائي لكافة المشكلات. هناك دائما حاجة ماسة لاختيار ما تحتاجه (او ماتريده) اكثر من غيره ، وهذا سيكلفك – بطبيعة الحال – التخلي عن الشيء الآخر الذي يأتي في المرتبة الثانية او الثالثة من حاجاتك.

كنت في وقت ما – يقول برلين - مقتنعا بالفرضية القديمة ، التي فحواها استحالة التضارب بين الغايات الحقيقية ، بين الاجوبة الصحيحة للاشكاليات المركزية في الحياة. كانت هذه الفرضية مؤسسة على حقيقة  فلسفية وبدت معقولة جدا ، لكنها تناثرت كالزجاج بعدما قرأت مكيافيلي[4].

1. حياته

ولد ايزايا برلين في 1909 بمدينة ريغا ، عاصمة لاتفيا ، وهي ميناء على بحر البلطيق ، يخترقها نهر دوجافا ، قبل ان يصب في البحر. بعد الثورة الروسية (1917) تعرضت عائلته للاضطهاد ، ربما لاصولها اليهودية او لكونها من الطبقة الثرية ، فهاجرت الى بريطانيا في 1921. ويقول برلين ان العنف الشديد الذي شهده خلال الثورة الروسية ، شكل جانبا هاما من هواجسه المستقبلية ، ولا سيما نفوره التام من العنف السياسي ، والسلطات غير المقيدة والنظم الشمولية "لقد زرعت مشاهد القسوة في ذهني رعبا من العنف سيرافقني طوال حياتي"[5].

تنوع الميول الثقافية لبرلين ، يظهر في تعدد اللغات التي اتقنها ، من الروسية الى الانجليزية والفرنسية والالمانية والايطالية ، فضلا عن معرفته الاجمالية باللغات العبرية واللاتينية واليونانية القديمة.[6] اما حياته الاكاديمية ، فقد ارتبطت بجامعة اكسفورد التي درس فيها الفلسفة والتاريخ واللغات الكلاسيكية ، ثم عمل محاضرا واستاذا للفلسفة.

خلال الحرب العالمية الثانية ، عمل برلين في خدمة المعلومات البريطانية BIS في نيويورك ، وهي هيئة اسستها الحكومة لتثبيط دعوات الحياد في الحرب في الولايات المتحدة. ثم عمل في السفارة البريطانية في واشنطن. وبعد نهاية الحرب ، زار الاتحاد السوفيتي ، واتصل بالادباء المعارضين للحكم الشيوعي ، وبينهم خصوصا الشاعرة المعروفة آنا اخماتوفا (1889-1966) والروائي بوريس باسترناك (1890 - 1960). ويقال ان هذه اللقاءات قد عمقت معارضة برلين للشيوعية ، كما ساهمت في تشكيل همومه الفكرية المستقبلية.

خلال فترة الحرب وبعيدها ، واصل برلين القاء المحاضرات والتدريس ، لكن بشكل متقطع. ثم عاد الى اوكسفورد في مطلع الخمسينات ، كي يكرس حياته من جديد للعمل الفكري. وفي هذه الفترة تحول اهتمامه عن الفلسفة الى تاريخ الافكار ، وعلى وجه الخصوص تاريخ الفكر الروسي ، تاريخ الماركسية والنظريات الاشتراكية ، اضافة الى التنوير وناقديه. في هذا الوقت ايضا ، بدأ في نشر مقالات تناولت التحولات السياسية ، الايديولوجيا الحاكمة ، والحياة الثقافية في الاتحاد السوفيتي. وقد حظيت هذه المقالات بشهرة عريضة.  ويبدو انها منحته احتراما في المجتمع الاكاديمي ، وأهلته للحصول على منحة للتفرغ العلمي ، كي يتعمق اكثر في مجال اهتمامه الجديد ، اي تاريخ الافكار ، حيث سيذهب بعيدا عن التيار العام للدرس الفلسفي المتعارف في اكسفورد.

في 1957 اختير برلين استاذ "كرسي شيشل Chichele Professorship " للنظرية السياسية والاجتماعية بجامعة اكسفورد. وكانت محاضرته الافتتاحية هي"مفهومان للحرية" التي اشرنا اليها آنفا. وقد واصل برلين هذا العمل طيلة العقد التالي ، حيث أصبح بعدها الرئيس المؤسس لكلية ولفسون – اكسفورد ، حتى تقاعده في 1975. وخلال هذه السنوات عمل أيضا كأستاذ زائر بجامعة مدينة نيويورك. وفي 1974 تولى رئاسة الاكاديمية البريطانية حتى 1978.

تم تكريم برلين من جانب الحكومة في وقت مبكر ، فحصل على وسام الفارس في 1957 ، كما حصل على وسام الاستحقاق في 1971. وفي الجانب العلمي ، حصل على جوائز انجيلي ، ايرسموس ، وليبينكوت ، لعمله في ناريخ الافكار ، كما حصل على جائزة اورشليم لدفاعه المتواصل عن الحريات المدنية.

كتب برلين العديد من المقالات ، ويرجع الفضل الى هنري هاردي واخرين في جمعها وطباعتها معا ، ويوجد الان 14 مجلدا من مقالات وكتب برلين ، اضافة الى طبعات جديدة من كتابين ، سبق ان نشرهما برلين نفسه[7].

1.1- تحولاته الفكرية

تأثر برلين بالفيلسوف الالماني المعروف ايمانويل كانط (1724 - 1804) وخلفائه. وفي بواكير حياته الاكاديمية ، تأثر بتيار  "المثالية البريطانية = British Idealism" ولا سيما شروحات توماس هيل غرين وبرنارد بوسانكويت  ، اضافة الى فرانسيس برادلي. وكان الاتجاه العام للحركة اقرب الى رد فعل على تيار الفلسفة التجريبية والنفعية. في وقت لاحق تحول ايزايا برلين الى المدرسة الواقعية ل جون كوك ويلسون وجورج ادوارد مور. ومع شروعه في تدريس الفلسفة ، انضم الى جيل جديد من التجريبيين المتمردين ، الذين تبنى بعضهم نظريات الوضعية المنطقية لحلقة فينا والكتابات المبكرة ل  فيغنشتاين. بين هؤلاء نذكر بالخصوص الفرد اير. 

كان برلين متشككا في الوضعية المنطقية ، لكن ارتيابها في الدعاوى الميتافيزيقية أثر عليه ، كما جذبه أيضا اهتمامها الشديد بالطبيعة وسلطة المعرفة ، وهي قضايا شكلت محور انشغالاته الفكرية. تلك الشكوك والانشغالات ، إضافة إلى ميله لمعرفة التاريخ ، شكلت دافعا قويا عند برلين لدراسة أعمال الفلاسفة التجريبيين في بريطانيا ، ولاسيما الاسقف جورج بيركلي وديفيد هيوم ، الذين شكلت اعمالهما موضوعا لمحاضرات عديدة ، القاها برلين خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين.

ويذكر في العادة رجلان ، تركا أثرا عميقا في حياة ايزايا برلين وانشغالاته الفكرية. أولهما معلمه وصديق عائلته سولومون راشميليفيتش (1892-1953) ، وهو يهودي غامض هاجر من روسيا ودرس الفلسفة في جامعات المانيا. وعلى يديه تعرف برلين على تاريخ الفلسفة الالمانية  ، كما تعرف على ابرز الصراعات الايديولوجية في التاريخ الروسي.  وحسب تقدير احد الكتاب فان توجيهات راشميليفتش هي التي شكلت "الجانب الروسي" في شخصية برلين الفكرية ، كما غذت ميوله الاخلاقية ، تمرده على الدين ، التقاليد ، التعصب ، فضلا عن ايمانه العميق بقوة الافكار وتاثيرها في حياة البشر. نستطيع القول ان هذا المعلم قد ساعد برلين في توليف شخصية تنطوي في داخلها على ابعاد متعارضة: اي الرؤية المتشككة ، والى حد ما المحافظة لفيلسوف بريطاني ، من جهة ، والرؤية الشديدة الحماس لمثقف روسي راديكالي ، من جهة ثانية.[8] 

اما الرجل الثاني الذي ترك أثرا عميقا على التوجهات الفكرية لايزايا برلين ، فهو روبن جورج كولينجوود ، وهو فيلسوف ومؤرخ وعالم آثار بريطاني مهتم بالفلسفة التحليلية ، وهي مدرسة كانت لاتزال في طور التكوين يومذاك ، وتدعو للتخلص من الافتراضات التجريبية ، والتحول المنطقي والمعرفي للميتافيزيقا ، من دراسة الوجود (الانطولوجيا) الى دراسة ما اسماه بالفرضيات المطلقة ، او المباديء الارشادية الناظمة للبحث العلمي بكافة اشكاله.[9]

حضر برلين دروس كولينجوود في فلسفة التاريخ بجامعة اكسفورد سنة 1931. ويعتقد انه صاحب الاثر الحاسم ، في توجه برلين الى دراسة تاريخ الأفكار ، التي شكلت جوهر انشغالاته العلمية ، كما ساهم في تعزيز قناعة برلين ، باهمية المفاهيم والتصنيفات الأولية ، التي يستعملها الناس في تقديم وتحليل تجاربهم.

في 1939 صدر الكتاب الاول لبرلين ، وكان عنوانه "كارل ماركس حياته وبيئته". وخلال عمله في الكتاب ، في منتصف الثلاثينات ، تعرف برلين على اثنين من المفكرين الروس ، سيتركان أثرا عميقا في تفكيره ، هما  الكساندر هيرزن (1812-1870) وجورجي بليخانوف (1856-1918). كان هيرزن كاتبا وداعية سياسيا ، وتزعم تيار الفلاحين الشعبوي. وقد نسب برلين اليه العديد من معتقداته حول التاريخ والسياسة والأخلاق. أما بليخانوف فهو مفكر وكاتب معروف. ويقال انه افضل من قدم الفكر الماركسي لعامة القراء. ورغم معارضة برلين للماركسية الا انه اعجب بهذا الرجل كانسان وكمؤرخ للأفكار. وقد ساعدت كتابات بليخانوف في تعريف برلين على مفكري التنوير  الماديين ، الطبيعيين والتجريبيين. كما عرفته على نقادهم المثاليين والتاريخانيين. اضافة لهذا ،  كانت كتابات بليخانوف المصدر المبكر لمعرفة ايزايا برلين ، بالنقاشات السياسية التي كانت تدور في روسيا ، بين التيار الليبرالي ونظيره الراديكالي ، خلال السنوات الاخيرة من القرن التاسع عشر ، حتى اوائل القرن العشرين. ان تعرف برلين على هذه النقاشات الواسعة والمتنوعة ، كانت على الارجح عاملا مهما في انجذابه الى ، ومن ثم استغراقه في الحقل الخاص بفلسفة التاريخ ، إضافة الى اخلاقيات العمل السياسي.

خلال الحرب العالمية الثانية ، تراجع اهتمام برلين بالفلسفة ، وتحول الى تاريخ الافكار. هناك بطبيعة الحال عوامل متعددة ساهمت في تراجع شغفه بالفلسفة ، لعل ابرزها انشغاله بالعمل السياسي في الحكومة ، وقد اسلفنا الاشارة الى انه قضى جانبا مهما من سنوات الحرب في نيويورك وواشنطن ، الامر الذي ابعده عن زملاء الفلسفة في اكسفورد. لكن العامل الحاسم كما قيل ، هو لقاؤه مع هنري شيفر ( 1882-1964) استاذ المنطق في جامعة هارفارد ، الذي  اقنعه فيما يبدو بان حقل الفلسفة الصرفة مشبع ، بما يجعل من العسير جدا بروز نظريات جديدة تتمتع بالاصالة ، وهي في الوقت نفسه غير مسبوقة. بخلاف الحقول العلمية التي تشكل جسرا بين الفلسفة وغيرها من العلوم ، مثل المنطق وعلم النفس ، وهي حقول لازالت في حاجة الى المزيد من المعالجة والتنظير ، او ان الأصالة والتفرد ليست شرطا لبروز النظريات الجديدة في إطارها.

الحقيقة ان هذا اللقاء مع شيفر ، عزز شكوك برلين في قدرته الشخصية على ان يقدم شيئا يستحق الجهد في حياته الاكاديمية. ولعله أيضا قد اكتشف انه لم يكن شغوفا جدا بالفلسفة ، او انه لم يكن مؤمنا حقا برغبته في مواصلة هذا الطريق. خلص برلين الى ان رغبته في ان يقدم شيئا جديدا للعالم ، وان يتعلم شيئا مختلفا عما كان يعرف يوم بدأ حياته الاكاديمية ، رهن بالتحول النهائي الى حقل علمي جديد. وهكذا اتجه للتركيز على تاريخ الافكار ، وهو حقل مختلف نوعا ما عن عالم الفلسفة ، لكن برلين سيحمل معه الى حقله الجديد تلك المعرفة العميقة ، التي استقاها من حلقات الفلسفة ، فضلا عن معتقداته السياسية ، وكلاهما سيكون ذا أثر واضح على مقارباته لتاريخ الافكار ومعالجاته لقضاياه.

مع اوائل الخمسينات ، كانت المتبنيات المركزية لايزايا برلين قد اخذت شكلها الاولي ، متاثرة بالتجاذب بين انشغالاته الفلسفية المبكرة ، وبحوثه التاريخية ، اضافة الى التزاماته وهمومه السياسية والاخلاقية. ويمكن القول ان بعض رؤاه الاساسية كانت – في هذا الوقت – قد اكتملت ، وبقي غيرها في حالة تطور وتكامل. ان البحوث التي نشرها اواخر الخمسينات ، مثل "مفهومان للحرية" مثلت مناسبة لجمع وتعزيز مقولاته الفكرية. فيما يأتي من سنين سيكون مساره الرئيس قد تحدد ، ولذا سينصرف الى تصفية وتوضيح افكاره. لكن غالبيتها سيبقى كما هو ، ولن تتعرض لأي تغيير جوهري نتيجة التطورات الفكرية التالية.

مما سبق يظهر ان حقبة الحرب التي غيرت أشياء كثيرة في العالم ، تركت أثرها أيضا على انشغالات ايزايا برلين الفكرية. وامتد هذا التأثير الى معتقداته ومواقفه السياسية ، سيما بعد رحلاته الى الاتحاد السوفيتي ، ولقاءاته مع المفكرين المقموعين هناك. الواقع ان برلين كان على الدوام ليبراليا. لكن منذ منتصف القرن العشرين ، بات شديد الاهتمام بالدفاع عن الليبرالية في عمله الفكري. هذا الموقف مرتبط كل الارتباط بقناعات برلين الاخلاقية ، فضلا عن انشغاله الذهني بمسائل مثل طبيعة ودور القيم في حياة البشر.

في هذا السياق تخفف برلين من هموم السياسة ، وركز اهتمامه على تطوير رؤيته المتعلقة بتعددية القيم ، واختبار طبيعة العلوم الانسانية وتاريخ الأفكار  ، التي شكلت - منذ منتصف الستينات - محور اعماله الفكرية ، واستاثرت بمعظم ما كتب من مقالات ، ولاسيما نقد الرومانسيين والمحافظين/ الرجعيين للتنوير. 

2- فلسفة المعرفة والعلوم الانسانية

2.1 مفهوم الفلسفة

في بدايات اهتمامه بالفلسفة ، تعرف برلين على المثالية (مدرسة ايمانويل كانط[10]) والوضعية المنطقية (مدرسة ديفيد هيوم[11]). ويبدو ان كلا منهما قد أثار اهتمامه ، لكنه انتهى برفض مقولاته[12]. من خلال المدرسة المثالية ، تعرف برلين على الرؤية التي تعطي مكانا رفيعا للفلسفة بين بقية المعارف ، أي كونها قادرة على استنباط حقائق مجردة ، مطلقة ، أصلية وضرورية ، واعتبارها - بالتالي - أم العلوم جميعا   the queen of the sciences كما يقال. وفي مقابل هذه الرؤية ، تعرف - من خلال الوضعية المنطقية – على الرؤية الاختزالية ، التي تنكر محورية الفلسفة ، او قدرتها على توليد حقائق مطلقة. فاتباع هذا المذهب يضعونها في مستوى أدنى من العلوم الطبيعية. وربما اعتبروها - في أحسن الأحوال – خادمة لعلوم الطبيعة. بل ان بعضهم أخذ الأمر الى مستوى أدنى ، فاعتبر الاهتمام بالفلسفة علامة على السذاجة وعدم الثبات ، او عدم النضج الفكري.

بموازاة هذين الموقفين المتطرفين نسبيا ، تبنى برلين موقفا دفاعيا عن الفلسفة ، يجمع طرفا من كل من المدرستين. تبنى برلين الرؤية القائلة بالتمايز الأصلي بين العلوم الطبيعية ونظيرتها الانسانية ، وهي الرؤية التي تبناها رواد "الكانتية الجديدة" مثل فيلهلم فيندلباند وهنريش ريكارت ، اضافة الى فيكو وفيلهلم ديلتاي.  وقد صنف برلين الفلسفة ضمن العلوم الانسانية. لكنه – ضمن هذا الموقع – اعطاها مكانة فريدة.

السر في هذا يرجع الى اختلاف الوظيفة التي تؤديها الفلسفة في خدمة المعرفة. الباحثون في حقول العلم الاخرى ، يهدفون الى اكتشاف طرق فعالة لنيل المعرفة بالاشياء التي كرسوا انفسهم لمعرفتها. اما الفلسفة ، فهي تدور – كما يقول برلين - حول الاسئلة التي لا نملك جوابها في الوقت الحاضر ، بل ولا نعرف أيضا الطريق الذي يوصلنا الى الجواب او الاجوبة المحتملة[13].

في حالة الاسئلة التي تقع خارج نطاق اشتغال الفلسفة ، اسئلة الرياضيات او العلوم الطبيعية مثلا ، فاننا قد لا نعرف الجواب ، لكننا نعرف الطريق الذي يقودنا الى اكتشافه ، او الطريق المقبول من جانب غالبية الناس. من ذلك مثلا الاسئلة المتعلقة بحقائق تجريبية ، فجوابها قابل للكشف بواسطة الملاحظة. الاسئلة الاخرى يمكن ان يجاب عليها عن طريق الاستنباط ، والرجوع الى القواعد العامة المثبتة سلفا. هذا هو الحال مثلا في الرياضيات والنحو والمنطق الصوري. حين نواجه مسألة عسيرة في الرياضيات مثلا ، فاننا نبحث عن القواعد والتكنيكات التي نعلم سلفا انها يمكن ان تقودنا الى حل المسألة. اي اننا لا نعرف الجواب ، لكننا نعرف الوسيلة التي تمكننا من كشفه. 

رأى برلين ان الفلسفة اختارت لنفسها أسئلة من نوع خاص ومتميز. هذه الاسئلة ليست فقط مجهولة  الحل ، بل اننا لا نعرف ايضا الطريقة او التكنيكات التي ينبغي ان نسلكها في البحث عن الجواب ، كما اننا لا نعرف اي معيار نرجع اليه في التحقق من صحة الحل أو الحلول ، التي يمكن ان نتوصل اليها. هنا بعض الأمثلة على الفارق بين الاسئلة الفلسفية وغيرها[14]:

سؤال غير فلسفي:  ما هو مقدار الزمن اللازم لقطع المسافة الفاصلة بين النقطة أ والنقطة ب ؟

سؤال فلسفي: ما هو الزمن ، وما هو معناه؟

سؤال غير فلسفي: ما هو الجذر التربيعي للرقم 729؟

سؤال فلسفي: ما هو الرقم ولماذا نستعمله كمؤشر على القيمة؟

سؤال غير فلسفي: هل تعتقد هذه الجماعة او تلك بان كلا منا أخ للآخر؟

سؤال فلسفي: هل كل الناس اخوة

يربط برلين هذه الرؤية ، مع التمييز الذي قرره كانط بين "الحقائق في ذاتها matters of fact" وبين تلك البنى المفاهيمية والتصنيفات الذهنية ، التي تشكل ما يشبه اطارا ينظم الحقائق الواقعية ، فيحولها من عناصر منفردة الى اجزاء في مركب ، فتمسي مفهومة وذات معنى[15]. كون الفلسفة مشغولة اساسا في الاسئلة التي تبرز من خلال محاولاتنا لاضفاء معنى على تجاربنا ، يعني انها - اي الفلسفة - تقيم اعتبارا للمفاهيم والتصنيفات التي نستعملها لجعل تجربتنا قابلة للاستيعاب ، اي واضحة ، مبررة ، ومنظمة.

كان كانط قد اعتبر التصنيفات المفاهيمية التي تنظم خبراتنا وتجاربنا ، ثابتة/صلبة  وكونية. اما برلين فرآها  انتقالية ، أو مرنة ، انها تتفاوت فيما بينها في خصوص هذه السمات ، لكن على المستوى النظري – يقول برلين – فان كل التصنيفات التي نؤلفها خاضعة لعوامل التغيير ، من دون فرق بين واحدة والأخرى [16]. ليس ثمة تصنيف ، سابق للتجربة او مستقل عنها بشكل تام. نقول هذا مع العلم باننا نتعامل  مع بعضها براغماتيا ، فنجعلها ثابتة او صلبة  fixed، على المستوى الذهني او على مستوى الواقع او على المستويين معا.

السبب الذي دعا برلين الى معارضة رأي كانط ، يكمن في ملاحظته للتأثير المتبادل بين التجربة الانسانية ، وبين الرؤى والمفاهيم التي تقودها. رأى برلين اذن ان المفاهيم والتصنيفات التي نستعملها في فهم العالم من حولنا ، مشدودة برباط وثيق الى تجاربنا ، فهي تتفاعل مع التجربة ، تشارك في صياغتها ، كما تنفعل بتحولاتها ونتائجها. ومثلما تتنوع التجارب وتختلف بين زمن وآخر ، وبين مكان وآخر ، فكذلك المفاهيم الأولية/التصنيفات ، التي تتأثر بعوامل التحول في الواقع ، فتتغير بالتوازي مع ما يجري من تحولات على مسرح الحياة[17]. ان استيعاب هذه التصنيفات الاساسية للتجربة الانسانية ، مختلف عن تحصيل المعلومات التجريبية ، كما انه مختلف عن الاستدلال الاستنباطي deductive reasoning ، لأن التصنيف (او الرؤية الاطارية) فرضية أولية ، وهو سابق - منطقيا – على كل منهما.

موضوع البحث الفلسفي إذن هو دراسة "العدسات الفكرية" ، اي المنظار او النظارة التي نرى العالم من خلالها. ولأن هذه المناظير ، والتي اسميناها أيضا التصنيفات ،  بعضها على الأقل ، لا يبقى على حاله ، بل يتغير كلما مر الزمن ، فان آثار هذا التغير ينعكس على العلم الذي يدرسها اي الفلسفة ، فيتغير بالتوازي معها. ومن هنا فإن الفلسفة ،  بعضها على الأقل ، تأريخية بالضرورة ، ولا يمكن ان تبقى ثابتة وصلبة رغم مرور الزمن وتغير العالم.

من نافل القول ان تلك التصنيفات مهمة جدا ، في كل مقطع من تجربتنا الحياتية. وتبعا لها فإن البحث الفلسفي نشاط في غاية الأهمية ، حتى لو قيل انه يتسم بالتجريد والغموض ، الذي يجعل الاشتغال به حكرا على اقلية من اهل الفكر. تلبي الفلسفة حاجة إنسانية حيوية لا يمكن الخلاص منها ، حاجة لتعريف وتفسير العالم ، الذي تشكل الحياة في إطاره تجربة إنسانية متواصلة.

في سياق دفاعه عن الفلسفة ، يؤكد ايزايا برلين على فوائدها الاجتماعية ، حتى لو كانت غير مباشرة وغير ملحوظة جدا.  تتمتع الفلسفة بقابلية لتقييم النماذج والتصورات والفرضيات المسبقة ، المتجذرة في اعماق الذهن الانساني ، والتي تؤثر على تفكير الانسان وتسهم في تشكيل قناعاته الجديدة ، من دون ان يعي ذلك ، في غالب الاحيان. تسهم الفلسفة في فحص واختبار صلاحية هذه المخزونات ، تستكشف اخطاءها ، وتحدد الالتباسات التي يمكن ان تقود الى افهام خاطئة او ربما تعثر في التجارب.

تتسم الفلسفة بكون التمرد على المألوف والمتعارف ، جزء من طبيعتها. حين ينشط التفكير الفلسفي ، فان كل فرضية سائدة تصبح في دائرة السؤال. انها معارضة لكل التقاليد الصلبة ومثيرة للجدل. لكن هذا جزء لا يتجزأ من حقيقة كون الفلسفة أداة لتحرير الافكار والنفوس ، ولهذا فهي ذات قيمة ، بل ضرورة لا يستغنى عنها.

يخلص ايزايا برلين اخيرا ، الى تحديد غرض الفلسفة في "مساعدة البشر كي يفهموا انفسهم ، ومن ثم يديرون دنياهم بعيون مفتوحة وبصيرة واعية ، وليس كمن يضرب في الظلماء من دون بصيرة"[18]. 

2.2 القضايا الاساسية: المعرفة ، الميتافيزيقا ، والمنطق

قدم ايزايا برلين العديد من الاعمال التي تتمتع بقيمة استثنائية. بعضها مهم في ذاته ، وبعضها مهم بالقياس الى اعماله الاخرى ، او تحولاته الفكرية على وجه الخصوص. وبين النوع الثاني ، نشير الى  ما يمكن اعتباره العمل الاكثر اهمية بين اعماله  التي تصنف في اطار"الفلسفة الصرفة" ، اعني به "التحول المنطقي logical translation" ففي مقاله الذي حمل الاسم ذاته[19] انتقد برلين الفرضية القائلة بأن كافة المقولات/الاستنتاجات ، لا تكون اصيلة وذات معنى او تدعي الحقانية ، الا اذا كانت قابلة للترجمة الى نمط واحد من القضايا الصادقة[20]. وشدد على ان النموذج القائل بصنف احادي للقضايا الصادقة ، وهم خادع.

شخص برلين مقاربتين متعارضتين ، بناء على هذه الفرضية الخاطئة: المقاربة الاولى انكماشية deflationary تستهدف اختزال كافة القضايا الى قضية واحدة صادقة. وتبعا لهذا فان التحليل في الرؤية الظاهراتية يسعى لاختزال كل المقولات (عن الأجسام الفيزيائية مثلا) الى مقولات حول البيانات الحسية التي تدرك في لحظتها.

اما المقاربة الثانية ، فهي ، على عكس الاولى ، تميل للتضخم والانبساط inflationary. وهي تفترض وجود عناصر او تكوينات تناظر كل المقولات ، ومن ثم فهي تخلق أشياء او تؤكد على وجود أشياء ، يعتقد برلين انها غير موجودة على الاطلاق. ان الخطأ في كلا المقاربتين ، يكمن في المطالبة بالاستيعاب القسري لكافة القضايا في نوع واحد او قضية واحدة.

قال برلين ان هذه المطالبة ليست مبنية على ادراك سليم للواقع ، قدر ما  هي انعكاس لحاجة نفسية الى اليقين ، اضافة الى تاثير ما اسماه ب "المغالطة الايونية = Ionian Fallacy"[21] اي الفرضية القائلة بان كل شيء مؤلف من ، او قابل لان يختزل الى ، او يفهم في اطار نوع واحد او قضية واحدة.

يؤكد برلين على انه ليس ثمة معيار وحيد ، لاكتساب المعنى او اكتشاف المعنى في الاشياء. كما لا يوجد صنف من المعرفة يستحيل العبور منه وتجاوزه. ان محاولة الوصول الى اليقين ليس سوى هزيمة للذات: لو قرر أحد ما ان لا يقول شيئا ، الا بعد التحقق من صحته ، وزوال اي شك في احتمال خطئه ، فان قرارا كهذا يعادل حكم الانسان على نفسه بالصمت التام ، وعدم قول اي شيء على الاطلاق. ان اي قول ، عن اي شيء في العالم ، يتطلب استدعاء شيء آخر غير التجربة الفورية. يقول برلين في هذا الصدد:

غالب الامور اليقينية التي تقوم عليها حياتنا ... الاعم الاغلب من انماط الاستدلال التي نبني عليها معتقداتنا ، او التي ينبغي ان نستعملها في تبرير تلك المعتقدات ... غير قابلة للاختزال الى مخطط مفاهيمي استقرائي او استنباطي ، ولا توليفا من الاثنين ... ثمة شبكة شديدة التعقيد ، عناصرها كثيرة جدا ، وليس من السهل عزلها عن بعض وفحصها واحدة واحدة... نحن نتقبل النسيج بكليته ، مركبا - كما هو دائما – من عدد لا يحصى من الخيوط ، من دون ان نتوقف لحظة عند حقيقة انه لا يمكن – ولو من حيث المبدأ - فحصه واختباره في كليته. لان النسيج الكلي هو ما نبدأ معه وهو ما ننتهي معه. ليس ثمة "نقطة ارخميدية Archimedean point" خارج هذا النسيج ، يمكن ان نقف عندها كي نقوم بفحص عام لذلك الكلي وتحليله... الاحساس بالنسيج العام للتجربة .. هو ذاته غير منفتح على الاستدلال الاستنباطي او الاستقرائي ، كي نستعمل ايا منهما في تحليله: ذلك ان كلا المنهجين يعتمد عليه[22].

في قلب فلسفة برلين ، كان ثمة وعي بالتعقيد والتنوع الكبير للواقع ، الذي ليس بوسعنا الادعاء باكثر من اننا نحاول البدء بفهمه. الخيوط المتنوعة التي تؤلف تجربة الانسان ، كثيرة جدا ، دقيقة جدا ،  قصيرة العمر وغامضة جدا عند اطرافها ، بحيث يصعب ادماجها ضمن صورة كلية للتجربة. تلك الخطوط تتقاطع مع بعضها ويخترق واحدها الآخر في ذات الوقت ، في مستويات متعددة. ولهذه الاسباب جميعا ، فانه سيكون من غير العملي محاولة تمييز اي من تلك الخطوط عن البقية ، او تصنيفها او تثبيت حركتها وفصلها الى حجيرات مختلفة.[23]

لدينا اذن قضيتان / مقولتان تتصل كل منهما بالاخرى على نحو وثيق. اولاهما ان اليقين المطلق أمثولة مستحيلة. (كتب برلين يوما انه اذا كان عمله قد اظهر اي "ميل منفرد" فسيكون هو  الريبة في مزاعم امتلاك المعرفة النهائية بقضايا الحقيقة او المبدأ ، في أي مجال من مجالات السلوك الانساني)[24].

اما المقولة الثانية فهي انه ليس كل شيء يمكن او ينبغي ان يختزل او يربط الى امثولة منفردة او نموذج او نظرية او معيار. تشكل هذه المقولة وسابقتها  جوهر فلسفة ايزايا برلين. كلاهما يحتل مكانة المركز في رؤيته للغة والمعرفة. وهما يحملان ذات القدر من الاهمية بالنسبة لرؤيته في الاخلاق وفلسفة الانسانيات.

2.3- التمييز بين العلوم والعلوم الإنسانية

آمن برلين بالفردانية ، وتأثر بالكانتية الجديدة ، وعارض التنميط القسري لانماط الحياة والسلوك الانساني ، وهو ما اسماه احد الباحثين "ضد-البروكروستية = anti-Procrusteanism [25]. كما قاوم المحاولات الايديولوجية والسياسية ، لحشر البشر في نماذج تفسيرية او سلوكية محددة ، أو فرض معايير قسرية عليهم. هذه القناعات ساهمت في تشكيل رؤيته لما بات يدعى عادة ب "الانسانيات" او "العلوم الانسانية" ، وعلاقتها بالعلوم الطبيعية.

اختار برلين مسمى "الانسانيات" كعنوان صنف تحته كافة حقول البحث المتعلقة بسلوك الانسان وتجربته. فهي تضم كثيرا مما يطلق عليه "العلوم الاجتماعية" ، اضافة الى ما كان في العادة يصنف ضمن حقل الانسانيات.

انتقد برلين الرؤية الوضعية التي تصنف العلوم كاشكال نسقية/باراديمية من المعرفة ، وان "الانسانيات" يجب ان تتبع ذات المعيار وتكيف نفسها وفقا لمتطلباته. ويماثل موقف برلين هذا رؤية الفيلسوفين جيامباتيستا فيكو (1668 –1744) وفيلهلم ديلتاي (1833-1911) ، وفحواها ان الانسانيات تختلف جذريا عن العلوم الاخرى ، في طبيعتها وفي نوعية المعرفة التي تحاول التوصل اليها (وهذا الاخير راي هنريش ريكرت). وبسبب هذا الاختلاف ، فان البحث في الانسانيات يعتمد مناهجا ومعاييرا مختلفة عن تلك المتعارفة في العلوم الاخرى.

من الواضح ان كلا من نوعي العلم يدرس مجالا مختلفا عن الآخر. موضوع البحث في الانسانيات هو العالم الذي أنشأه البشر لانفسهم ومعيشتهم. بينما تركز العلوم الطبيعية والتجريبية على الطبيعة والعالم المادي المتصل بها.

** لكن لماذا يتسبب هذا في اختلاف طريقة البحث هنا وهناك؟.

احد الاجوبة هو ان العالمين مختلفان جذريا عن بعضهما البعض. لكن ايزايا برلين فضل الحجة القائلة بان عالمي الانسان والطبيعة ، يجب ان يدرسا على نحو مختلف ، بسبب الاختلاف في علاقة المراقب او الدارس بموضوع الدراسة.  

بيان ذلك: اننا ندرس الطبيعة من خارجها ، بينما ندرس الثقافة من داخلها. حين نتحدث عن الانسانيات ، فان طرق التفكير التي يتبناها الباحث ، ونسيج حياته الشخصية ، اضافة الى الوجوه العديدة لتجربته الحياتية ، تشكل كلها جزء من موضوع البحث. بينما الامر مختلف في العلوم الطبيعية. فالبحث هنا يستهدف فهم الطبيعة بشكل موضوعي ، ومن دون انفعالات او مشاعر خاصة تجاه موضوع البحث. هنا ايضا يجب على الباحث ان ياخذ بالادلة القاطعة قدر الامكان ، وليس المسلمات او التوافقات العامة ، اذا كانت دلالة كل منهما مختلفة عن الاخرى.

اما في الانسانيات فلا يمكن للباحث ان يتصرف على هذا النحو الخالي من المشاعر. ان دراسة حياة البشر تبدأ بالضرورة من فهمنا للبشر الاخرين ، اي فهم الدوافع التي تحركهم والمشاعر التي يعبرون عنها. نحن نقيم هذا الفهم على اساس تجربتنا الخاصة ، التي تنطوي بالضرورة على مسلمات عامة common-sense assumptions او فرضيات يعمل الناس بموجبها ، باعتبارها صحيحة او مقبولة. في العموم نحن نستعمل هذه المسلمات ، لتاطير تجربتنا في نماذج تجعلها متماسكة ومفهومة. قد تكون هذه النماذج غاية في الدقة ، وقد لا تكون كذلك ، لكننا في كل الاحوال نستطيع الحكم على دقتها ، بمراقبة مدى استيعابها للتجربة التي نعرفها.  لكننا في كل الاحوال لا نستطيع فصل انفسنا تماما ، عن الفرضيات التي تشكل ارضيتها. (بطبيعة الحال فان عالم الانسان يمكن ايضا ان يكون موضوعا للدراسة العملية البحتة - خارج اطار الانسانيات - لكنه سيكون بحثا غير مكتمل).

ثمة وجه آخر للاختلاف بين الانسانيات والعلوم ، كما لاحظ برلين ، هو ان الاولى تركز اهتمامها على فهم خصوصيات الحياة البشرية بحد ذاتها. في المقابل تركز العلوم على وضع قوانين عامة تفسر جانبا كاملا من الظواهر. ثم أن العلوم تهتم بالانماط ، بينما تهتم الانسانيات بالافراد. ويركز علماء الطبيعة على الاشباه ، ويبحثون عن خطوط التوافق التي يمكن ان تشير الى قاعدة. اما دارسو الانسانيات ، بعضهم على الاقل ، ولاسيما المؤرخين ، فانهم يركزون على الاختلافات.

كي تكون مؤرخا جيدا ، فانت بحاجة للتركيز على اشخاص معينين أو على احداث او حالات بما هي ، وليس كأمثلة او عينات تستمد منها قاعدة عامة[26]. لا ينبغي للانسانيات ان تحاكي العلوم في البحث عن قوانين تفسر افعال الانسان أو  تتنبأ بأمثالها. بل عليها ان تركز اهتمامها على فهم كل ظاهرة انسانية بعينها ، في اطارها الخاص وتفردها. حين نعمل في العلوم الطبيعية مثلا ، فسوف نعتقد انه من العقلاني ان نضع ثقتنا في القوانين العامة بدل الظواهر المحددة. لكن حين ندرس الانسانيات فسوف نأخذ بالخيار المعاكس تماما. لو ادعى احد انه شهد ظاهرة تعارض القوانين المثبتة للعلم ، فسوف نبحث عن تفسير يساعدنا على التوفيق بين ذلك الفهم وبين العلم ، ان لم نجد اي طريق للتوفيق بين المتعارضين ، فقد نخلص الى ان ذلك الشاهد ربما كان مخدوعا.

الحس التاريخي

هذا شيء لا نفعله حينما ندرس التاريخ. فحين يحصل تعارض بين قاعدة مثبتة وبين مشاهدة جديدة ، فاننا ننظر في ظواهر محددة ونبحث عن تفسير لها في ذاتها[27]. هناك اكثر من طريق لتحدي الواقع ، يقول برلين ، ليس من الصحيح علميا ان نتحدى ان لم يكن لدينا مبرر قوي ، منطقي او تجريبي.  لكن من ناحية اخرى ، فانه ليس من الصحيح في دراسة التاريخ ان نغفل او نحرف رؤيتنا الى احداث بعينها او اشخاص او أزمات ، بحجة قوانين او نظريات او مباديء مستمدة من حقول أخرى ، منطقية او اخلاقية او ميتافيزيقية او علمية[28]. من المهم – يقول برلين – ان يتحلى الباحث بما أسماه "الحس التاريخي".

 يمكن تعريف هذا المفهوم بانه فهم التناسب بين عناصر الواقعة التاريخية. كي يكتسب المؤرخ هذا الحس ، فانه يحتاج لاستيعاب حقيقة ان تيار التاريخ يسير في اتجاه احادي[29]. ذلك الاحساس بالواقعة التاريخية ، يمكن الدارس من فهم الحقائق والحوادث التي يدرسها ضمن صورة اوسع ، قد لا تكون مكتملة او ظاهرة لحظة الدراسة. من يملك الحس التاريخي سوف لن يقع مثلا في خطأ غير منطقي ، بل سخيف ، كالقول مثلا بان مسرحية "هاملت" كتبت في ديوان جنكيز خان. من يملك حسا بالتاريخ ، لن يقول كلاما كهذا.

لا يتضمن الحس التاريخي معرفة الاحداث ، فهذه يمكن الحصول عليها بالادوات التجريبية ، بل الاحساس – عند دراسة الفعل الانساني - بما هو معقول وممكن وما هو غير معقول او ممكن ، ما هو متين ومتماسك وما هو هزيل وغير متلائم. ليس هناك تمهيد مختصر لمثل هذه المعرفة. التفكير التاريخي يشبه الى حد كبير تشغيل العرف common sense بحيث يتضمن تنسيج مزيج متنوع من المفاهيم والقضايا propositions  المنفصلة واستخدامها معا في تقويم حالة بعينها ، او في التعامل معها على احسن ما نستطيع. واضح ان هذا يختلف عن تطبيق القوانين والصيغ الجاهزة. ان القدرة على القيام بهذا موهبة تجريبية ، قد نسميها البداهة او ملكة الحكم او ملامسة الواقع[30].

يعتمد فهم التاريخ على معرفة الانسانية ، معرفة مستمدة من التجربة المباشرة ، التي لا تقتصر على التأمل في احوال الذات ، بل – بشكل رئيسي – على التفاعل مع الآخرين. هذا هو الاساس لمعرفة دواخل الحياة العميقة وتخيل مساراتها التي لا تظهر للناظر السطحي ، انها بعبارة اخرى ، الطريقة التي تمكن الباحث من استيعاب الاجزاء المنفردة في سلوك البشر ، باعتبارها أجزاء في منظومة ، وعلامات تشير الى نسق من الحراك الذي ينبغي فحصه ومتابعته... ثم شرحه في صيغة قوانين عامة. قد لا تكون هذه القوانين واضحة جدا، وقد لا تكون مرتبة في منظومة دقيقة ، لكنها مع ذلك ضرورية كمدخل لفهم واقعي للمسار الاعتيادي لحياة البشر ، الشخصية او الاجتماعية[31]. ان تحدي التاريخ يكمن في حاجة الافراد لفهم تجاربهم الخاصة ، ثم العبور منها ومحاولة رؤيتها كمثال على الظواهر الاوسع نطاقا ، اي باعتبارها منطلقا يبدأ منه في محاولته لاستيعاب وفهم السلوك البشري.

فهم التاريخ يستدعي اعادة بناء الماضي ، اعادة تشكيل الاحداث التي ندرسها ، ليس وفقا لمفاهيمنا وتصنيفاتنا الخاصة ، بل وفقا لما ينبغي ان يكون قد حدث فعلا ، في نظر اولئك الذين شاركوا في تلك الاحداث. تحتاج دراسة التاريخ اذن معرفة الكيفية التي كان يبدو عليها الوعي عند اشخاص اخرين ، في ظروف واحوال غير ظروفنا. هذا قد يتطلب ان نضع انفسنا في محلهم ، ثم نركز خيالنا على تصور كيف كان العالم المحيط سيبدو لهم ، وكيف كانوا سيرون الحوادث ويتفاعلوا معها. نحن نحاول العودة الى الماضي ولو تخيليا من اجل ان نتحرر من تاثيرات مفاهيمنا وتصنيفاتنا الخاصة ، اي اننا نبدأ بها ، لكننا نحاول استخدامها في فهم التجارب الاخرى ، وهذا يتطلب طبعا العبور منها الى ما وراءها ، بعد ان نستخلص ما نستطيع من العبر من فحصها.

من دون القدرة على تقمص الادوار وتخيل العالم الذي ندرسه ، العالم الذي زالت معالمه وتفصيلاته ، لا يمكن لنا الحصول على رؤية واضحة عن الماضي او الحاضر ، عن انفسنا او عن الاخرين[32]. اعادة بناء التاريخ والتفسيرات تنطوي على "دخول في" الدوافع ، المباديء ، الافكار والمشاعر التي حملها الاشخاص المرتبطون بالحدث التاريخي موضع الفحص.

** هل ياترى يستطيع الباحث ان يفعل هذا؟.

** الجواب: انه ممكن شرط توفر القدرة على معرفة كاملة وعميقة ، مثلما تعرف شكل فلان او وجهه.[33]

2.4- بين جبر التاريخ وارادة الانسان

اراد برلين صياغة وعي بالتاريخ ، متصل بتحليل اخلاقي وجمالي. في هذا التصور لا يظهر البشر كمخلوقات منفردة ، تهيم في الفضاء ، بل ككائنات نشطة تعي وتسعى لغايات ، وتعمل على تشكيل حياتها وحياة الآخرين ، كائنات ذات مشاعر وعواطف ، تتأمل وتتخيل وتبدع الأشياء ، في تفاعل وتواصل لا ينقطع مع بقية  الكائنات. انها – بكلمات موجزة – منخرطة في تجارب من كل الاشكال التي نعرفها لاننا نشارك فيها ، مثلما يشاركون ، فهم – مثلنا - جزء من التجربة الحياتية ، وليسو ا مجرد مراقبين من الخارج[34]. بناء على رؤية برلين فان فلسفة التاريخ لا تتصل فقط بالابستمولوجيا ، فثمة ايضا رابط وثيق يشدها الى الاخلاق.

وقد أثارت كتابات برلين في هذا المجال ، وفي العلاقة بين التاريخ والعلوم ، مجادلات كثيرة ، لكن اكثر ما  أثار للجدل هو مناقشاته حول مسألة الجبر وحرية الارادة ، التي اتخذت - على يديه - مضمونا اخلاقيا لا يحتمل الشك. في كتابه "الحتمية التاريخية Historical Inevitability"[35] قدم برلين مجادلة شديدة ضد "مبدأ الجبر Determinism" اي الرؤية القائلة بأن الانسان لا يختار  أسلوب حياته ، ولا يملك الارادة الحرة التي تخوله فعل ما يشاء. ان افعال الانسان – وفق هذه الرؤية – بل وحتى افكاره ، مقررة سلفا ومفروضة عليه ، من جانب قوى مهيمنة عليه وعلى عالمه. 

كما جادل بنفس الشدة ضد الحتمية التاريخية. وهي الرؤية التي فحواها ان كل ما يجري من أحداث في سياق الحركة التاريخية ، هو  تمظهر لقضاء سابق. هذه احداث وقعت لانها مقررة ، وقد كانت ستحدث على اي حال. التاريخ يجري في مسار محدد سلفا ولا يمكن تغييره. الممكن فقط – وفقا لهذه الرؤية – هو اكتشاف المسار المحدد للتاريخ وفهمه وشرحه ، في اطار قوانين التطور التاريخي. عارض برلين هذه التصورات بشدة ، كما ركز على نقد الاعتقاد القائل بان التاريخ يخضع لسيطرة قوى خارقة او غير مرئية ، تتجاوز قدرة البشر على المقاومة ، فضلا عن تحييدها او التحكم فيها.

لم يقل برلين - بضرس قاطع - ان الرؤية الجبرية determinism  باطلة. بدلا من ذلك قرر ان قبولها ، يستدعي تحولا جوهريا في اللغة والمفاهيم التي نستعملها حين نفكر في حياة البشر ، وعلينا بالخصوص ان نرفض مبدأ المسؤولية الاخلاقية للفرد. ان امتداح شخص او لومه ، او اعتباره مسؤولا عن شيء ما ، يعني بالضرورة افتراض انه يملك قدرا من السيطرة على افعاله ، وانه – تبعا لهذا – يستطيع اختيار هذا الطريق او عكسه. 

اما حين يكون الفرد مسيرا بالكامل ، مسيطرا عليه من جانب قوى خارقة ، فلن يكون ثمة معنى لامتداحه ان احسن او لومه ان اساء. ان معاتبة فرد مسير غير مختار ، يشبه تماما لوم الشخص اذا اعتلت صحته ، أو امتداحه  ان أطاع قانون الجاذبية الأرضية. فضلا عن ذلك ، قرر برلين ان قبول الرؤية الجبرية ، اي التخلي التام عن مفهوم الارادة الانسانية الحرة ، سوف يؤدي الى انهيار تام لكل نشاط عقلاني ذي معنى ، مما عرفناه وعرفه غيرنا من البشر.

تشكل هذه الفكرة خطا يربط فكر ايزايا برلين ، الى شروحات ايمانويل كانط في المعرفة الانسانية ، والتي اسماها "الثورة الكوبرنيكية"[36]. ترجع أهمية هذا التفسير الى إقرار كانط ، الكلي والأول من نوعه ، بالمساهمة الضرورية لعقولنا في ادراك العالم غير الانساني. وهي الحركة التي كررها برلين حين أكد اننا لا نستطيع ، في اي وقت بعينه ، بل في اي وقت على الاطلاق ، لا نستطيع الا ان نفكر وان نحاول فهم النوع الانساني من خلال سلوكه وتجربته.

نحن لا نفهم البشر خارج اطار التصنيف المفهومي الذي يساعدنا في تشخيص ما نريد معرفته فيهم. حين نفكر في شخص مثلا ، فاننا نختار اولا عددا من التصنيفات (التي يقابل كل منها مفهوم محدد) ثم نضع الشخص او الجماعة التي نريد فهمها في هذا الصنف ، او نقارنها بالمحتوى المفترض لهذا الصنف. تضم هذه الاصناف على سبيل المثال: المجتمع ، الحرية ، الاحساس بالوقت والتغيير ، المعاناة ، السعادة ، الانتاجية ، الحسن والقبيح ، الصواب والخطأ ، الاختيار ، الجهد ، التوهم .. الخ. هذه المفاهيم ليست موضوعات  للاستقراء والافتراض. بل هي – بطريقة ما- مدخل لفهم الانسان. حين تفكر في شخص ما باعتباره انسانا ، فسوف تجلب – بالضرورة - كل الافكار السابقة الذكر ، الى واجهة الذهن كي تشارك في تشكيل صورة هذا الانسان. ومن هنا ، فسوف يكون من الغريب ان تصف شخصا ما بانه انسان ، لكنك تقول في الوقت نفسه ان فكرة الاختيار او فكرة الحقيقة ، لا تعني له شيئا او لا صلة لها بوصفه كانسان. سيكون هذا التعبير متناقضا ، لأنه لا يمكن ان يكون انسانا من دون ان تكون تلك الافكار ذات مدخلية تامة ، في تكوين صورته وحقيقته كانسان. حين أذكر صفة الانسان فاني لا أعنى التعبير اللفظي الفارغ ، بل التعبير الذي يشير مباشرة الى الصورة التي في ذهني ونفسي ، عن هذا الكائن الذي هو انا او الذي يشبهني. هذا امر لا يمكن قوله دون التفكير فيه[37].

الحرية هنا تعني المفهوم الذي يحظى بأهمية مركزية ، اعني به "الارادة الحرة". لا يمكن لنا ان نفكر في السلوك البشري ولا نعتبره تجربة جديرة بالتأمل ، الا اذا تصورناه كفعل مسبب ومقصود ، اي ثمرة اختيار حر لفاعله. كوننا نتمتع بالارادة الحرة ليس فرضية علمية ، بل هي شرط مسبق كي نجرب انسانيتنا ، وحين نتخلى عن الاعتقاد بها او نحرم منها ، فسوف نكون قد دمرنا رؤيتنا للعالم وصلتنا به.

يعتقد ايزايا برلين ان الايمان بالحتمية التاريخية ، متأثر بحاجات سيكولوجية ، وليس نتيجة تأمل عقلاني او انعكاسا لحقائق معروفة. وهو يرى ان هذا الايمان ربما يقود الى منزلقات خطرة اخلاقيا وسياسيا. فهو يبرر المعاناة ويقوض الاحترام اللازم للخاسرين في مسار التاريخ. وقد راينا في تاريخ البشرية ، كيف استعمل هذا الاعتقاد كحجة للتهرب من المسؤولية عن ارتكاب فضائع ، تحت عنوان الضرورة او الايجاب العقلي. لقد وفر الاعتقاد في الحتمية التاريخية مبررا للافعال الشائنة ، كما وفر مبررا لعدم فعل اي شيء على الاطلاق ، يوم كان الحال يقتضي الفعل والمبادرة[38].

أصر برلين بكل قوة على أهمية  مبدأ "الارادة الحرة" ، وعلى التعارض العميق والجوهري ، بين فكرة الجبر والحتمية التاريخية من جهة ، وبين إحساسنا الأساسي بأنفسنا وخبرتنا كبشر من جهة أخرى. وهو اصرار يتصل بحبل وثيق مع ايمانه بالليبرالية والتعددية ، ولا سيما تركيزهما على اهمية الاختيار الفردي وضرورته وجلالة قدره. ونعلم ان هذا الاصرار قد أخذه الى جدالات واسعة مع بعض الفلاسفة والمؤرخين ، خلال الخمسينات واوائل الستينات. وهي جدالات أثمرت عن موجة من الكتابات حول فلسفة التاريخ في العالم الناطق باللغة الانكليزية. والمرجح ان تلك الاثارات قد اعادت احياء الموضوع وتنشيطه في المحافل العلمية ، بعدما اوشك ان يلفه النسيان.

وفقا لرؤية برلين حول التاريخ ، فان على المؤرخ ان لا يغفل المضمون الاخلاقي لروايته. ما يحفظه للناس يجب ان لا يكون سلبيا او محايدا. من واجب المؤرخ ان يخبر الناس عن الاخطاء الفادحة ، التي ارتكبها طغاة التاريخ مثل شارلمان ، نابليون ، ستالين وامثالهم. وقد اثارت هذه الرؤية جدلا واسعا ، سيما لكونها جاءت في وقت يشهد تاكيدا مستجدا ، على الحاجة للفصل بين المعرفة والحكم الاخلاقي عليها. وكان من ابرز الذين انتقدوا هذه الرؤية ، المؤرخ الانكليزي ادوارد كار (1892-1982)[39]. على انه من الضروري الاشارة الى ان برلين لم يكن يقصد "اضافة" حكم اخلاقي على الواقعة التاريخية ، كما فهم ناقدوه.

يتلخص موقف برلين في نقطتين:

الاولى: ان طريقتنا المعتادة في اعتبار الكائن الانساني فاعلا يتمتع بالارادة والاختيار ، ينطوي بالضرورة على تقييم اخلاقي. ان ازالة التقييم الاخلاقي بشكل تام من تفكيرنا ، يعني ان نبدل بشكل جوهري الطريقة التي نستعملها في رؤية العالم المحيط بنا.

الثانية: حتى لو استطعنا بطريقة او باخرى ان نغير رؤيتنا للعالم ، فان هذا لن يكون محايدا تماما او خاليا من اي تقييم اخلاقي ، لسبب بسيط ، وهو ان المحاولات الشاقة الضرورية لضمان الحياد الاخلاقي ، هي ذاتها مدفوعة بالتزام اخلاقي تجاه فكرة الحياد. اضف الى هذا ، واخذا بعين الاعتبار مكانة التقييم الاخلاقي في فكر البشر العاديين وكلامهم ، فان اي تقرير يوضع في صيغة محايدة اخلاقيا ، سوف يفشل في كشف روح التجربة ، او الادراك الذاتي للفاعلين التاريخيين الذي نروي سيرتهم.

هذه الحجة لها اهمية خاصة عند برلين ، الذي رأى ان الكتابة التاريخية ينبغي ان تعكس وتوضح كيفية فهم الفاعلين الذين نسجل تاريخهم ، لواقعهم وظرفهم الخاص ، وبالتالي فهم السبب الذي جعلهم يفكرون على نحو خاص ، او يقوموا باعمال محددة دون غيرها. من هنا يصر برلين على مطالبة المؤرخ بالالتفات الى الدعاوى والادراكات الاخلاقية ، التي تشكل ارضية للحوادث التاريخية ، لأنها جزء من صورة الحدث ، حتى لو لم تكن ظاهرة.

3-تاريخ الافكار

اشرنا في صفحات سابقة الى اهتمام برلين بالدور التنويري الذي تلعبه الفلسفة ، وكونها في طبعها الاولي مناهضة للتفكير القديم ومزعزعة للتقاليد. انطلاقا من هذه الرؤية ، ركز برلين على ما اعتبره لحظات مفصلية ، شهدت تحولات اساسية في تاريخ الافكار. وفي هذا الاطار ، اهتم بمن اعتبرهم مفكرين اصيلين ، كما اهتم بالمفكرين الهامشيين. وقد قاده تركيزه على التبعات العملية للافكار ، الى التركيز على التحولات والتحديات التي  ادت ، في تقديره ، الى انعكاسات عميقة وحاسمة على وعي الناس ، السياسي والاخلاقي وعلى سلوكهم. اخيرا فان اهتمامه بالصراعات التي حدثت في أيامه ، قاده الى التركيز خصوصا على التاريخ الفكري الحديث ، وتتبع ولادة افكار بعينها ، رأى ان لها - لاسباب جيدة او سيئة - اهمية خاصة في العالم المعاصر[40].

ريغا عاصمة لاتفيا حيث ولد ايزايا برلين

العديد مما كتبه برلين في تاريخ الافكار ، له صلة باعماله الفلسفية الاقدم. لكن يبدو ان الكتابات المتأخرة ، كانت في الغالب امتدادات لاعمال سابقة في نفس الموضوع ، ولا سيما في معالجة اشكاليات أثارتها نقاشاته ضمن نفس الحقل. وفي هذا الاطار كتب عن العلاقة بين حقلي الانسانيات والعلوم ، وفلسفة التاريخ ، واصول القومية والاشتراكية ، والاعتراض على ما يعرف ب "العلموية Scientism" بصورة خاصة و"الاحادية monism " بصورة عامة ، اضافة الى تحولات الافكار وتقلباتها.

طور برلين سردية لتاريخ الافكار وصقلها خلال مسيرته العملية ، وهي تبدأ من التنوير وتركز على التمرد الاولي ضد ما اعتبره الفرضيات المهيمنة في تلك الحقبة[41].

وفقا لتحليل برلين ، فان مفكري عصر التنوير آمنوا بأن الانسان بطبعه خير او مرن. هذا الاعتقاد أدى الى أزمة في فكر التنوير ، بين رؤيتين: الرؤية القائلة بأن الطبيعة تملي على الانسان غاياته ، والرؤية الاخرى القائلة بان الطبيعة ، توفر مادة محايدة نوعا ما ، يمكن تشكيلها وصوغها على نحو عقلاني وخير ،  بواسطة التدخل البشري الواعي ، الذي يشمل التعليم ، التشريع ، العقاب والثواب ، ومجموع النظام الاجتماعي.[42]

اضافة الى ما سبق فقد نسب برلين الى عصر التنوير ، الاعتقاد بان كافة مشكلات البشر ، معرفية كانت او اخلاقية ، قابلة للعلاج من خلال اكتشاف وتطبيق الطرق المناسبة (العقل عموما ، بالمفهوم القائم على المنهج العلمي ولا سيما فيزياء نيوتن) ، وان حاجات الانسان الجوهرية ومصالحه متوافقة تماما. ومن هنا فان النزاعات والشرور ، كانت ثمرة للجهل أو سوء الفهم او الخداع والظلم ، الذي مارسته سلطات فاسدة (لاسيما الكنيسة).[43] 

قبيل الثورة الفرنسية ، ظهرت مدارس فكرية عديدة ، توسعت اثناء الثورة وبعدها ، وكانت – حسب اعتقاد برلين – عميقة العداء لحركة التنوير. وكان برلين قد ركز اهتمامه على الرومانتيكية الالمانية ، لكنه اهتم ايضا بالجماعات الفرعية التي تشترك في توجه اوسع نطاقا ، أسماه "التنوير المضاد Counter-Enlightenment"[44]. في بعض الاحيان بدا ان اهتمام برلين مركز على القوميين ، الذين اتخذوا موقفا يعادي المضمون الليبرالي المتفائل في التنوير. في احيان اخرى بدا انه ركز على نقد الرؤية الداعية لكونية الاخلاق والثقافة.

يمكن القول بشكل إجمالي ، ان موقف برلين من التنوير كان موضع خلاف. ثمة من اعتبره نصيرا للتنوير ، لكنه في الوقت ذاته معجب جدا بناقدي التنوير. هذا الموقف المزدوج يثير بالطبع مشاعر متضاربة: الاستحسان في بعض الاحيان والاستغراب في أحيان أخرى. هناك ايضا من صنف برلين كناقد للتنوير ، بل ربما اعتبره معارضا لا يتردد في اظهار انبهاره باعداء التنوير.

ثمة شيء من الحقيقة في كلا الرأيين ، مع ان كليهما لم يكن منصفا ايضا ، تجاه الطبيعة المركبة لتفكير برلين وآرائه. لقد اظهر برلين اعجابه بالعديد من مفكري التنوير ، وصنف نفسه علنا "الى جانبهم"[45]  ، كما رأى ان الكثير مما انجزوه كان طيبا. وانطلاقا من موقفه كتجريبي Empiricist فقد أقر بانتمائهم الى ذات التيار الفلسفي الذي ينتمي اليه.

وقال في هذا السياق ، ان ناقدي التنوير لم يكونوا محقين في معظم الاحيان ، فقد ارتكبوا اخطاء فادحة  وأحيانا خطرة ، من نواح عديدة. وقد هاجم معتقداتهم الميتافيزيقية او انكرها ، سيما فلسفة التاريخ عند هيجل وخلفائه . كان برلين قلقا ايضا من المقاربة الجمالية للسياسة ، التي تبناها وبشر بها رومانسيون كثيرون. ومع انه اعجب ببعض عناصر المفهوم الرومانسي للحرية ، الا انه راى في تاثير الرومانسية سببا جديا لانحراف في تطور فكرة الحرية.

لكن اعجاب برلين بحركة التنوير ومفكريها ، لم يمنعه من توجيه النقد الى ما اعتبره اخطاء في تناول بعض أهم القضايا العامة ، اي قضايا السياسة والاخلاق. وقد اعتبر برلين منظورهم التاريخي والسيكولوجي سطحيا ، مفرطا في احاديته ، وساذجا. كما وجد برلين في حركة التنوير ، الجذر الاعمق للرؤية التكنوقراطية لطبيعة الانسان ومشكلات السياسة  (الرؤية التي تدعو لوضع الحكومة بيد التكنوقراط) وهي رؤية عارضها أشد المعارضة ، واعتبرها واحدة من أسوأ الأخطار التي يواجهها العالم.

ويعتقد برلين ان أعدء التنوير لهم فضل على الحركة ، فقد ساهم نقدهم في كشف عيوبها ، وبالتالي اصلاحها. وهو يرى انهم قد كشفوا العديد من الحقائق الهامة ، التي اهملها او انكرها مفكرو التنوير. من بين هذه ، ثمة ما يصنف كحقائق سلبية (مثل التاثير القوي للامعقول ، ولاسيما العواطف المظلمة في الشؤون الانسانية) او ايجابية (مثل القيمة الراسخة للتنوع والفضائل الشخصية ، كالنزاهة والاخلاص ، ومحورية القدرة على الاختيار في الطبيعة الانسانية ، والكرامة). لقد تمردت الرومانتيكية خصوصا على ما اعتبر مبالغة من جانب حركة التنوير ، في منح العقل دورا مطلقا في حياة الانسان ، يتجاوز اي مصدر آخر للمعرفة والعواطف. لكنها احتفت بالمكانة التي منحتها للارادة الحرة والاختيار. وقد اظهر برلين تعاطفا جليا مع هذا الموقف ، مع انه اعتقد ايضا ان الرومانتيكية قد ذهبت اكثر مما ينبغي في كلا الموقفين: المعارض والاحتفائي.

اهتمام برلين بناقدي التنوير يشير الى ناحيتين: فهو يكشف من ناحية عن فضوله تجاه اولئك الذين يعارضهم في غالب الاحيان. ويشير من ناحية اخرى الى رغبته في التعلم ، من اشد التحديات التي يواجهها الموقف الليبرالي العقلاني والتقدمي.[46]  هذا يفترض ان يعين على تقدير النواقص ونقاط الضعف والعمل على اصلاحها. لقد عمل برلين من خلال توضيحه لليبرالية والتعددية ، على ايجاد توليفة ، تدمج الاراء الناقدة للتنوير ، خصوصا تلك التي تتميز بالعمق ، مع دفاعه الخاص عن تراث التنوير.  ان هذا الموقف المركب هو ما يسمح باعتبار برلين ملتزما بهدفه في فهم العلم ، على النحو الذي يمكنه من "التصرف بعقلانية فيه وعليه"[47]  ، بغض النظر عن اي ميل شخصي او ايديولوجي.  

4-الفكر الاخلاقي وتعددية القيم

كتب ايزايا برلين مقالات عديدة والقى محاضرات كثيرة ، لكن معظمها بقي غير معروف الا متأخرا. يرجع الفضل في التعريف باعمال برلين الى هنري هاردي ، الكاتب والمحرر البريطاني ، الذي بدأ في 1969 بنشر مجموعات تضم مقالات برلين منسقة وفق موضوعاتها. كان اول هذه الاعمال هو "اربع مقالات عن الحرية Four Essays on Liberty  " ثم فيكو وهيردر Vico and Herder  في 1976. واستمر هاردي في نشر اعمال برلين وتوثيق ما كتب عنه حتى الآن.

اعادة نشر هذه المقالات ، اثمرت عن لفت الانظار الى القيمة الرفيعة لاعمال ايزايا برلين. وقد ركزت الضوء بصورة خاصة ، على دفاعه العميق عن مبدأ تعدد القيم. ومنذ العقد التاسع من القرن العشرين ، اخذ الباحثون في التعامل مع رؤية برلين الخاصة بتعددية القيم ، باعتبارها "الفكرة المحورية" في مشواره الفكري ، وباتت الموضوع الاكثر جدلا والاكثر اثارة للاعجاب.   

والحق ان مبدأ تعدد القيم هو مركز التفكير الاخلاقي لايزايا برلين ، مع ان هذا الفكر يضرب في مساحات اوسع كثيرا من المبدأ المذكور. عرف برلين الفكر الاخلاقي بالفحص المنتظم للعلائق التي تربط البشر الى بعضهم ، ولادراكاتهم (اي كيف فهموا او استوعبوا) والمصالح والمثل التي تشكلت على ضوئها أساليب العيش والتعامل فيما بين الناس ، وانظمة القيم التي حددت أهداف حياتهم... منظومات القيم هذه عبارة عن اعتقادات حول الكيفية التي ينبغي للحياة ان تعاش ، كيف ينبغي للرجال والنساء ان يكونوا ، وماذا ينبغي لهم ان يفعلوا[48]. ومثلما أسس برلين فهمه للفلسفة ودورها ، على أرضية اعتقاده في أهمية المفاهيم والتصنيفات في حياة الناس ، فانه – وعلى نفس النسق - أقام فهمه للاخلاق ، على اساس اعتقاد مواز في الاهمية القصوى للمفاهيم والتصنيفات المعيارية والاخلاقية ، ولا سيما القيم .[49]

لم يضع برلين نظرية منظمة ومضبوطة حول طبيعة القيم. ومن هنا فانه يتوجب استخلاص رؤيته فيها من كتاباته الكثيرة في تاريخ الافكار. في نفس السياق ، ينبغي الاشارة الى ان ملاحظات برلين حول مكانة القيم واصولها ، تبدو غامضة أو ملتبسة نوعا ما ، مع ان الانصاف يقتضي القول ان التوفيق بينها ليس عسيرا او ممتنعا. لكن في العموم نستطيع القول انه يوافق على الرؤية الرومانتيكية القائلة ، بان القيم لم تكن موجودة بشكل طبيعي في نظام الكون ، وان الانسان لم يكتشفها مثلما اكتشف عناصر الطبيعة الاخرى ، بل هو الذي اخترعها وطورها.  ولأن القيم منتج بشري ، فان سلطتها نسبية وليست مطلقة او جبرية. ويرجع برلين هذه الرؤية الى ايمانويل كانط ، مع انه نسبها أحيانا الى ديفيد هيوم.

على هذه القاعدة قامت نظرية في الاخلاق ، ترفع الانسان الى المرتبة العليا من سلم القيم. وتبعا لها فان المثل والافعال تقاس ويحكم عليها ، بالنظر لعلاقتها بالمعاني والتاثيرات التي تخلفها على الافراد ، لمصلحتهم او خلافا لها. هذه الرؤية تشكل أرضية لقناعة برلين العاطفية ، بخطأ التعويل على النظريات عوضا عن الحقائق الانسانية ، وقبح التضحية بحياة الانسان من اجل افكار مجردة (وهو أمر شدد عليه هرزن ايضا). تتصل هذه الرؤية ايضا بنظرية برلين في الحرية ، وايمانه بالاهمية الخاصة لتحرر الانسان.

في محاولته لوضع تحليل حول الكيفية التي وجدت فيها القيم ، سيما تلك المعروفة منذ أزمان سحيقة ، بدا كما لو ان برلين ينسج نظرية تجريبية على منوال "القانون الطبيعي" ، بحيث تقتصر على الحد الأدنى من المفهوم محل النقاش. قال برلين في هذا الصدد ان تجربة البشر خلال تاريخهم الطويل ، اثمرت عن تشكيل سمات ثابتة ارتبطت بهم. هذه السمات جعلت بعض القيم مهمة وبعضها الاخر ضروريا لحياتهم. وتبعا لهذا التحليل فانه يمكن تعريف القيم باعتبارها معتقدات حول معنى ان تكون جيدا ، ومعنى الفعل الجيد الذي ينبغي ان تقوم به ، نوعية الحياة الصالحة والسيئة ، الصفات الشخصية ، نوعية الوجود والعيش الذي يستحق ان يتطلع الانسان اليه.

استخدم ايزايا برلين رؤيته المتعلقة باصل القيم في دفاعه عن قيمة الحرية ، حين قال ان حرية التفكير والبحث والتخيل ، وفوق الكل حرية الاختيار دون خوف او قيد ، كلها ضرورية وعالية ، لأن الانسان بحاجة الى حرية الذهن. من هنا فان انكار الحاجة لحرية الذهن وما هو ضروري له (كالحريات المذكورة) يعادل انكار طبيعة الانسان ، ويلقي على كتفه عبئا لا يحتمل ، وفي اسوأ الحالات سوف يسلبه جوهر انسانيته كليا.

لدينا الان اذن رؤيتان: الرؤية القائلة بأن القيم الاساسية لحياة البشر ، كانت جزء من نظام الكون واكتشفها الانسان مثلما اكتشف بقية عناصر الكون ، ونظيرتها التي يقترحها ايزايا برلين. لو أردنا التوفيق بين الاثنتين فلعلنا نقول ، ان رؤية برلين تذهب الى اعتبار القيم التي صنعها الانسان ، متجذرة في طبيعة الكائن الذي سعى اليها. لكن هذا يبدو مثل دفع السؤال خطوة الى الوراء ، لأنه سيثير سؤالا جديدا حول تلك الطبيعة البشرية ، هل هي جزء من تكوينه  ونهائية ، ام هي مكتسبة وتتعرض للتغيير مع الزمن ، من خلال الفعل الانساني الواعي والعفوي؟.

قدم برلين جوابا على هذا السؤال يقع في جزئين:

من ناحية يرفض برلين القول بان طبيعة البشر ناجزة ونهائية ، وينظر بريبة للقول بالماهية الطبيعية[50]. لكنه من ناحية ثانية يعتقد بان الطبيعة البشرية التي نعرفها ، لها حدود boundaries ، كما ان لها متطلبات. (سوف نغض النظر هنا عن كون هذا الاعتقاد ادنى من مستوى التنظير الملائم وأنه غير منهجي).هذه الطبيعة المتماثلة عند جميع البشر قد لا تكون قابلة للتحديد الدقيق ، بمعنى انه قد لا يكون ممكنا ان نستخرج منها قائمة للسمات الثابتة عند كافة البشر ، قابلة للتحديد الدقيق.

ان بعض الخصائص قد تكون متفاوتة بين شخص وآخر ، أو بين ثقافة واخرى. مع ذلك ، فثمة حدود للتفاوت والاختلاف ، رغم بقاء الاصل الانساني واحدا ، تماما مثلما يختلف وجه هذا الشخص عن ذاك في العديد من سماته ، لكن سيبقى كل من الشخصين معرفا كانسان. في الوقت نفسه من الممكن التمييز بين وجه لانسان ووجه الحيوان مثلا ، حتى لو لم نستطع اختزال الفرق بينهما بما يمكننا من وضع صيغة محددة. 

الواقع ان الجوهر العميق لتفكير برلين ، هو اصراره على اهمية الانسانية وتميز الانسان. وهو ينظر الى هذه المسألة كحقيقة اخلاقية ، لاحاجة لاختزالها الى ماهية ثابتة ، كي تحظى بقوة وصفية ومعيارية. انها بصورة من الصور قيمة موضوعية وليست مجرد اعتبار شخصي ، قابل لأن يتفاوت بين شخص وآخر.

تثير هذه النقطة التباسا محوره رأي برلين في القيم لجهة كونها موضوعية objective  او شخصية subjective. قول برلين ان القيم صنيعة الانسان ، قد يشير الى انه يعتبرها شخصية.  لكنه - في مواضع اخرى – اكد ان يقف في الجانب الآخر تماما ، فهو يعتبر القيم موضوعية. بل انه ذهب ابعد من ذلك فأسمى موقفه "التعددية الموضوعية"[51]. لكن مع ذلك فثمة شيء من الالتباس. ليس من الواضح تماما ماذا يعني بهذا ، وكيف يتصل هذا الاعتقاد برؤيته القائلة بان القيم صنيعة البشر.

ثمة روايتان على الاقل يمكن القول انهما تشرحان رؤية برلين لموضوعية القيم: الرواية الاولى ان صفة الموضوعية ناتجة من كون هذه القيم حقائق حول من يحملها ، اي انها ليست مجرد فكرة مجردة وانطباعية ، بل جزء من حياته. الحرية على سبيل المثال قيمة ’موضوعية‘ لانني اقدرها تقديرا عاليا ، وسوف اشعر بالبؤس والاحباط ان لم يبق عندي حتى نسبة بسيطة منها.

الرواية الثانية فحواها ان الاعتقاد في قيم بعينها – الحرية على سبيل المثال - او الكفاح من اجلها ، ناتج عن وقائع موضوعية متصلة بطبيعة الانسان ، تجعل هذه القيمة موضوعية ، لان حقائق معينة حول طبيعة الانسان تجعلها جيدة ومرغوبة للانسان. هذه الاراء ليست متعارضة مع بعضها البعض ، لكنها متمايزة ، وتقدم الاخيرة ارضية اكثر صلابة للمبدأ الذي تبناه برلين عن الحد الادنى للكونية الاخلاقية.

أخيرا فان برلين اصر على ان كل قيمة لديها قدرة الزام للبشر ، هذه القدرة مستمدة من ذاتها وبشروطها الخاصة ايضا ، بغض النظر عن الالزامات والشروط الخاصة باي قيمة أو غاية أخرى. كما ان الزاميتها في وقت معين غير مقيدة بشروطها ذاتها في الاوقات الأخرى.

هذه الرؤية تمثل واحدة من اركان مبدأ التعددية الذي جادل دونه ايزايا برلين.

4.1 -"التعددية القيمية" وفقا لتعريف برلين

في التمهيد لعرض رؤيته الخاصة عن مبدأ تعددية القيم ، قدم برلين شرحا وافيا عن المفهوم المضاد ، الذي يشير اليه أحيانا باسم "الاحادية monism" ويسميه في احيان أخرى "المغالطة الايونية  the Ionian fallacy"  او "المثال الافلاطوني the Platonic Ideal". ويتلخص شرح برلين للاحادية في العناصر الثلاثة التالية:[52]

1-كل سؤال حقيقي (صحيح) يجب ان يكون له جواب حقيقي ، واحد فقط. كل الاجوبة الاخرى تعتبر خاطئة.

2- لا بد ان الجواب الصحيح (الوحيد) متوفر في مكان ما. وهو قابل للكشف ، حتى لو لم يكن معروفا في الوقت الحاضر. وبناء عليه فلا بد ان يكون ثمة طريق يعتمد عليه لاكتشاف هذا الجواب.

3-حين نعثر على الاجوبة الصحيحة ، فسوف نجدها متوافقة مع بعضها ، على نحو يؤلف كلا واحدا. لأن الحقيقة لا يمكن ان تتعارض مع حقيقة اخرى. (هذه مبنية على فرضية فحواها ان الكون كل واحد ، مؤلف من عناصر متناغمة ومنسجمة فيما بينها).

نعرف ان برلين رفض الفرضيات الثلاث وانكر صحتها. وفي اطار رؤيته للتعددية الاخلاقية ، دفع بهذا الموقف الرافض خطوة الى الامام ، مشددا على انكار صحة الفرضية الثالثة بشكل أخص. ان القيم الاصلية عديدة ، وقد يتعارض بعضها مع البعض الآخر ، بل غالبا ما يحصل هذا التعارض. هذا لا يعني ان احداهما باطلة او اننا لم نفهمها ، كما انه ليس من البديهي القول بالترتيب ، اي تقدم احدى القيم على الاخرى في الاهمية او المكانة. 

من الممكن ان نرى تعارضا بين الحرية والمساواة ، أو بين الحرية والنظام العام ، وقد نراه بين الرحمة والعدالة ، بين الحب والانصاف او عدم الانحياز ، المعرفة والسعادة ، العفوية والروحانية الحرة مع المسؤولية والاعتمادية ، وقد يتعارض الالتزام الاجتماعي والاخلاقي مع الكفاح النزيه من اجل الحقيقة او الجمال (حتى هاتين القيمتين ، قد تكونان متعارضتين أيضا ، خلافا لمقولة جون كيتس الشهيرة[53]).

تعارض القيم عنصر عميق في الحياة البشرية ، يستحيل استئصاله. فكرة التحقق الكامل لمعنى الانسانية (من خلال توحد القيم) مجرد وهم. ان العالم الذي تزول فيه كافة التعارضات ، ليس العالم الذي نعرفه ولا العالم الذي نفهمه[54].

ذهب برلين خطوة ابعد ، حين قرر ان الامر لا يتوقف عند كون القيم قابلة للتعارض الواحدة مع الاخرى ، فهي أيضا متفردة ، اي لا تقبل المقارنة / المقايسة incommensurable. وقد ثار جدل واسع حول المعنى المحتمل لهذا الرأي ، وما اذا كان مفهوم التفرد الذي يتبناه برلين ، صحيحا ومحكما ، ام هو مجرد تساهل في الوصف. والذي يظهر من حديث برلين في هذا الصدد ، هو  انه لا يوجد معيار واحد قابل للتطبيق بنفس المستوى ، على اي قيمتين ، بحيث يخبرنا بدقة عن وزن هذه قياسا الى تلك ، مثلما تخبرنا العملة النقدية مثلا عن سعر كل من السلعتين ، فنقيس هذه الى تلك او نقارن هذه بتلك ونعرف موضع كل منهما نسبة الى الاخرى.

انطلاقا من انكار وجود "عملة مشتركة" للمقارنة ، او مبدأ معياري حاكم (نظير مبدأ المنفعة الناتجة عن كل طرف) فان هذه الرؤية ، اي التفرد و عدم القابلية للمقارنة والقياس ، تستدعي ايضا القول بانه لا يوجد منهج عام او طريقة معيارية ، للتوصل الى حلول للتعارضات المحتملة بين القيم.  ليس لدينا – على سبيل المثال – قاعدة مرجعية تساعدنا في وضع مراتب للقيم ،  أو تخبرنا عن القيمة التي لها في كل الاوقات اولوية على الاخرى المتعارضة معها.

أقام برلين موقفه هذا على أرضية تجريبية: نحن نقوم بهذه التجربة كل يوم من ايام حياتنا العادية ، حيث نسعى لغايات تتساوى من حيث الاهمية ، ودعاوى تتساوى في كونها مطلقة. ونعلم ان الحصول على بعضها سيكون قطعا على حساب الآخر ، فنضطر دائما للاختيار ، اي التضحية بواحد كي نحصل على الثاني[55]. لكن على رغم المضمون التجريبي للتحليل ، فان برلين لم ينظر الى الاختيار بين القيم باعتباره عملية تجريب او ممارسة مؤقتة ، بل نظر الى المسألة ككل ، وقرر انها انعكاس لحقائق منطقية وضرورية في الحياة الاخلاقية للناس ، وما تنطوي عليه من قيم.

ان فكرة الكل الكامل او الحل النهائي ، غير موجودة في الحياة الواقعية ، بل هي هدف مستحيل التحقق على المستوى العملي ، بل لا نبالغ لو قلنا انها فكرة غير متماسكة من الناحية المفهومية. اذا اردنا تفادي التعارضات بين القيم او العبور منها بشكل نهائي ، يلزمنا ان نفكر في التحول الذي ربما يصل الى مستوى التخلي التام عن تلك القيم ذاتها.

تبنى برلين مبدأ التعددية  مشروطا ومعدلا بمعتقدات والتزامات اخرى. احدى هذه المعتقدات هي الليبرالية ، والثانية هي الانسانوية ، اي الرؤية القائلة بان بني آدم يتمتعون بالمرتبة الأولى من حيث الاهمية ، بين كل الاشياء الاخرى في العالم ، وان تجنب ايقاع الاذى ببني الانسان ، هو الاولوية الاخلاقية الكبرى.

انطلاقا من هذه العقيدة ، قرر برلين انه متى ما وجدنا انفسنا امام مجموعة قيم متعارضة  ، وكان علينا أن نختار ، فان "الواجب العمومي الأول هو تفادي المعاناة القصوى extremes of suffering" [56]. ويصر برلين على ان التعارضات الاخلاقية، ينبغي تفاديها، فان لم يمكن تفادي الصدام ، وجب ايجاد تعادل بين الدعاوى والمطالب ، ومحاولة المساومة والتسوية بين الطرفين. يجب ان يكون الهدف هو المحافظة على توازن مرن ، يساعد قدر الامكان على تفادي الانزلاق الى حالات احباط أو خيارات يائسة.

** هل يمكن للفلسفة أن تخبرنا كيف نقوم بهذه المهمة؟.

** لا. لكن لعلها تساعدنا على كشف الطريق. فهي تسلط الضوء على مشكلة التعارض الأخلاقي ، وكل ما يترتب عليه من انعكاسات وآثار. كما أنها تساعدنا على كشف واجتثاث الحلول الزائفة ، التي قد لا تكون ظاهرة للعيان. ماهو مهم في التعامل مع القيم المتعارضة ، هو الاستيعاب السليم لمنطق الامور ومتطلبات الظرف. الذين يتخذون القرار يتعاملون مع تعقيدات ، هي امتداد لتعقيد الكائن الانساني وحاجاته وانطباعاته وتوقعاته. لكن في نهاية المطاف ، يتوجب عليهم أن يقرروا. وإذا فعلوا ، فهم سيضحون من دون شك ببعض القيم لصالح قيم أخرى.

يكشف شرح ايزايا برلين لمبدأ التعددية عن نقاط قوة ، تتمثل خصوصا في تشديده على الاختيار العقلاني والاخلاقي بين القيم المتعارضة. بيان ذلك: ان الناس لا يجدون – في معظم الأحيان – جوابا واحدا صحيحا ، لكل مسألة تواجههم. وقد استعمل برلين هذه الحجة في مجادلته لاثبات الأهمية الكبرى للحرية ، او – لنقل على وجه التحديد - مجادلته ضد الدعوى القائلة بامكانية تقييد الحرية ، لصالح فرض الحلول الصحيحة بالقوة. ان المجادلة المفصلة التي قدمها برلين دفاعا عن التعددية والاختيار وقابلية الانسان ، جعلت فكرة الاختيار علامة بارزة في فكره.

ان أردنا الذهاب مع التعددية ، فانها – بطبعها – تنطوي على جدالات داخلية وتعارضات. ويتشكل قوامها من عملية اختيار متواصلة ، بين القيم والدوافع المتعارضة. ليس فقط اختيار الفرد للقيم المتعلقة بحياته ، بل ربما بدرجة اكثر تأثيرا ، الاختيار بين سبل العيش التي يتأثر بنتائجها عدد كبير من الناس. في تقريره لهذا الجانب لا يغفل برلين عن حقيقة ان لدى الأفراد سمات متجذرة ، تشكل ما يمكن وصفه بطبيعة الفرد او شخصيته المتفردة ، التي لا يمكن طمسها او تبديلها بالكامل. من هنا فقد الح على ان من حق هؤلاء الأفراد ، ان يتخذوا القرار الذي يجسد خياراتهم ويؤثر على حياتهم ، الخيار الذي يحدد كيف سيكونون وماذا سيفعلون. هذا يوضح ان عملية الاختيار تنطوي على جانبين ، فهي - من جهة – تعبير عن شخصية فردية ، وهي – من جهة ثانية – جزء من عملية توليف وتكوين لتلك الشخصية ، ولهذا نستطيع القول ان الاختيار الحر ليس مجرد حاجة ، بل هو ضرورة للذات الانسانية.

4.2- التعددية القيمية قبل برلين

نعلم ان مبدأ التعددية كان معروفا في الفلسفة منذ زمن قديم. لكنه لم يكن محكما ومنضبطا ، فكان ينصرف الى اكثر من مفهوم. ومع هيمنة المثال الافلاطوني الذي ذكرناه آنفا ، فان المبدأ نادرا ما فسر في معنى تعددية القيم ، اي المفهوم الذي جادل دونه ايزايا برلين. (لتفاصيل مقارنة بين ما طرحه برلين وما طرحه مفكرون آخرون ، راجع صفحة Pluralism على مكتبة برلين الافتراضية[57](.

أراد برلين تقديم نسب تاريخي للمفهوم الذي يتبناه ، فذكر نيقولا مكيافيلي[58]  كأول متمرد على الأحادية ، كما ذكر جامباتيستا فيكو ويوهان هيردر[59]. لكنه يقر بان مكيافيلي لم يتبن – واقعا - مبدأ التعددية ، بل كان ثنويا dualist. كما عارض بعص الباحثين اشارة برلين الى فيكو وهيردر ، على خلفية ان الرجلين اعلنا اعتقادهما في وحدانية غيبية او روحانية عليا ، هي مرجع التنوع.

عدا عن الذين ذكرهم برلين ، أشار باحثون الى فلاسفة آخرين اعتبروهم من رواد التعددية ، لعل ابرزهم ارسطو. كما ان جيمس ف. ستيفن (1873) طور رؤية عن مبدأ التعددية تشبه الى حد كبير الرؤية التي قدمها برلين[60] ، مع انه وضعها في إطار النقد الذي وجهه المحافظون الى ليبرالية ستيورات ميل.

اضافة الى هؤلاء ، قدم الفيلسوف الالماني فيلهلم ديلتاي (1911-1833)  رؤية قريبة جدا لمبدأ التعددية. أما مواطنه عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر (1864-1920) فقد عرض تصويرا دراماتيكيا وشديد الاقناع للتعارض المأساوي بين قيم ، معتقدات ، وانماط معيشة ، لا يمكن المقارنة فيما بينها[61].

طرحت فكرة "التعددية الاخلاقية" ، بهذا الاسم خصوصا ، في امريكا ، كاستيحاء من الرؤية التعددية للكون ، التي اقترحها المفكر الامريكي ويليام جيمس ، اضافة الى اشاراته المتكررة ، في مناسبات عدة لفكرة تعدد القيم[62].  في وقت لاحق ، اشاد كل من جون ديوي ، عالم النفس الامريكي (1859-1952)[63] وهاستينغز راشدال ، اللاهوتي البريطاني[64] ، بفكرة التعددية. لكن يبدو ان المرة الاولى التي ظهرت فيها فكرة التعدية تحت هذا الاسم نفسه ، وفي اطار نظرية اخلاقية محددة ، وبلغة قريبة جدا من لغة برلين ، كانت في مقالتين نشرتا في 1920 و 1921 بقلم سترلينع لامبرخت [65]، وهو فيلسوف طبيعي ومتخصص في اعمال توماس هوبز وجون لوك. وفي وقت لاحق ، ظهر شيء مشابه على يد ألبرت. ب . بورقان (1931).

ان التشابه الصارخ بين برلين ولامبرخت في الافكار ، وحتى اللغة وطريقة التعبير ، تجعل من العسير القول ان برلين لم يطلع على اعمال لامبرخت ولم يتاثر بها. مع هذا فاننا لا نملك اي دليل مستقل ، على ان برلين قد اطلع على اعمال لامبرخت او عرفها. ومما يعزز رأينا ، ان برلين كان قد اعتاد على نسبة افكاره الى الاخرين اكثر من نسبة ارائهم لنفسه ، الامر الذي يجعل من الصعب علينا تخيل ان يتبنى فكرة لامبرخت ، دون ان يشير اليه مجرد اشارة في اي مكان.

يذكر ايضا ان بعض معاصري برلين قد تبنوا الفكرة ، مع تعديلات قليلة او كثيرة. من بين هؤلاء مثلا ريموند ارون ، ستيوارت هامبشير ، رينولد نيبوهر ، ومايكل اوكيشوت (رغم ان الاخير ينسب التعارض بين القيم الى مقاربة انعكاسية خاطئة للقضايا الاخلاقية. ويقترح ان بالامكان معالجة هذا الخطأ ، بالاعتماد على نهج اخلاقي اعتيادي اقل التفاتا للذات[66].

4.3- ظهور تعددية القيم في أعمال برلين

فكرة التعددية القيمية لم تظهر فجأة في أعمال برلين أو فكره. في 1930 وكان يومها طالبا في جامعة اكسفورد ، نشر برلين مقالا ينسج على منوال أرسطو ، ويؤكد الحاجة للتعددية المعرفية والمنهجية[67]. ركز هذا المقال على النقد الثقافي والأدب وليس الفلسفة ، وجادل ضد الاعتماد على منهج وحيد أو نظرية منفردة ، أو البحث فيهما انطلاقا من فرضية أن أيا منهما هو المفتاح الوحيد لفهم كافة التجارب. 

في ذلك المقال ، كما في كل كتاباته اللاحقة ، أصر برلين على أن تعدد المعايير والقيم ومناهج البحث ، قد يكون أكثر ملاءمة للنشاطات المختلفة ، وحقول المعرفة وأنماط الحياة المتنوعة.

يكشف هذا النقاش عن بذور اهتمامه لاحقا بالمقارنة والتمييز بين العلوم والانسانيات ، ونقده المتكرر للمناهج التفسيرية الأحادية البعد ، فضلا عن قناعته بتعددية القيم من حيث المبدأ. لكن هذه العناصر كانت – في ذلك الوقت – مجرد اطلالات ، وكانت لاتزال بحاجة الى تنظير واستدلال ، فضلا عن مطالعة تطبيقاتها الممكنة. 

والذي يظهر ان اطلاع برلين على كتابات الكاهن والفيلسوف الفرنسي نيكولاس ماليبرانش (1638-1715) قد عزز قناعاته الأولية ، كما اثار فضوله بدرجة كبيرة ، سيما رأيه القائل بعدم التوافق بين قيمة البساطة وقيمة الخير ، خلافا لاعتقاد واسع النطاق بين الفلاسفة ورجال الدين في زمنه. ومن هنا فقد كانت هذه الرؤية صادمة له في ذلك الوقت ، وعبر عن شعوره هذا بالقول انها "رؤية غريبة وملفتة". ويبدو انها قد تحولت لاحقا الى محور لتفكيره[68].

طور برلين مفهومه الخاص للتعددية بالتدريج. في كتابه عن سيرة كارل ماركس (1939) وضع رؤيته لما اصبح يطلق عليه لاحقا "الأحادية" اي نقيض التعددية. لكنه تجنب توجيه نقد مباشر له ، كما تجنب وضع بديل تعددي ، لما اعتبره ايديولوجيا أحادية تبناها كارل ماركس. لكن محاضرته حول "النفعية  Utilitarianism"[69] تضمنت مجادلة تمهد للرؤية التي شرحها لاحقا حول تفرد القيم ، أي كونها غير قابلة للمقارنة رجوعا الى معيار واحد incommensurable.

قدم برلين ما يمكن اعتباره جوهر مفهومه للتعددية ، وكيفية اتصاله بالليبرالية ، ضمن محاضرة القاها في 1949 وعنوانها "الديمقراطية والشيوعية والفرد Democracy, Communism and the Individual’ ". وقد كتب برلين تلك الافكار بصورة موجزة جدا ، في الملاحظات الاعدادية للمحاضرة. وفي السنوات التالية امست الفكرة محورا هاما في العديد من كتابات برلين ومحاضراته. وجدنا ذلك مثلا في مقالته عن "الحتمية التاريخية"[70]. وفي 1955 تحدث عن التعددية والاحادية كمسلكين متعارضين في الحياة[71] . لكن المناسبة الاولى التي شهدت ظهور مفهوم تعددية القيم ، على النحو الذي تبناه برلين وكرسه كمبدأ أساسي يدعو اليه ، هي محاضرته الشهيرة "مفهومان للحرية Two Concepts of Liberty" في العام 1958. مع ان الانصاف يقتضي القول ان مفهوم برلين الخاص للتعددية ، استمر في التطور بعد ذلك ، بحيث يصعب القول ان الفكرة التي عرضها في تلك المحاضرة ، هي تلك التي واصل الحديث عنها في السنوات الاربعين التالية.

في كتابات برلين التالية حول الرومانتيكية ، ظهرت تصورات وتعبيرات متعددة عن التعددية. وفي آواخر عمره ، أخذ في تقييم اعماله السابقة ، وتحديد ما يعتبره ابرز القضايا التي بحث فيها ، تمهيدا للتعريف بما يمكن اعتباره زبدة ابتكاراته الفكرية. في هذه المرحلة ، كرس برلين وقته واهتمامه لتصفية مفهومه الخاص للتعددية ، وايضاح مقدماتها وجوانبها واشكالاتها ، وصولا الى طرحها كنظرية اخلاقية مستقلة. في هذا السياق ، نشير الى رسالة كتبها في 1968 تحدث فيها عن "التعارض الذي لا يمكن تلافيه بين الغايات والمقاصد" واشار اليها باعتبارها ابرز كشوفاته الفكرية[72].  وفي هذا السياق قدم واحدة من أبلغ محاضراته ، وهي المحاضرة المعنونة "السعي وراء المثال The Pursuit of the Ideal"[73] لمناسبة تكريمه بجائزة انجيلي Agnelli Prize في 1988. في هذه المحاضرة شرح برلين ما يعنيه بالتعددية ، وقد وصفت بانها التلخيص الأكثر تركيزا وبلاغة لهذا المفهوم.

 اضافة الى هذا ، ناقش برلين مفهوم التعددية في حوارات ومناقشات مطبوعة مع علماء آخرين ، خلال العقد السابع من القرن العشرين وما تلاه. وكان برلين يريد ايضاح المفهوم الذي يقترحه وحل الاشكالات التي أثارها ، لكن يبدو ان محاولاته لم تنجح في إرضاء غالبية الناقدين.

4.4- تعددية القيم بعد برلين : بعض الجدالات

منذ التسعينات ، اصبح مفهوم برلين للتعددية موضوعا لنقاش واسع وساخن ، بل استأثر بمعظم النقاشات المتعلقة بافكاره. هذا يرجع جزئيا الى اعادة نشر اعماله ، او الى اعمال فلاسفة تبنوا افكاره ودافعوا عنها ، اضافة الى هؤلاء الذين اكتشفوا برلين وقاموا بابحاث في أعماله ، من دون التزام كامل بالاراء التي دعا اليها. لكن – وكما اسلفنا القول – فبالقدر الذي استقطبه مفهوم برلين التعددية من اهتمام ، فانه اثار ايضا الكثير من النقد. بل يمكن القول ان معظم النقد الذي تناول اعمال ايزايا برلين ، اتجه الى هذا المفهوم ، وبصورة خاصة الى ما اعتبره بعض الناقدين خلطا بين مفهومي التعددية والنسبية.[74]

مما يقال ايضا ان اخفاق برلين في وضع صيغة قطعية للمصطلحات محل النقاش ، قد ادى الى افساد النقاش حول افكاره. لقد شرح برلين مصطلح التعددية وتعددية القيم بصورة مكررة. لكن ينبغي القول ان التكرار ليس وسيلة مؤكدة للتوضيح ، بل لعل كثرة الكلام في فكرة واحدة تزيدها غموضا. اما  مفهوم النسبية فلم يحظ بتوضيح كاف. ولعل السبب في هذا التقصير هو ان أنه لم يكن موضوعا لعمل برلين. ولذا فلا لوم لو أشرنا الى انه ربما كان من الافضل ان يبذل برلين جهدا في توضيح مفهومه للنسبية ، والخط الفاصل بينها وبين التعددية. ذلك ان التمييز بين المفهومين يعتمد إلى حد كبير على كيفية تعريف النسبية ، وكذلك على كيفية التعامل مع بعض المكونات الغامضة أو المثيرة للجدل في مفهوم التعددية.

تعريف النسبية

ثمة طرق عديدة لتعريف النسبية. أولها  التعريف الذي اختاره برلين ، وفحواه انها شكل من اشكال الاعتبار الشخصي subjectivism  او اللاعقلانية الاخلاقية moral irrationalism  (بمعنى الاعتبار الاخلاقي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار المضمون المادي للربح والخسارة). قدم برلين هذا التعريف كرد على النقد الموجه لمفهوم التعددية ، وللتأكيد على اختلاف الاطار الموضوعي لهذا المفهوم عن ذاك. وفقا لبرلين فان التعبير النسبي النموذجي سيتخذ الشكل التالي: انا احب ان تكون قهوتي بيضاء ، وانت تفضل القهوة السوداء. هذا هو ببساطة واقع الحال ، وليس ثمة طريقة كي نحدد الافضل بين هذا وذاك. اضف الى ذلك انك لا تستطيع ان تفهم لماذا اخترت قهوتي بيضاء ، كما انني لا افهم لماذا اخترت قهوتك سوداء. نحن ببساطة لا نستطيع الاتفاق على معيار واحد للمفاضلة بين خياري وخيارك.

لو اردنا تطبيق نفس المسلك النسبي الذي يوضحه المثال السابق ، على مجال الاخلاق ، فسوف يكون معبرا عنه على النحو التالي (على سبيل المثال): انا احب التضحية بالبشر ، وانت لا تحبها ، لأن أذواقنا وتقاليدنا مختلفة. هذا ما سيحصل لو طبقنا الرؤية النسبية. اما لو اخذنا بمبدأ التعددية  - وفق تعريف برلين فانه يقول بأن فهم وتفهم الرؤى الاخلاقية ممكن لجميع الناس (يستثنى من هذا بطبيعة الحال الافراد الذين لا يحملون اي شعور او اعتقاد انساني طبيعي ، بحيث يصدق على احدهم الوصف بانه غريب او حتى مجنون). بعبارة اخرى فان الموقف تجاه مسألة مثل التضحية بالبشر ، لن يكون موضوع ذوق او تقليد ، فاي شخص عاقل او طبيعي سيؤسس موقفا بهذه الأهمية ، على نفس العوامل والمبررات المشتركة بين جميع البشر ، ومن بينها خصوصا الايمان بالقيمة الرفيعة لحياة الانسان ، وكونها فوق الاختلافات الثقافية او الشخصية.

النسبية - وفقا لتعريف برلين سوف تجعل هذا التفهم والتفاهم العام مستحيلا. بعكس التعددية التي تفسر امكانية التواصل الاخلاقي بين البشر. الامر الذي يسمح لنا بالقول بان قبول التعددية ، سوف يوفر التمهيد اللازم لاقامة هذا التواصل.

ثمة طريقة ثانية للتمييز بين النسبية والتعددية ، استعملها برلين وآخرون ، فحواها ان التعددية تعتمد ما يمكن وصفه ب "نواة اساسية" للقيم الانسانية الرئيسية التي يشترك فيها جميع البشر. مجموعة القيم الرئيسية هذه اضافة الى القيم الاخرى التي يتبناها الناس في ظروف بعينها ، تقع جميعا ضمن "افق انساني مشترك" يضع حدودا لما هو مرغوب وما هو مسموح به اخلاقيا. وهي التي تمكنهم من التواصل والاتفاق على مسلك مشترك ، او – على اقل التقادير – بعض القضايا او المعايير الاخلاقية المشتركة. 

تستند هذه الرؤية على اعتقاد بوجود طبع اساسي كوني ، هو الجذر المشترك لجميع انماط الحياة التي عرفها البشر ، على امتداد الازمان والاماكن. ربما نسميها الفطرة الانسانية او الطبيعة الانسانية التي توجد في كافة الناس ، في جميع الاماكن والازمان. تلك الرؤية ربما تتضمن ايضا اعتقادا بوجود "شعور اخلاقي" محدد ، متجذر في النفس البشرية.  يبدو ان برلين قد آمن بهذه الملكة النفسية وربطها بالتقمص الوجداني. لكن هذا التفسير بقي وجهة نظر موجزة ، ولم يعمل على تطويرها كفكرة قائمة بذاتها. 

هنا طريقة ثالثة في شرح النسبية وبيان تمايزها عن التعددية. وخلاصتها ان النسبية تعني ان الاشياء ليس لها قيمة بذاتها وفي ذاتها. قيمة الاشياء مشروطة بموقعها في منظومة ما ، حالة أو رؤية معينة. ان مصدر القيمة يقع في خارج الشيء وليس في ذاته. وفقا لهذا المعنى فليس ثمة شيء هو خير بذاته ، وبغض النظر عن موقعه أو علاقته بأي شيء آخر. بعبارة اخرى ، وان كانت مختلفة قليلا ، فان هذه الفكرة يمكن ان تنصرف الى القول بأنه لا يوجد شيء اسمه "قيم عليا" اي قيم صالحة مطلقا وفي كل وقت. كل القيم – حسب هذه الرؤية – صالحة على درجات مختلفة ، تبعا لاختلاف الظروف. فقد تكون كذلك في هذا الظرف ، لكنها في ظرف ثان غير صالحة اصلا. وفي ظرف ثالث قد تكون صالحة كليا ، وهكذا. كمثال على هذا: الحرية تحظى بالأولوية القصوى في مكان وزمان بعينه. لكنها ليست كذلك في ظرف آخر ، حيث تبرز قيمة أخرى كأولوية (العدالة الاجتماعية او النظام او السلامة العامة او المساواة مثلا). المهم – وفق لهذا التفسير للنسبية – ان القيم ليست وصفا مطلقا ولا هي قائمة بذاتها مستقلة عن العوامل الاخرى الخارجية. 

هنا أيضا ، يبدو مفهوم برلين للتعددية متعارضا مع مفهومه للنسبية. لأن التعددية تقول بأن بعض القيم على الاقل ،  خير مطلق وضرورة لبني آدم ، انها قيم عالية في الجوهر ، وهي أقرب الى الغايات (هي جوهر الخير)، وليست مجرد أدوات لفعل الخير. ثم ان بعض القيم على الاقل صحيحة وسارية المفعول على المستوى الكوني ، حتى لو لم يكن الجميع كذلك وحتى لو لم يتفق الجميع على كونيتها. ويقر برلين بان الحرية على سبيل المثال ، لم تكن محل اتفاق جميع الناس. تكشف التجربة التاريخية ان أقلية من البشر قد تبنوها كقيمة عليا مستقلة ، لكنه – رغم هذا الاقرار – يصر على ان الحرية قيمة كونية مستقلة وهي قيمة اصيلة لكافة الناس في كل مكان.

في سياق مماثل يقترح ستيفن لوكس ان النسبية تسعى لتفادي او الغاء التعارض الاخلاقي. فحوى رؤية لوكس ان اختلاف سريان القيم ، راجع الى اختلاف الناس الذين يتبنونها ويتبعونها ، وحسب تعبيره فان الليبرالية قيمة رفيعة بالنسبة لليبراليين ، كما ان أكل لحوم البشر قيمة صالحة عند أكلة لحوم البشر[75]. فحوى هذه الرؤية ان انكار هذه النسبة وما يتبعها من تقسيم ، يعنى ان القيم المتعارضة ، ربما تكون ملزمة ، بل هي حقا ملزمة لكافة الناس.

على الجانب الآخر فان التعددية تتقبل حقيقة ان التعارض بين القيم ، يقع ضمن ثقافة واحدة او بين قيم تنتمي لثقافة ونظائرها في الثقافات الأخرى. وفقا لهذه الرؤية ايضا (على الاقل في الصيغة التي وضعها لوكس) فان التقاليد او منظومات العقائد او انماط الحياة التي تتبناها مجتمعات بعينها ، لا تصلح كنقطة مرجعية نعود اليها حين نحتاج للتغلب على تعارضات القيم[76]. هذا ليس الموقف الذي تبناه برلين على نحو صريح ، لكن كتاباته اللاحقة تشير الى نوع من الميل اليه.

يبدو ان موقف برلين يقع في منتصف المسافة بين هذا التصور للنسبية وبين اقتراح لوكس. فهو يقر بان الثقافات ليست متجانسة او عقلانية بالمعنى الأخلاقي. ان تعارضات القيم مشكلة مزمنة في كل ثقافة. ومن هنا فهو مثل لوكس لا يرى فائدة من العودة للتقاليد او الاعراف الخاصة بثقافة معينة ، كمرجع معياري للحكم في التعارض بين القيم ، على النحو الذي اقترحه مايكل اوكشوت ، حين اشار الى ما اسماه "استلهام التقاليد/التراث السياسي=  intimation of a political tradition"  في ترجيح طريقة للفصل في التعارضات الظاهرة ، والتي تنتج عادة عن محاولة الالتزام بمقتضيات الفعل العقلاني[77].

كان برلين مقتنعا بان معظم الأفراد - وهذا أمر يجري تجريبه دائما في الحياة الواقعية يعمدون الى اتخاذ قرارات حول كيفية الموازنة او الاختيار او التوفيق بين القيم المتعارضة ، على ضوء الالتزامات الحياتية والاعراف العامة السائدة في مجتمعاتهم ، والتي تشكلت (في الغالب على الاقل ان لم يكن بشكل كامل) على ضوء الاطار المعرفي والتقاليد الثقافية الخاصة بهذه المجتمعات. الحرية كمثال قد تكون خيرا اصيلا وجوهريا ومهما للجنس البشري في العموم. هذا على المستوى النظري. اما على المستوى العملي فان كيفية قيام البشر بتطبيقها وانجاز مقتضياتها ، ولا سيما الفصل بينها وبين شبكة كاملة من القيم  المجاورة ، وربما المزاحمة ، سوف تختلف بحسب اختلاف المجتمعات ، واختلاف تجاربها الثقافية والتاريخية.

على رغم هذه المحاولات الجادة لايضاح الفارق بين التعددية والنسبية ، لابد من القول انه ليس من السهل دحض الاتهام القائل بانهما مترادفان ، سيما بالنظر الى الضبابية التي تحيط بتحليل برلين ومناقشاته لبعض عناصر المسألة. ويتركز الجدل خصوصا على ثلاثة عناصر ، هي طبيعة القيم واصلها ، دور الاعراف والمعايير الثقافية المحلية ، ومعنى تفرد القيم اي عد م قابليتها للمقارنة والقياس incommensurability.

دعوى موضوعية القيم

اسلفنا القول ان برلين اعتبر القيم منتجات بشرية ، لكنه في الوقت نفسه اعتبرها "موضوعية". وليس واضحا الاساس الذي أقام عليه برلين دعوى موضوعية القيم. اما الدعوى نفسها فخلاصتها ان القيم مؤسسة على وقائع محددة في الطبيعة البشرية ، وهي محدودة بها أيضا ، او انها تعبيرات عن تلك القيم. تخدم هذه الرؤية تأسيسا مسبقا فحواه ان للبشر طبيعة مشتركة ، تستدعي قيما مشتركة ايضا ، اي كونية وليست نسبية ، وهذي من اهم نقاط الدفع ضد دعاوى النسبية.

رد النسبيين على الحجة السابقة: الحجة المذكورة اعلاه ، والتي فحواها ان القيم موضوعية لمجرد انها متبناة من قبل بني آدم ، قد  تسمح بقدر او بآخر بالنسبية أيضا. فاذا كانت موضوعية القيم رهنا بتبنيها من قبل البشر فحسب ، فانه يمكن للبشر ان يتبنوا اي قيمة ، حيث ستصبح لهذا السبب موضوعية ، (ويترتب عليه طبعا ان اي ممارسة يجري تبنيها كتمهيد او وسيلة لتطبيق مقتضيات القيم ، يمكن ان توصف بانها موضوعية) [78]. 

لكن القبول بهذه الرؤية على اطلاقها مشكل جدا ، لانه يبتذل مفهوم الموضوعية على نحو يجعلها تافهة وعبثية. ولذا فقد يكون من الضروري اضافة اعتبارين آخرين لتلافي هذا المصير: الاعتبار الاول: مدى انتشار القيمة محل النقاش ، اي مقدار تبنيها بين البشر ، هل يشكلون نسبة معتبرة من المجموع ام لا. والاعتبار الثاني هو امكانية تبرير القيمة محل النقاش ، بكونها تحقق خيرا قطعيا لبني آدم ، والمقصود طبعا الخير الذي يتقبله العقلاء أو يمكن تبريره على ارضية عقلائية. 

دعوى تفرد القيم

قول برلين بان القيم متفردة ، بمعنى انها غير قابلة للقياس والمقارنة incommensurable يعتبر واحدا من اعقد المشكلات في مفهوم التعددية الذي يدعو اليه. فقد قاد هذا المفهوم الى تفسيرات متفاوتة. لتوضيح ابعاد المسألة ، يمكن لنا ان نعرض تمييزا ثلاثي الابعاد ، بين التفرد الضعيف والتفرد المعتدل والتفرد الشديد. اما الضعيف فيظهر في القول بان القيم لا يمكن وضعها في ترتيب كمي (اعلى/ادنى) لكن يمكن ان توضع في ترتيب هرمي بناء على التفاضل النوعي/الكيفي ، وان هذا الترتيب قابل للتطبيق بصورة مضطردة في كل الحالات.

ذهب برلين مسافة أبعد من هذه. لكن لم يتضح لنا ما الذي يتبناه على وجه التحديد ، بين نسخ التفرد المعتدل والمتشدد. النسخة المعتدلة على سبيل المثال ، فحواها انه لا يوجد معيار مطلق وحيد ، يمكن اعتماده في المفاضلة بين القيم. ليس ثمة "مسطرة اخلاقية" ولا وحدة قياس أخرى ، متفق عليها بين العقلاء ، تعيننا على المقارنة بين هذه القيمة وتلك[79]. هذه الرؤية هي بالتأكيد الأكثر تعبيرا عما كتبه برلين منذ ثلاثينات القرن العشرين فصاعدا. انها تقول ببساطة بعدم امكانية القياس المقارن على نحو مطلق ، لكنها في الوقت نفسه لا تنفي امكانية المفاضلة بين القيم ، والحكم بتقديم واحدة وتأخير غيرها بحسب الحالات والظروف ، وما تنطوي عليه من خصوصيات. بعبارة اخرى فاننا قد لا نتمكن من وضع مقياس عام ودائم ، يرتب القيم حسب افضليتها ، لكننا في الوقت نفسه نستطيع وضع اولويات بحسب الظرف والحاجة ، فنقدم قيمة ونؤخر الاخرى او نتركها ، وهذا ما يفعله العقلاء دائما في حياتهم اليومية.

القراءة السابقة توحي إذن بان برلين يتبنى النسخة المعتدلة من فرادة القيم. لكن بعض كتاباته تقدم قراءة دراماتيكية للمفهوم ، على نحو يوحي بتبنيه النسخة المتشددة من التفرد. في هذه القراءة يظهر مفهوم التفرد مشابها ، بدرجة او بأخرى ، لمفهوم عدم القابلية للمقارنة incomparability. حين نقول بان لدينا شيئين لا يقبلان المقارنة ، فاننا نعني انه لا توجد اي عناصر تماثل بينهما ، كما لا يمكن الحكم عليهما رجوعا الى معيار واحد مشترك ، وان كلا من الشيئين ذو طبيعة او وظيفة مختلفة تماما عن الآخر ، بحيث لا يوجد موضوع او مبرر للمقارنة بينهما.  لهذا السبب فان الاختيار بين القيمتين (او بين مجموع القيم) لن يأتي كنتيجة لمقارنات تعتمد التقييم الموضوعي ، بل ستكون مبنية فقط وفقط على ارضية التفضيلات الشخصية او ربما الاختيار التعسفي البحت ، الذي اسماه برلين في بعض الاحيان plumping او الذهاب مع الغريزة واتخاذ قرار غير مبني بالضرورة على معيار موضوعي او تحقيق علمي.[80]  نعلم بطبيعة الحال ان قرارا كهذا ، وان وصفناه بالتعسفي ، لن يكون اعتباطيا او جاهلا ، فهو قد يستمد من تجربة ثقافية او اجتماعية عميقة ، او من تفضيلات اخلاقية ذات طابع محلي.

4.5- كيف نختار بين القيم اذن؟

القول بتفرد القيم يثير سؤالا ضروريا ، حول دور العقل في النقاشات المتعلقة بالقيم والاخلاق:

**  اذا كانت القيم متفردة وغير قابلة للقياس والمقارنة ، فهل سيكون الاختيار بين القيم المتعارضة ، شخصيا او لا عقلانيا؟.

** واذا كان الجواب نعم ، فما هو وجه الاختلاف بين التعددية وبين الذاتية subjectivism والنسبية المتطرفة radical relativism؟.

** واذا كان الجواب لا ، فكيف يجري التدليل الاخلاقي او العقلنة في المجال القيمي؟ ، اي كيف يمكن لنا ان نتخذ خيارات عقلانية بين القيم ، بينما نفتقر الى اي نظام او وحدة قياس ، يمكن استعمالها في هذا النوع من المداولات والمقارنات؟.

احد الاجوبة الممكنة للسؤال الأخير هو الفكرة التي عرضناها آنفا ، وخلاصتها ان نستعمل نوعا من التدليل العملاني الظرفي ، الذي ليس كميا ولا هو قائم على قاعدة واحدة او مسطرة متفق عليها ، بل هو متصل بالاحساس الاخلاقي والقيمي المتجذر في تجربة المجتمع الثقافية والتاريخية. هذا ما يقترحه برلين. لكنه لم يقدم تفسيرا نظاميا يبرر – علميا - هذا التدليل غير النظامي[81].

التعددية والليبرالية

 حين نتحدث عن التعددية في مجال الفلسفة السياسية ، فسوف نرى ان اكثر ما يثير الخلاف  هو صلتها بالليبرالية. هذا الخلاف يتطابق مع نظيره الخاص بالمسافة بين التعددية والنسبية. مبعث ذلك الخلاف هو الاعتقاد بان الليبرالية قائمة على منظومة محددة من القيم وحقوق الانسان الاساسية ، التي تتسم جميعا بانها كونية. ونعلم ان النسبية لا تقر باعتقاد كهذا. لكن مع هذا ، ثمة من يسعى لعرض اطروحة معتدلة ، فيقول ان التعددية متمايزة عن النسبية ، بل ومفضلة عليها ، الا انها في الوقت نفسه متطرفة جدا. ولهذا السبب ربما ، أمست التعددية موضع نزاع ، وهي غير مستقرة على النحو الذي يسمح بالاتكاء عليها في تبرير الليبرالية (او ربما بالعكس ان الليبرالية مفهوم كوني جدا بل مطلق الى حد لا يسمح باعتبارها متصلة بالتعددية).

ان جون غراي هو الداعم الرئيس لهذه الرؤية ، وهو الوحيد بين سائر المفكرين ، الذي تحمل مسؤولية اطلاق هذا النقاش وتطويره. يؤكد غراي ان التعددية حقيقية ، وانها تقوض الليبرالية ، وانه بناء على هذا ينبغي التخلي عن الليبرالية ، على الاقل فيما يخص دورها التقليدي ، الذي تدعي الفلسفة السياسية انه كوني.[82]  

أثارت مناقشات غراي رغبة واسعة في مراجعة العلاقة بين التعددية والليبرالية ، وصدر العديد من الابحاث حول المسألة في العموم ، وحول منظور برلين ومفهومه للمسألة. وقد اتفق بعض الباحثين مع رؤية غراي ، بينما حاول آخرون التدليل على امكانية التسوية بين الليبرالية والتعددية ، مع انهم – في نهاية المطاف – اقروا بان التسوية تتطلب تعديلات في كلا الجانبين ، التعددية والليبرالية ، تعديلات مبررة على اي حال ، بل لا نبالغ لو قلنا انها مرغوبة. ولعل اوسع النقاشات التي نشرت حتى وقت كتابة هذه المقالة ، هي تلك التي أعدها جورج كراودر وويليام غلاستون.[83]

كرس برلين نفسه لكل من التعددية والليبرالية. مع انه لم ير استدلالا منطقيا يمكن ان يربط بينهما (الواقع انه اقترب احيانا من افتراض امكانية هذا التدليل. انظر مثلا برلين: الحرية 285 ). لكنه مع ذلك يعتقد ان المبدأين متواصلان  ومتناغمان. كانت نسخة التعددية التي طورها برلين ، ليبرالية قطعا ، في فرضياتها واهدافها ومستخلصاتها ، تماما مثل نسخته من الليبرالية التي كانت تعددية قطعا. وكما لاحظ مايكل والزر فان السمات البارزة في تعددية برلين هي "الانفتاح/التقبل والكرم والتشكك" التي ان لم نعتبرها قيما ليبرالية ، فهي اذن سمات للذهن تهيئه لتقبل القيم الليبرالية[84].

5-الفكر السياسي

5.1- مفهوم الحرية

مقالة برلين في التمييز بين الحرية السلبية والايجابية ، هي اسهامه الاكثر شهرة في النظرية السياسية. وقد تم شرح هذا التمييز وتلخيص الادبيات الواسعة التي نشرت حوله ، في مكان آخر من الموسوعة الفلسفية[85]. ولذا سيقتصر عرضنا هنا على المحاججة الاصلية لبرلين ، والتي غالبا ما اسيء فهمها ، لأسباب من بينها غموض برلين نفسه. للتوضيح يجب التشديد ابتداء على أن اطروحة برلين التي نتحدث عنها تهتم أساسا بالحرية السياسية ، وليس بما أسماه في أواخر حياته "الحرية الاساسية" التي تعني "حرية الاختيار" او الارادة الحرة ، التي من دونها سيكون اي نوع من الحرية مستحيلا. حقا الحرية التي "لا يمكن للانسان ان يبقى انسانا اذا فقدها".

في هذه الرسالة "مفهومان للحرية Two Concepts of Liberty " سعى برلين الى إيضاح الخط المائز بين طريقتين للتفكير في الحرية السياسية ، قال انهما منتشرتان في ارجاء الفكر الحديث ، وهما في قلب الصراعات الايديولوجية المعاصرة.  اطلق برلين على هذين المفهومين اسم الحرية السلبية والحرية الايجابية [86].

لم يعالج برلين المفهومين على نحو متساو. لقد عرض الحرية السلبية بشكل واضح وبسيط الى حد كبير. لكنه في المقابل اعطى تعريفين اساسيين للحرية الايجابية ، الامر الذي فتح الباب للمزيد من التفريع على كلا التعريفين. الحرية السلبية وفقا لتعريف برلين الأولي هي "تحرر من" اي غياب العوائق التي يفرضها الآخرون عليك. وعرف الحرية الايجابية بانها "الحرية في" اي الامكانية ، وليس فقط الفرصة ، امكانية ان تسعى وتحصل على الاهداف التي تريدها ، اضافة الى الاستقلال الذاتي ، اي ما يقابل الاتكال على الغير.

ثمة تعقيدات اكثر في تحليل برلين لمفهومات الحرية ، سببها امتزاج التحليل المفهومي بالتاريخ ، فقد ربط بين الحرية السلبية وبين التراث الليبرالي ، كما ظهر وتطور في بريطانيا وفرنسا منذ القرن السابع عشر ، حتى اوائل القرن التاسع عشر. وقد اعرب لاحقا عن أسفه حين أغفل حقيقة ان مفهوم الحرية السلبية ، قد استعمل في العديد من الأمور الشريرة ، مثل استغلال البشر تحت مظلة الرأسمالية laissez-faire capitalism.

على اي حال فان أطروحة برلين تعرض الحرية السلبية في صورة جميلة ، لكنها مختصرة ، فقد انصب تركيزه على المفهوم الآخر اي الحرية الايجابية ، لانه وجد مفهومها ملتبسا كما قال  - ولانها تعرضت خلال تاريخها للعديد من التحولات العميقة والانحرافات التي تستدعي التوضيح والتصحيح.

وفقا لبرلين فان جذر المفهوم الايجابي للحرية ، منغرس في النظريات التي تركز على الاستقلال الذاتي للانسان وقابليته لتقرير مصيره[87]. بين تلك النظريات ، وجد برلين ان نظرية روسو في الحرية تنطوي على خطورة. السبب في هذا - وفقا لبرلين - يعود الى مساواة روسو بين الحرية مع حكم الذات/الاستقلال self-rule من جهة ، وبين حكم الذات مع طاعة ما اسماه بالارادة العامة general will‎ من جهة ثانية. يزعم برلين ان روسو اراد في الاساس المصلحة المشتركة او العامة ، اي ما يعتبر الافضل لكافة المواطنين ، من حيث كونهم مواطنين. وفقا لرؤية روسو فان الارادة العامة مستقلة تماما عن الارادة الشخصية للافراد ، التي تتسم بالأنانية ، بل ومخالفة لها ، ذلك ان الفرد غالبا ما يتعرض للخداع في تصور مصلحته الحقيقية. 

تتعارض رؤية روسو مع رؤية برلين السياسية والاخلاقية في جهتين:

الاولى انها تفترض وجود مصلحة عامة فريدة 'حقيقية' ، اي منظومة واحدة من الترتيبات التي تعتبر الافضل لكافة المواطنين ، ومن هنا فهي تتعارض مع الخط العام لمبدأ التعددية.

الثانية: ان رؤية روسو استندت الى تحويل مخادع لمفهوم الذات. في نظريته حول الارادة العامة ، تحرك روسو ،  من الرؤية المتعارفة ، الصحيحة كما يؤكد برلين ، التي تتعامل مع الذات كفرد ، الى رؤية تتعامل مع الذات كمواطن ، الذي يعني عند روسو: الفرد باعتباره عضوا في جماعة أكبر ، فرد هويته ومصلحه ورفاهيته مطابقة تماما لتلك الفائدة المقررة في الجماعة الاكبر. بعبارة اخرى فان روسو حول مفهوم الارادة الخاصة بالذات ، من توليفتها الاولى الممثلة في ما يرغبه الفرد واقعيا وبحسب التجربة ، الى مايجب ان يرغبه الفرد من موقعه كمواطن ، اي ما يعبر عن مصلحته الحقيقية المثلى ، سواء كان قادرا على تحديدها وانجازها ام لم يكن.

لاحظ برلين ان هذا التحول ، اتخذ مسارا أكثر سوءا على يد تلاميد ايمانويل كانط في المانيا. أما ايمانويل كانط نفسه فكان قد ربط بين الحرية "الايجابية" وبين قابلية الشخصية العقلانية للاستقلال وتقرير المصير. ومقصوده بالشخصية العقلانية: الذات المتحررة من كل ما يجعلها مفككة ، غير متوازنة ، او غير عاقلة. في وقت لاحق ذهب الفلاسفة الألمان المتأثرون بكانط ، خطوات ابعد في الربط بين الذات التي تتولد حريتها من قابليتها لتقرير مصيرها ، وبين حالات عارضة. فانصرف مفهوم الحرية الى النجاح في تجاوز الذات الفقيرة ، المفككة والزائفة ، الى نفس ارفع واغنى ، اي بلوغ حقيقة الانسانية وما يريد الفرد ان يكون عليه ، ذاته الحقيقية ، الجوهرية. قد يمكن لهذه النفس ان تجد مكانها مع المصالح الحقيقية الامثل للفرد ، باعتباره فردا مستقلا او باعتباره عضوا في جماعة او منظومة اكبر.

وفي هذا السياق ، نلاحظ ان تلميذ كانط البارز يوهان فيخته ، أخذ المسألة الى مدى أبعد حين ساوى بين الحرية وبين "حكم الذات الحقيقية" التي تفهم باعتبارها الامة او الشعب. من المفيد الاشارة الى ان فيخته كان في أول أمره ليبراليا فردانيا متطرفا ، ثم تحول الى قومي شديد التعصب ، بل عرابا فكريا للفاشية وحتى النازية. فيما يخص رؤيته السابقة الذكر ، فان الفرد لا ينجز حريته الا اذا تنكر لرغباته وميوله ، بل ومعتقداته الشخصية (المرتبطة به كفرد مستقل) وتخلى عنها كي يذوب تماما في الجماعة الكبرى.

ثمة تعريف آخر للذات "الحقيقية" يماهيها مع سبب ، او فكرة ، او املاءات العقلانية ، كما في تعريف هيجل للحرية ، الذي يساويها مع الاقرار بقوانين التاريخ التي يكشف عنها العقل ، ثم طاعتها. يعتقد برلين ان هذه القفزات التنظيرية ، قد مهدت الارض لهيمنة الايديولوجيات الشمولية ، ومن ثم الحركات السياسية التي حملتها خلال القرن العشرين ، كما في حال الحركة النازية ، الفاشية والشيوعية التي زعمت انها تحرر الناس باخضاعهم – بل والتضحية بهم في غالب الاحيان – من أجل الجماعات الأكبر أو من أجل المباديء. 

هذا فعل يماثل أسوأ شرور السياسة. واذا فعلته أو دافعت عنه باسم الحرية ، المبدأ الذي خصه برلين بحفاوة استثنائية ، فسوف يكون صدمة موجعة لبرلين الذي سيراه بمثابة "تراجع غريب" او "انتحال بشع" يسيء الى قيمة من أرفع القيم الانسانية[88]. في مقابل ذلك التراجع والانتحال البشع ، تبنى برلين المفهوم السلبي للحرية ، اضافة الى رؤية تجريبية للذات ، معتبرا اياها أجلى تعبير عن الحقيقة وأصدق تمثيل لجوهر الانسان.

رؤية برلين هذه واجهت اعتراضات واسعة وعميقة ، على ارضية تاريخية ومفهومية. لكن وراء النقاش العريض حول سلامة تلك الرؤية من حيث المفهوم ، او مصداقيتها رجوعا الى التاريخ ، فانه من المهم الاشارة الى وجود سوء فهم واسع النطاق ، يتناول تعامل برلين مع المفاهيم التي يناقشها ، والاغراض التي يرمي اليها في محاضراته. من أجلى مصاديق سوء الفهم على سبيل المثال ، ان اهتمامه الخاص بالحرية السلبية ، ونقده للقائلين بالمفهوم الايجابي ، قد جرى تفسيره كموقف مضاد للحرية الايجابية ، بل وصف برلين بأنه عدوها اللدود. هذا الوصف زائف بالتأكيد ، لأنه يخلط بين موقفين متناقضين: معارضة الآراء التي تشوه الحرية الايجابية ، ومعارضة الحرية الايجابية ذاتها.

بالنسبة لبرلين فان كلا المفهومين (الحرية السلبية والحرية الايجابية) يرتكزان على دعوى صادقة ، بشأن ما هو حسن وما هو ضروري لبني آدم. اضافة الى هذا فهو يرى ان كلا من المفهومين قيمة أصيلة وصحيحة ، مع انهما قد يقعان في مواقف متعارضة أحيانا. لكنهما يجتمعان في حالات أخرى ، بل ربما يكونا متعاضدين متساندين. والحق ان ايضاحات برلين المبكرة لما يتبناه من قيم سياسية ، تضمنت عناصر من الحرية الايجابية في موازاة الحرية السلبية[89]. اما الشيء الذي كان موضوعا لانتقادات برلين ، فهو الكيفية التي جرى فيها او بواسطتها استغلال المفهوم الايجابي للحرية ، من اجل تبرير الاستبداد ، وانكار او خيانة او التخلي عن الحرية في مفهومها السلبي ، فضلا عن استخدام مفهوم مشوه للحرية الايجابية في اغراض معاكسة لجوهر الحرية.

زبدة القول ان برلين لم يكن بصدد انتقاد الحرية الايجابية بذاتها ، بل صب اهتمامه على الفرضيات الميتافيزيقية او السيكولوجية ، التي تعاضدت مع المفهوم الايجابي للحرية ، فقادت الى انحراف هذا المفهوم ، وتحوله الى مبرر للأحادية والفهم الميتافيزيقي او الجمعي للذات. من هنا ينبغي التأكيد على ان اطروحة برلين "مفهومان للحرية" ومذهبه الليبرالي في العموم ، لم يكونا قائمين على تبني مفهوم الحرية السلبي كمقابل لمفهومها الايجابي ، بل كان محور تلك الاطروحة هو الدفاع عن الفردانية ، التجريبية والتعددية ، في مقابل الجماعية ، الشمولية ، الاحادية ، والعقلانية الميتافيزيقية.

5.2-الحرية والتعددية

الرابط الرئيس بين الحرية والتعددية في تحليل برلين ، هو المكانة المركزية للاختيار في كلا المبدأين. تتلخص حجة برلين في التالي: تحفل الحياة اليومية باشكال عديدة من تعارضات القيم وانماط العيش. وهذه التعارضات تشكل الموضوع الذي تتجلى فيه قدرة البشر ، او رغبتهم في انتخاب خيارات واتخاذ قرارات تحدد ما الذي سيفعلون.  هذه الخيارات في غاية الأهمية ، لانها تنطوي على السؤال الأساسي الاكثر اهمية في حياة الانسان ، سؤال: اي شخص تريد ان تكون وماذا ستفعل. هؤلاء الذين يتوجب عليهم ان يتخذوا قرارا كهذا ، سوف يرون حاجة للاهتمام بتلك التعارضات وما يترتب على كل منها ، وسيهتمون خصوصا بأن يكونوا في موقع من يختار ويتخذ القرار الذي يؤثر على حياته. أضف على هذا ، حريتك في ان تختار من ستكون وكيف ، وقدرتك على الاختيار بين قيم متعارضة وانماط حياة متعددة ، هو جوهر هوية الانسان بوصفه فاعلا اخلاقيا. (ينبغي الانتباه الى ان هذه الدرجة من المحاججة ، لا ترتبط على نحو دقيق بالتعددية في مفهومها الاولي الخام ، لكنها فرضية مركزية في مفهوم برلين للفردانية الاخلاقية ، وهو مفهوم ادمجه برلين في رؤيته الخاصة حول تعددية القيم).

احد الاسئلة البديهية هنا: لماذا يريد احد الناس ، حرمان الآخر من فرصة الاختيار واتخاذ القرار المتعلق بطريقة عيشه؟.

هذا سؤال قد يبدو غريبا ، لكنه واقعي. الانظمة الشمولية تفرض قيما وانماط عيش محددة وتمنع غيرها. وهي بهذا تحرم الناس جميعا من حقهم في ان يختاروا لانفسهم. لو سألت اصحاب هذه الانظمة عن المبرر الذي يعتمدون عليه ، فسوف تسمع جوابا (من بين اجوبة أخرى محتملة) فحواه ان الافراد قد يختارون الخيار الخطأ. ولذا فمن الضروري ان تجبرهم او تحدد خياراتهم ، كي لا يأخذوا غير الخيارات الصائبة. هذا مخالف لمبدأ التعددية بطبيعة الحال. هذا المبدأ يقول انه حيثما  وجدنا تعارضا بين القيم الحقيقية ، فلن يكون ثمة خيار وحيد صائب. بل سيكون هناك اكثر من خيار ، ربما تكون متساوية من حيث قابليتها لتحقيق مصالح الانسان وخدمة قيمه الحقيقية ، حتى لو كان الاخذ ببعض هذه القيم سوف يؤدي (وهذا ما يحدث عادة) الى تهميش القيم او المصالح الاخرى التي تشكل بدائل عن سابقاتها ، او حتى التضحية بتلك  القيم والمصالح. لا بد من التنبيه هنا الى ان اختيار مصالح او قيم بعينها وترك الاخرى ، هو اختيار بين بدائل متساوية ، ولا يدل على ان ايا من هذه التي اختيرت او التي تركت ، اكثر اهمية او اعلى مرتبة من الاخرى أو العكس.

على نفس المنوال ، فليس ثمة حياة واحدة مثالية ، وليس ثمة نموذج وحيد للتفكير او السلوك ، ينبغي للناس ان يسعوا للتعرف عليه او الاقتداء به ، او تكييف حياتهم بما يتوافق مع مقتضياته. الحقيقة ان هناك خيارات عديدة لحيوات متباينة ، بعضها يتجاوز حدود ما هو مألوف من وجهة نظر انسانية اعتيادية ، ولذا فلن يلاموا لو تركوها. لكن على اي حال ينبغي تلافي الخلط بين ما نعتبره اطارا انسانيا عاما ، وبين ماهو اطار لمنظور خاص ، يشكل احتمالا مقابلا لاحتمالات اخرى ، تقع جميعا ضمن ما نستطيع تصنيفه تحت عنوان "الافق الانساني".   

هذا يكشف إذن ان مبدأ التعددية التي يتبناه ايزايا برلين ، يقوض واحدا من ابرز المبررات المستعملة في  انتهاك حرية الاختيار. كما انه - من ناحية  أخرى يؤكد على الأهمية الكبرى والقيمة الرفيعة ، لقدرة الانسان على انتخاب خياراته بحرية [90].

كان بعض الباحثين قد جادل بان القيمة الرفيعة التي اضفاها برلين على حرية الاختيار ، تستند جزئيا على مفهومه للتعددية. لكنها تتطلب أيضا اضافة مباديء اخلاقية ومثل ideals ومسلمات خارجة عن التعددية ذاتها.  وبالنسبة لبعض هؤلاء فان الحاجة المذكورة قد تعني ان تعددية برلين غير متوافقة مع الليبرالية ، بل تؤدي الى تقويضها. آخرون مثل جورج كراودر ، جادلوا بان مفهوم التعددية عند برلين يكفي بمفرده لانتاج الليبرالية. ان ليبرالية برلين مستمدة في الحقيقة من ايمانه بالتعددية[91]. لكن يبدو ان كراودر عدل عن رؤيته لاحقا ، فهو يقول الآن انه يمكن للتعددية ان تبرر الليبرالية ، في ظل الشروط التاريخية للحداثة فحسب ، وليس بشكل مطلق.

بات واضحا ان التعددية مكون اساسي في احتجاجات برلين ودفاعه عن الحرية. لكنها من زاوية اخرى أدت الى تعديل وتخفيف ليبراليته ، وحمته من التأثر بتيار الليبرتاريين او الليبرالية الكلاسيكية المطلقة ، الاقرب الى الدوغمائية ، وهو التحول الذي انتهى اليه العديد من المدافعين عن المفهوم السلبي للحرية. ايمان برلين بتعددية القيم ، قاده الى الاحتجاج دائما بأن الحرية السلبية مثل نظيرتها الايجابية ، قيمة اصيلة وحقيقية ، ينبغي ان تؤخذ على نحو متوازن ، وان الحرية السياسية ، ايا كان نوعها ، تفهم باعتبارها جزءا من نمط قيمي وحياتي ، يضم قيما أخرى بالضرورة ، وان هذه القيم قد تكون في صورتها الاولية متعارضة ، الامر الذي يستدعي وضع سلم اولويات او تهميش بعضها لصالح أخرى ، وهو ترتيب تقتضيه ضرورات الحياة اليومية ، لكنه لا ينبغي ان يؤخذ كدليل على تفاضل عام بين تلك القيم.

لقد كان برلين اكثر حساسية من كثير من الليبراليين الكلاسيكيين او المفكرين الليبرتاريين ، ازاء حقيقة ان الحرية في جوهرها ، قد تتعارض مع المساواة الكاملة والجوهرية ، كما تتعارض مع العدالة التامة ، ومع النظام العام أو الامن او الكفاءة او السعادة ، في معانيها الكاملة والاصيلة. لكن الانسان ليس مضطرا للاخذ باحداها دائما وترك الاخرى دائما. الواقعي والعقلاني هو ايجاد نوع من الموازنة بينها ، وربما التضحية ببعضها لصالح أخرى.

تنطوي ليبرالية برلين إذن على توجهين: اهتمام شديد بالحفاظ على الموازنة بين القيم المختلفة ، وهو توجه ذو خلفية محافظة او براغماتية ، يقابله توجه ذو خلفية ديمقراطية- اجتماعية يؤكد على الحاجة لتقييد الحرية في حالات خاصة لصالح اقرار العدالة والمساواة ، ومن اجل حماية الضعفاء كي لا يضحى بهم لصالح الاقوياء[92]. لكن في كل الاحوال يبقى برلين ليبراليا ، فهو يؤكد انه رغم كل المزاحمات المحتملة من جانب قيم معارضة للحرية ، فانه يجب المحافظة على حد ادنى من الحريات الفردية ، لا يمكن النزول عنه ، وان هذا من الاولويات السياسية الثابتة.

ويبرر برلين هذه الرؤية ، بالرجوع الى نسخة واقعية/تجريبية من حجة "القانون الطبيعي". كتب برلين في هذا الصدد عن وجود "حقوق طبيعية" متولدة عن الطريقة التي تشكل بها الوجود الانساني ، في جانبه المادي والذهني ، وان اي محاولة لتبديل او تحديد الحياة الانسانية على نحو بعينه ، ستؤدي بالضرورة الى حجب غرائز الانسان وميوله واهدافه وطموحاته ، التي يشكل مجموعها جزء من جوهر الانسانية التي نعرفها.

ان حرمان البشر من حقوق اساسية معينة ، يرقى في سوئه الى حد تجريدهم من انسانيتهم. ان الحرية ليست الخير الوحيد الذي يحتاجه المجتمع الانساني ، وليس من الصائب هدر القيم الاخرى في سبيل اقرارها.  مع ذلك فان التعددية الاخلاقية تضفي عليها اهمية عليا: يجب ان يكون الناس احرارا كي يتفهموا كافة القيم الاصيلة والحقيقية ، ويعترفوا بها ويسعوا من اجلها. انها بعبارة اخرى تمهيد ضروري لبقية القيم. من هنا ينبغي على المجتمع ان يعطي الاولوية ، لتوفير الحرية الضرورية كي يمضي الناس في تجربة الحياة الجديدة المتنوعة وفقا لتصوير جون ستيوارت ميل ومن اجل صيانة هذا التنوع على المستوى الشخصي والاجتماعي[93].

5.3 - القومية

في القسم السادس من رسالته "مفهومان للحرية" قدم برلين مناقشة مرتبكة نوعا ما ، لمثال الحكم الذاتي الوطني و"التحرر الوطني". وفقا لراي برلين فانه لا ينبغي ان شئنا التدقيق - ربط هذين المثالين بمفهوم الحرية ، مع انهما يعكسان حاجة متجذرة في نفس كل انسان ، حاجة لأن يكون عضوا في جماعة معترف لها بالحق في ادارة أمورها بنفسها[94]. استعمل برلين لفظ "وطني/قومي" على نحو ملتبس نوعا ما ، في الاشارة الى ظاهرتين متمايزتين ومختلفتين عن بعضهما من الناحية القيمية: الظاهرة الاولى هي ما اسماها برلين ايضا "الوعي القومي" اي شعور الافراد بالانتماء لهوية مشتركة ، وهو ما كتب عنه هيردر. اما الظاهرة الثانية فهي الشكل الملتهب لهذا الشعور ، الذي يتغذى على الاحباط وسوء المعاملة والاذلال ،  فيتحول الى شعور عنيف "مرضي". وقد كان برلين متعاطفا مع الظاهرة الاولى ، ناقدا للثانية ، مع انه اعترف بوجود صلة بين الظاهرتين ، وكان تبعا لهذا واعيا بالقوة والجاذبية التي ينطوي عليها الشعور القومي.

كان برلين قد نسب الى هيردر رؤيته القائلة بأن الانتماء الى هوية جمعية مشتركة ، والشعور بالذات المتولد عن هذا الانتماء ، هي حاجات انسانية أساسية ، الا انه من المستبعد ان يكون قد تعلم هذا الدرس من هيردر. لعل الارجح ان  قناعته الخاصة بفكرة الانتماء وكونه حاجة انسانية ، هي التي في المقام الاول - جذبته الى هيردر. لقد كان واعيا جدا بألم الاذلال والتبعية ، كان قوي الشعور بكراهية الحكم الابوي وما يسببه من ألم. فردانيته وتشديده على الحرية ، لم تكن فقط ثمرة لوعيه بكوننا كائنات اجتماعية ، تتحددهويتا الى حد بعيد بنظرة الاخرين لنا وتعاملهم معنا[95] ، بل أيضا بفهمه (اي برلين) للحاجة الانسانية للشعور بالانتماء الى جماعة ، وهو وعي شحذه - ان لم يكن قد ولده في الاساس تجربته الخاص في المنفى ، فضلا عن تاثير انتماء والدته العاطفي الى الحركة الصهيونية[96].

5.4- القيادة واتخاذ القرار

عدا عن كتاباته المشهورة في الحرية والتعددية ، تركز فكر برلين السياسي حول موضوعين مترابطين: طبيعة القرار السياسي political judgement ، وأخلاقيات الفعل السياسي. درس برلين الموضوع الاول بشكل مباشر وغير مباشر من خلال كتاباته حول الشخصيات السياسية ، وعرض فيها امثلة نموذجية عن أحكام سياسية ناجحة. [97]

عارض برلين الفكرة القائلة ، بان القرار السياسي يشكل تجسيدا للمعرفة ، التي يمكن تكثيفها في قواعد وأحكام. فهو يعتقد ان الفعل السياسي يجب ان ينطلق من "الاحساس بالواقع" وان يقوم على التجربة ، فهم وتفهم مشاعر الآخرين والتعاطف معهم ، الحساسية تجاه البيئة الاجتماعية والسياسية ، والقدرة الشخصية على تمييز ما هو حقيقي وما هو زائف او مخادع ، مهم او تافه ، قابل للتبديل والتعويض ام لا ، مؤثر او  غير ذي تأثير .. الخ. مثل هذه القابلية للحكم ، تنطوي بالضرورة على صفات غريزية وذكاء فطري ، يمكن صاحبه من اتخاذ القرار السليم حتى لو لم تتوفر مقدماته العلمية. ينبغي القول انه حين نتحدث عن عالم الفعل السياسي ،  فان المهارات الشخصية هي الميزة الاهم ، بل هي كل ما هو ضروري ، اما قواعد العمل والقوانين ، فليس لها سوى القليل من الاهمية[98].

صناعة القرار السياسي تشبه من بعض الوجوه دراسة التاريخ. صناعة القرار السياسي تنطوي على تحليل لمختلف العوامل ، التي تسهم في تشكيل شخصية فرد بعينه ، او ظرف سياسي واجتماعي او حدث[99]. هذا يتطلب قابلية لاستيعاب وادماج طائفة كبيرة من المعلومات المتعددة الالوان ، سريعة التغير ، التي تتداخل اجزاؤها على نحو يصعب فرزه. كما يتطلب اتصالا حسيا ومباشرا  ، يمكن رجل السياسة من وضع كل شيء في نصابه ، ومعرفة مسارات الحوادث وسلاسل التاثير والتأثر التي تربط بينها. بالنظر لكون هذه القابليات نوعية أكثر مما هي كمية ، فانها ينبغي ان تبنى على خبرة سابقة ، وليست معرفة نظرية مجردة. 

القابليات التي يتمتع بها رجال السياسة الناجحون ليست هدية من الغيب ، بل هي تجريبية اعتيادية وشبه جمالية[100]. هذا الاحساس السياسي متمايز عن اي نوع من المشاعر الاخلاقية ، ونيله ممكن لمختلف السياسيين ، الاشرار والاخيار على حد سواء ، كما يمكن لاي منهما ان يفتقر اليه. استيعاب اهمية الاحساس بالواقع السياسي ، لا ينبغي ان يثبط روحية البحث العلمي ، كما لا يصح ان يتخذ مبررا للانزلاق نحو الظلامية. بل ينبغي ان يثبط المحاولات الرامية لتحويل الفعل السياسي الى تطبيق للمباديء العلمية او تحويل الحكومة الى ادارة تكنوقراطية. .[101]

اراد برلين من وراء كتاباته حول القرار السياسي ، تحذير المنظرين في علم السياسة بأن لا يبالغوا في تقدير عملهم ، على نحو يتجاوز المجال الخاص للعلم. يمكن للنظرية السياسية ان تأتي بخير كثير ، لو ساعدتنا في جعل السياسة ذات معنى. لكن الفعل السياسي موضوع عملي ، لا ينبغي ولا يمكن ان يفرض او يبنى على مباديء عامة ، تم اثباتها من خلال تنظير مجرد.  

كتابات برلين عن القرار السياسي ، العمل السياسي والقيادة ، تشكل جزء من مشروعه المعرفي الاكبر: تسليط الضوء على التزاحم بين النظرية المجردة والمسلمات المسبقة ، وبين الاستيعاب المباشر للواقع ، والتحذير من المخاطر التي ربما تترتب على هيمنة الأولى او اغفال الثاني. وبينما اقر برلين بانه من المستحيل ان نفكر من دون استعمال المقارنات والرموز ، فان ذلك التفكير يتضمن بالضرورة تعميمات ومقارنات ، لا ينبغي ان تحجب عنا الحقائق القائمة في ميدان العمل ، وما تنطوي عليه من سمات فريدة ، قد لا تنسجم تماما مع المقدمات النظرية. اراد برلين التحذير من انه من المهم ان نكون حذرين ، واعين وناقدين حين نستعمل الموديلات العامة والمقارنات[102].

تعيد هذه الكتابات ايضا تأكيد رسالة برلين في شبابه "Some Procrustations’ 1930" والتي فحواها انه لا يصح تطبيق نفس القواعد ، على مختلف الاوجه في الحياة الانسانية ، من دون تبصر او ملاحظة للفروق بين حالة وأخرى. لا تتحقق العقلانية بتطبيق تكنيك واحد او مجموعة قواعد ، بل بتطبيق المناهج التي برهنت على فاعليتها في كل حقل او حالة بعينها. تتصل هذه الرؤية للقرار السياسي ايضا ، بمحاولة برلين اظهار اهمية الملكات والمؤهلات الشخصية لرجل السياسة ، وفي الحقل السياسي بشكل عام. يعتقد برلين ان الحكمة في القرار السياسي تعبر عن كفاءة شخصية  ، كما ان النشاط السياسي المؤثر ، وكذا القرار والفعل السياسي ، تأتي في الغالب كنتاج لتقدير شخصي ، اكثر مما هي انعكاس للادارة غير الشخصية او المؤسسية. او ان الاولى – على اقل التقادير – اكثر أهمية وتاثيرا من الاخيرة.

5.5- الاخلاق السياسية: العنف ، الغايات والوسائل

في مناقشاته لقضايا وموضوعات النظرية السياسية ، وجه ايزايا برلين اهتماما خاصا لعواقب الفعل السياسي والغايات المرادة من ورائه: ما إذا كانت متلائمة مع المعايير الاخلاقية ام لا. كما اقر بأهمية النقاشات الخاصة بالادوات ، ومدى تلاؤمها مع الغايات التي يدعى استهدافها والسعي من أجلها. لم يكن سؤال الاخلاق السياسية محوريا في ابحاث برلين ، فهو لم يتعامل معه بشكل مباشر ، كما لم يقدم اي جواب بسيط ومتين على الاسئلة المزمنة ، المتعلقة باخلاقيات الفعل السياسي. لكنه مع ذلك قدم اطروحات حول هذا الفرع من الأخلاق ، اطروحات نابعة من اعماق قلبه. 

عبر برلين عن قناعاته في هذا الصدد ، من خلال كلمات الناشر الراديكالي الروسي الكساندر هيرزن[103] التي اعادها مرارا وتكرارا ، كي تعبر عما يعتلج في نفسه من قناعات اخلاقية. بين أبرز الكلمات التي تكررت على لسان برلين ، تلك التي تدين التضحية بالبشر على مذبح النظريات المجردة ، وتلك التي تجعل حقائق الحياة الراهنة وما فيها من سعادة او شقاء ، رهنا لأحلام المستقبل الخيالية [104]. المبدأ الاول لاخلاقيات السياسة عند برلين ، هو معارضة اخضاع الحاضر لاحلام المستقبل ، وقد اعتبر هذا المسلك دافعا رئيسا للتعصب ، بل وصفة  للتوحش المروع.

مثل هيرزن ، آمن برلين ان "الغاية من الحياة هي الحياة نفسها"[105]  وان اي حياة واي عصر ، ينبغي التعامل معه باعتباره غاية قائمة بذاتها ،  تستحق الاهتمام لذاتها ، وانها ليست وسيلة لأي غرض مستقبلي. اضاف برلين الى هذه الرؤية ، تحذيرا حول عدم قدرتنا على التنبؤ بالمستقبل ، وهو تحذير مثير يذكرنا برؤية هيرزن وماكس فيبر على السواء. كان برلين مؤمنا بالقوة والفاعلية التي ينطوي عليها الانسان. لكنه في الوقت عينه كان واعيا لحقيقة ان لكل شيء حد ، وان مسارات الحوادث يمكن ان تذهب في اتجاهات غير متوقعة ، او حتى معاكسة لما كان مرادا في الأصل. وهذا ما دفعه للتشديد عل الحاجة للاعتدال والحذر ، ومن جهة أخرى الاصرار على ان عدم اليقين هو امر لا يمكن تفاديه ، وانه مهما بالغنا في اتخاذ الاحتياطات التي نراها ضرورية للسلامة ، فان كل فعل ينطوي غالبا على احتمالات الخطأ او حتى الكارثة ، وفي أحسن الحالات العواقب المزعجة أو غير المتوقعة. نتيجة لهذا التحليل المتشائم نوعا ما ، تبنى برلين ما يمكن وصفه بأخلاقيات التواضع السياسي the ethics of political humility ، على غرار اخلاقيات المسؤولية التي تنسب الى ماكس فيبر ، مع انها تفتقر الى جرسها المتين وما يوحي به من فخامة مدرسية.   

كان برلين أحد المفكرين الذين التفتوا الى مخاطر التفكير اليوتوبي ، والح في المقابل على الحاجة الى قدر من البراغماتية السياسية. من هنا فقد يبدو متأثرا جدا بتقاليد الواقعية السياسية ، التي تنسب في العادة الى مفكرين مثل ماكيافيلي (او ثيوسيديدس) حتى المفكرين والسياسيين المعاصرين من امثال ادوارد كار ، جورج كينان ، او هنري كيسنجر.[106] لكن لا ينبغي الاخذ بهذا التصور على علاته. الواقع ان برلين كان يسعى للتحذير من مخاطر المثالية ، من أجل ان ينقذها من نفسها ، وكي يحميها من التحول الى عباءة للنفاق السياسي. لكنه حين كتب حول "الواقعية في السياسة" ميز بين فهم صحيح للواقع ، فهم متحرر من غبش الانفعالات ، وبين فهم مائل للشر ، يتبناه أناس يدعون كونهم واقعيين من اجل التغطية على اتخاذهم لقرارات قاسية او حتى وحشية.

في هذا المعنى اقترن مفهوم "الواقعية" بالقسوة بل ربما اللاإنسانية ، واقعية لا تعبأ كثيرا حين تنحرف عن القيم السامية ، كما لا تلين أو تتأثر بالمشاعر الطيبة والعواطف والاعتبارات الاخلاقية. رأى برلين هذه الواقعية في الربط بين ما هو حسن وناجح ، وبالميل للاحتفاء بالقوة واستعراضاتها ، الكتائب العسكرية الضخمة وهي تجوب الميادين والشوارع الواسعة ، تعرض على الجماهير الوعود التي لازالت في رحم الغيب ، والشهداء والحالمين واحلامهم ، التي جرى محوها والقضاء عليها.[107]  أصر برلين على اهمية "الشعور بالواقع". لكنه في الوقت عينه كان ناقدا صريحا للشكل الثاني من "الواقعية السياسية" التي لم تكترث بنداء الضمير ، كما تجاهلت المثل الاخلاقية ، واتبعت ماتيسر لها من وسائل لتحقيق غاياتها ، بغض النظر عن ملاءمتها للفضيلة او الاخلاق. لعل السر وراء قلق برلين من الواقعية السياسية في هذا المفهوم المنافق والمتوحش ، هو شعوره بانها تمثل قوة قاهرة وفعالة جدا في حياة العالم السياسية.

كانت "الواقعية" قد فهمت كتبرير للنفاق والقسوة في العمل السياسي. وفي هذ المفهوم اعتبرها ايزايا برلين بغيضة وفوق ذلك غير واقعية ، بمعنى انها ليست متصلة بالواقع ، طالما استندت الى فرضيات من قبيل اعتبار الغايات مبررا للوسائل ، ايا كانت قبيحة.

بعكس هذا ، رأى برلين ان "الوسائل الشريرة تهدم الغايات الخيرة"[108]. ان اردت الوصول الى غايات طيبة فعليك التوسل بوسائل طيبة. هذه الفكرة ، اي جدلية العلاقة بين الوسائل والغايات ، شكلت مضمونا دائم التكرار في كتابات برلين. لقد كان من ابرز اهتمامات برلين ، التحذير من كلا الاتجاهين: الاصرار على النقاء السياسي من جهة ، والاغفال التام لاخلاقية الوسائل السياسية ، من جهة اخرى. وقد رأى انه عندما تتعارض القيم ، وتكون العواقب غير متوقعة في الغالب ، فان النقاء يصبح امثولة مستحيلة. اما اغفال الجانب الاخلاقي في الوسائل فانه ليس فقط قبيحا بذاته ، بل هو احمق ايضا ، لأن الغايات الطيبة غالبا ما تفسد وتنهدم بسبب الوسائل السيئة واللااخلاقية.

علاوة على هذا ، فان التهاون في استعمال الوسائل السيئة ، قد يؤدي الى خسارة كلية. في غالب الاحيان ، لا يستطيع السياسيون التنبؤ بما تؤول اليه قراراتهم ، وما تؤدي اليه افعالهم من عواقب. ان معظمهم لا يحقق الغايات التي سعى اليها ، أو انه على أقل التقادير لا ينالها على النحو الذي رغب فيه بالتمام والكمال. ولهذا فقد يكون من الافضل التحفظ في تقديم الاضحيات في طريق الاغراض السياسية ، لأن أحدا لا يستطيع الجزم بتحقيقها في الوقت الملائم. ثمة محاججة يذكرها عادة "الواقعيون" وفحواها انه لكي تصنع عجة البيض ، سوف تحتاج لكسر البيض اولا". رد برلين على هذه الحجة قائلا ان الشيء الوحيد الذي نحن واثقون منه ربما ، هو واقعية التضحية ، الموت والميت. اما المثال الذي يفترض انهم ماتوا من اجله ، فهو يبقى غير مؤكد. لقد كسر البيض ، وسوف يتحول كسر البيض الى عادة تنمو وتتفاقم ، لكننا لن نرى عجة البيض أبدا[109].

كان برلين مناهضا للاستبداد بشكل كلي. لكنه – الى جانب موقفه العام - اصر على انه ثمة افعال ستبقى غير مقبولة ، الا في الحالات الاشد قسوة. في مقدمة هذه الافعال الهيمنة على الافراد واذلالهم ، الى حد ان يمسي هؤلاء الذين حطت بهم اقدارهم في يد من هو اقوى منهم ، محرومين من انسانيتهم[110].

حذر برلين ايضا وبشكل خاص من استعمال العنف. ومع اقراره بان استعمال القوة قد يكون ضروريا ومبررا في بعض الاحيان ، الا انه لم يغفل تذكير قرائه بان العنف يؤدي الى منزلقات متفجرة وغير متوقعة ، وتميل الامور في ظل العنف للخروج عن السيطرة العقلائية ، مما يؤدي الى دمار وفوضى ، وتعويق او تعطيل اي مسعى لبلوغ الاهداف الخيرة. لم ينس برلين التحذير ايضا من الاخطار التي تنطوي عليها مساعي الاصلاح والتقدم ، التي تنطلق من منطلقات ابوية ، او تنطوي على اذلال او اضغاف لبعض الشرائح. مثل هذه المساعي سوف تشعل نيران الكراهية وستواجه مقاومة ، ربما تحمل نفس القدر من العنف والقسوة. 

دعنا اذن نلخص رؤية ايزايا برلين للاخلاق السياسية بكلماته نفسها:

دعونا نتحلى بما يكفي من الشجاعة كي نقر بجهلنا ، وبما يعترينا من ريبة وانعدام اليقين. نستطيع على الاقل ان نحاول اكتشاف ما يطلبه الاخرون ، بان نجعل من السهل على انفسنا ان تعرف الناس كما هم في الواقع ، من خلال الاصغاء اليهم بعناية وتعاطف ، وفهمهم وفهم حياتهم وحاجاتهم ، واحدا واحدا ، فردا فردا. دعنا على الاقل نحاول تزويدهم بما يطلبونه منا ، ثم نتركهم احرارا بقدر ما نستطيع.[111]

6- الخلاصة

لازالت حياة برلين وآراؤه محل اهتمام واسع عند الباحثين ، ومحل اختلاف أيضا. لعل تعدد القضايا التي عالجها ، وعلى الخصوص اهتمامه بالاحداث الجارية ، من الاسباب البارزة التي جعلت العديد من النقاد غير راضين عن آرائه ، سيما وانه تبنى مواقف معارضة لما كان محل اجماع في بعض الأوقات ، وهو أمر أثار أحيانا ردود فعل شخصية قوية. بعض قرائه عبر عن اعجاب بدفاعه الثابت عن الحريات الفردية ، الى حد اعتباره واحدا من قديسي الليبرالية.[112] كما واجه في المقابل نقدا يصل الى درجة العداوة ، من جانب اطراف في اليمين واليسار على السواء. سوف تجد في هذا الاطار من وصم برلين بالنفاق ، والرضا عن الذات ، جبنا عن مواجهة المواقف الصعبة ، وتسامحا يتجاوز المألوف.[113] دعنا نقول ان هذه المشاعر متوقعة ، رغم تباين مصادرها واسبابها. السر يكمن في معارضة برلين الشديدة للشيوعية ، في موازاة رفضه الاصطفاف مع اعداء الشيوعية الراديكاليين ، فضلا عن مواقفه المتحفظة (وتلك التي تبدو متناقضة في بعض الاحيان) تجاه العديد من قضايا السياسة التي اثارت خلافات كثيرة ، فلم يتخذ تجاهها مواقف فاصلة كما توقع معاصروه.

مع انتهاء الحرب البارة بين الشرق والغرب ، تلاشى جانب كبير من مبررات المعارك الايديولوجية ، وباتت جزء من الماضي ، ليس بالتمام والكمال ، لكن بقدر يسمح لنا بادعاء ان الوضع الان ، مختلف عما كان عليه في معظم النصف الثاني من القرن العشرين. رغم هذا ، فان برلين لازال موضوعا لاجتهادات وتقييمات شتى متباينة. قد يبدو هذا الامر غريبا ، بالنسبة لمفكر عبر عن آرائه بعبارات صريحة واضحة. غريب ، لكنه ليس مفاجئا ، اذا وضعنا في اعتبارنا التعقيد النسبي الذي اتسمت به رؤية برلين ، نفوره من عرض افكاره وتنظيراته بالطريقة المنهجية المعتادة ، الوجوه المتعددة لعمله الفكري ، وفرادة موقعه ضمن المشهد العام للفكر والثقافة في زمنه. هذه السمات تجعل من تقييم برلين مهمة شاقة ، لا يقل عنها مشقة المهمة الاخرى اي تحديد موقعه ضمن تاريخ الافكار ، اي الحقل الذي برز فيه هو نفسه. قد يراه البعض نموذجا لما كان عليه الحال في زمنه ، الذي اتسم بالتعدد وسيولة المناهج ، وقد يراه آخرون منفصلا عن مسارات عصره ، او حتى سابقا له ، بينما يراه غيرهم محاربا كلاسيكيا من ازمنة قديمة ، وجد نفسه فجأة في أواخر القرن العشرين.

خلال شبابه المبكر ، كان الاتجاه الفكري الذي تبعه برلين ، هو ذلك المتأثر بالتيارات الفلسفية الاكثر شهرة بين الناطقين باللغة الانكليزية. لكنه انزلق في وقت لاحق بعيدا عن الفلسفة التحليلية ، التي مال في أول أمره الى التعمق في قضاياها ومقولاتها. ويتضح من كتاباته اللاحقة ، الى اي حد ذهب برلين بعيدا عن غالب التيارات الفلسفية الشائعة ، في السياق الانجلو-امريكي في تلك الاوقات. من ناحية ثانية ، ينبغي القول ان برلين ، رغم المدى الواسع لاشاراته التاريخية والثقافية ، ورغم اهتمامه بالاسئلة الاخلاقية والجمالية ، ورغم تأثره الواضح بفلسفة كانط وخلفائه ، فانه يبدو بعيدا نسبيا عن عالم الفلسفة الاوروبية.

 لن يكون من الصواب بطبيعة الحال لو قبلنا برأي برلين نفسه ، حين قال انه خرج كليا من عالم الفلسفة. السبب في عدم القبول بهذا الرأي ، هو الآراء التي كونها خلال اشتغاله كفيلسوف محترف ، اي قبل ان ينقل اهتمامه الى "تاريخ الافكار" ، اضافة الى ميله للربط بين قضايا السياسة والتاريخ والثقافة ، وبين الاسئلة الاخلاقية والمعرفية الاكثر عمقا. هذا وذاك وضع اعمال برلين في مكان منفصل عن بقية المؤرخين و"المفكرين الشعبيين" في زمنه.

قضى برلين معظم حياته الفكرية منعزلا ، يتابع تاريخ الافكار في بيئة اكاديمية قليلة الاكتراث بهذا الحقل. دافع عن ليبرالية معتدلة ، في عصر سمته الرئيسية هي هيمنة النزعات الايديولوجية المتطرفة ، رغم ان خياره هذا لم يخفق تماما ، فقد شاركه في الدعوة للاعتدال والدفاع عن الليبرالية ، عدد معتبر من المفكرين وغيرهم[114]. قد يكون من الصدف الطيبة ان اهتمام برلين بالفلسفة السياسية ، ولا سيما دفاعه عن الليبرالية ، قد تقاطع مع عمل جون رولز (الذي تأثر بآراء برلين حين قضى شطرا من حياته الاكاديمية في جامعة اكسفورد) لكن بروز اهمية النظرية السياسية المعيارية بعد انتشار اعمال رولز ، تصادف مع فترة من التراجع في شهرة ايزايا برلين.

بدأ اهتمام برلين بقضايا الهوية والانتماء ، قبل وقت طويل نسبيا من انفجار صراعات الهوية في وسط آسيا وشرق أوربا وغيرها ، لا سيما في اوائل العقد الاخير من القرن العشرين. منذ البداية عبر برلين عن تعاطفه مع الاحاسيس والحاجات ، التي شكلت محركا للشعور القومي في بقاع شتى من العالم. وقد ميزه هذا الموقف عن كثير من المنظرين الليبرالين المعاصرين له. ويمكن القول ان هذا كان بشارة أولى بنهوض ما يوصف احيانا ب "القومية الليبرالية" في اعمال مفكرين شبان ، نظير مايكل والزر ، ديفيد ميلر ، يائيل تامير ، ومايكل ايغناتييف.  

كان برلين قد هاجم الاحادية ، كما هاجم السعي لليقين ومشروع المعرفة المنهجية ، وقوبل هذا الموقف باحتفاء عدد من نقاد التاسيسية   foundationalism مثل ريتشارد رورتي وجون غراي. مع ذلك يبقى من الصعوبة بمكان ، استيعاب اعمال برلين في اطار حركات فكرية ، او مشروعات من قبيل ما بعد الحداثة او التعددية الثقافية. عدم القدرة على تصنيف تلك الاعمال ضمن تيار فكري بعينه ، جعلها تبدو غامضة ومثيرة للشك عند بعض الباحثين ، سيما في السنوات الاخيرة من حياته.

ليس من السهل تأطير برلين ضمن المواقف الفكرية التي كان قد دافع عنها بصراحة ، سيما التعددية والليبرالية. مع انه يبدو مرجعا نموذجيا عظيم الاهمية لليبرالية ، جنبا الى جنب مع جون رولز ، المنظر الليبرالي الاكثر اهمية في القرن العشرين ، الا ان افكار برلين ربما تبدو في نهاية المطاف ، وكانها تعوق ، او على الاقل تتحدى النسخة المتعارفة (غالبا الاحادية) لليبرالية. هذا السؤال سيطر على اذهان كثير من قراء برلين ، وهيمن على النقاشات المتعلقة بتراثه ، الى الحد الذي ربما يهدد بالغض من قيمة الابعاد الاخرى لفكره.

يثير الجدل المتعلق بالليبرالية والتعددية مسائل مفهومية عالية الاهمية ، مع انه قد يصبح مضللا نوعا ما ، مضلل في حد ذاته ، ومضلل اذا اعتبرناه دليلا الى فكر برلين ، ولا سيما اذا تعاملنا مع كل من الليبرالية والتعددية كمذهب شامل ، او اذا تم اعادة تشكيلهما في كيانات مستقلة قائمة فعليا. واقع الامر ان الليبرالية والتعددية كمصطلحات عامة ، تعبر عن تجريد يمكن ان يساعدنا على جمع وتحليل ومقارنة المواقف التي يتخذها مختلف المفكرين ، او كي نميز الوجوه المختلفة لفكر احدهم. مع ان هذا لا يساعدنا – على اي حال - على الامساك بموقف فردي بكماله وتمامه ، كما انه لا يساعد ايضا في تلخيص فكر برلين ولا الاحاطة به.

كان برلين قد الح على ان النظريات السياسية والاخلاقية ، ثمرة لفهم المفكر للطبيعة البشرية. وهذه - بدورها - مؤسسة على رؤية فلسفية واسعة ، فهم لطبيعة الكون ، فهم للواقع وللمعرفة ، الخ. الرؤية التي تقوم عليها نظرية برلين السياسية والاخلاقية ، ليست منظمة منهجيا ، مع انها قد تكون متماسكة ومتينة (هذا بدوره محل جدل). لكن لا بد من تكرار القول بانه لا يمكن تصنيفها ببساطة كنظرية تعددية او ليبرالية. لكن على اي حال فان التعددية يمكن ان تستعمل في مفهوم اضيق ، لوصف نظرية برلين الخاصة بالقيم. 

ربما نستعمل نظرية برلين على نطاق اوسع ، لالتقاط شيء من رؤيته للواقع والكون والطبيعة البشرية ، أي الرؤية التي فحواها ان كلا من هذه الأشياء ، توليف معقد من أجزاء متمايزة ومتعارضة: أن الذات لا تبقى على حال واحدة ، فهي دائمة التحول ومفتوحة النهايات ، ان الكون ليس تكوينا صلبا أحاديا ، وان الواقع الذي نراه امامنا ينطوي على العديد من الجوانب المنفصلة ، والتي يمكن أن يُنظر إليها ، بل ينبغي ان ينظر اليها كلا من زاوية مختلفة ، كي نراها كما هي على حقيقتها.

لكن التعددية ، وفقا للتعريف الصريح الذي قدمه برلين وآخرون ، لا تتسع لميول برلين التجريبية ، ولا التاريخانية ولا قناعته بنقصان المعرفة البشرية ، ولا ايمانه بالاولوية المطلقة للفرد في مقابل التعميمات والتجريدات ، كما لا تتسع لتشديده على أهمية الاختيار الحر  ، الذي حاول ان يقيم بنيانه على الأرضية المفهومية للتعددية ، لكنه يبدو مستقلا عنها ، ولو بنحو جزئي.

فضلا عن هذا فان التعددية ، التي تشدد على انه ثمة في حياة البشر مكان للصراعات المأساوية وحتى الخسارة الكلية ، لا تتسع لحماسة برلين الدائمة للحياة وابتهاجه بالكائن الانساني ، والذي يظهر كعنصر ثابت في شخصيته وفي حياته الفكرية. لقد تشكل فكر برلين ، مثل كتابته من شبكات الوان متباينة في حدتها ، ثم تدرجا للالوان يتفاوت بين الاكثر حدة الى الاكثر نعومة ، كما لو انه ينتقل بين النور والظلمة. هكذا كان عمل برلين ، الذي اعتاد على مقاومة التحليلات المبسطة واستنتاجاتها الساذجة ، ووضع في اعتباره دائما ابقاء الافكار مفتوحة النهايات ، كي يعود هو او غيره من الباحثين الى مراجعتها مرة بعد مرة. الفكرة عنده متحولة ، لا تستقر على حال كما لا يبقى اللون على حاله بينما يمر الزمن فيلقي باثره على كل شيء.

 ---------------------------------

مقالات ذات صلة 

ببليوغرافيا

ايزايا برلين

بقلم جوشوا شيرنيس jlc306@georgetown.edu  و هنري هاردي henry.hardy@wolfson.ox.ac.uk

ترجمة توفيق السيف

نشرت المقالة الاصلية باللغة الانكليزية في موسوعة ستانفورد للفلسفة ، في 26 اكتوبر 2004 وتعرضت من ثم لتعديلات واضافات ، اهمها في النسخة الحاضرة ، بتاريخ 22 يوليو 2020

Look up this entry topic at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).

معلومات إضافية عن ايزايا برلين على الانترنت

·         Isaiah Berlin Online, ed. Mark Pottle (Isaiah Berlin Legacy Fellow, Wolfson College, Oxford).

·         The Isaiah Berlin Virtual Library, ed. Henry Hardy (Wolfson College, Oxford).

·         Catalogue of Berlin’s papers in the Bodleian Library, Oxford University.

·         British Library Sound Archive holdings (search for ‘Isaiah Berlin’).

·         New York Review of Books: articles by Isaiah Berlin.

·         Photos/portraits of Berlin in the National Portrait Gallery (London).

كتب ايزايا برلين التي ترجمت الى اللغة العربية:

ايزايا برلين: الحرية ، خمس مقالات عن الحرية ، تحرير هنري هاردي ، ترجمة معين الامام ، دار الكتاب (مسقط 2015)

وصدرت الكتاب بترجمة اخرى قام بها يزن الحاج ، ونشرها المركز القومي للترجمة بالقاهرة ودار التنوير  (بيروت 2015)

ازيا برلين: ضلع الانسانية الاعوج ، فصول في تاريخ الافكار، تحرير هنري هاردي ، ترجمة محمد زاهي المغيربي ونجيب الحصادي ، المركز القومي للترجمة ، (القاهرة 2013)

وصدرت ترجمة اخرى بعنوان "نسيج الإنسان الفاسد" قامت بها سمية فلو عبود ، دار الساقي للطباعة والنشر (بيروت 2016)

إيزايا برلين: جذور الرومانتيكية ، ترجمة سعود السويدا ، جداول (بيروت 2012)

ايزايا برلين: المساواة ، اشكالات المفهوم واحتمالاته ، وهو فصل من كتاب Concepts and Categories ترجمة توفيق السيف ، مجلة حكمة  (فبراير 2020) https://go.shr.lc/3c4AvYP

 

 



[1] للاطلاع على النص العربي لهذه المقالة ، انظر  ايزايا برلين: الحرية ، تحرير هنري هاردي ، ترجمة معين الامام ، دار الكتاب (مسقط 2015)  صص  227-287. وتتوفر ترجمة اخرى بعنوان "الحرية ، خمس مقالات عن الحرية" قام بها يزن الحاج ، ونشرها المركز القومي للترجمة بالقاهرة ودار التنوير  (بيروت 2015) والاحالات الواردة في هذه المقالة ، ترجع جميعها الى الاولى.

[2] ‘Philosopher and political thinker Sir Isaiah Berlin dies’, BBC Nov., 8, 1997 http://news.bbc.co.uk/2/hi/uk_news/24540.stm

[3]  ليو تولستوى من أهم الاسماء في تاريخ الرواية العالمية ، ونشرت الرواية للمرة الاولى في 1869 وترجمت الى معظم اللغات الحية ، بينها العربية ، انظر ويكيبديا (13  أغسطس 2020) https://ar.wikipedia.org/w/index.php?title=&oldid=49774412 . تتوفر نسخة رقمية لرواية "الحرب والسلم" ترجمة سامي الدروبي ، نشر وزارة الثقافة (دمشق 1976) على الرابط: https://archive.org/details/draymanahmed1985_gmail_1_201608/

[4]  ايزايا برلين: ضلع الانسانية الاعوج ، فصول في تاريخ الافكار، تحرير هنري هاردي ، ترجمة محمد زاهي المغيربي ونجيب الحصادي ، المركز القومي للترجمة ، (القاهرة 2013) ص 35.  وصدرت ترجمة اخرى بعنوان "نسيج الإنسان الفاسد" قامت بها سمية فلو عبود ، دار الساقي للطباعة والنشر (بيروت 2016) والاحالات الواردة هنا ترجع جميعا الى الترجمة الاولى.

[5] Jonathan Bergwerk,  Audacious Jewish Lives, Vol. 4, P. 195  (lulu.com) 2020

[6] Bergwerk:  Ibid. 196

[7]  للاطلاع على قائمة كاملة باعمال برلين ، انظر

مكتبة برلين الافتراضية The Isaiah Berlin Virtual Library  http://berlin.wolf.ox.ac.uk/lists/index.html

[8] Joshua L. Cherniss, A Mind and its Time: The Development of Isaiah Berlin's Political Thought, (Oxford U. Press 2013), p.32.   Some of Rachmilevich’s letters to Berlin are found here (seen 11-Sep-2020): http://berlin.wolf.ox.ac.uk/texts/letters/rachmilevich.pdf

[9] Giuseppina D'Oro: Robin George Collingwood’, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2015), https://plato.stanford.edu/archives/sum2015/entries/collingwood/

See also: Peter Skagestad: ‘Collingwood and Berlin: A Comparison’, Journal of the History of Ideas, Vol. 66, No. 1 (January 2005), pp. 99-112

[10] حول  ايمانويل كانط وفلسفته ، انظر عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيرت 1984) 2/ 269

[11] حول ديفيد هيوم وفلسفته ، انظر بدوي: المصدر السابق 611

[12] التمييز بين العلوم الانسانية او الثقافية (كما اسماها برلين احيانا) والتي تضم التاريخ ، الفلسفة ، القانون ، وكذا علم الاجتماع ، الاقتصاد ، الانثروبولوجيا .. الخ ، اجتذب اهتماما كبيرا في الفلسفة الالمانية خلال القرن التاسع عشر. وقد استمر  الاهتمام بهذا الموضوع في بواكير القرن العشرين ، كما اجتذب اهتماما كبيرا أيضا في البلدان الناطقة باللغة الانكليزية ، نتيجة – فيما يبدو – لتأثير "حلقة فيينا" الفلسفية اضافة الى بروز العلوم الاجتماعية كحقل دراسي مستقل بذاته ويحظى بالاحترام. اما عمل ايزايا برلين فقد حاول استلهام شخصيات مبكرة مثل مثل جيامباتيستا فيكو (1668-1744) وجوهان ج. هيردر  (1744-1803). لكنه جاء متاثرا بدرجة كبيرة بمحاولات لمفكرين مثل هنريش ريكرت ، فيلهلم ديلتاي ، وماكس فيبر ، بل جاء مماثلا لهذه المحاولات التي ارادت تفسير  طبيعة ال Geisteswissenschaften’ وهو التعبير الالماني المعادل للانسانيات او العلوم الانسانية.  والمناظر لهذا هو  Naturwissenschaften’ او العلوم الطبيعية.

كان الدافع وراء استعمال برلين لمصطلح "الانسانيات" أو "الدراسات الانسانية" هو اصراره على ان اهدافها ومناهجها تختلف اختلافا جذريا ، الامر الذي يستوجب "اعلان الطلاق" بين الحقلين (Isaiah Berlin: Against the Current, Chapter 3, p.101). التعبير المستعمل هنا ، اي  "الانسانيات" هو الاثير عند برلين ، الا اذا كان الحديث في الاطار التاريخي الذي يجعل مصطلح "العلوم الانسانية" طبيعيا اكثر (وهي نفس الطريقة التي اتبعها برلين). انظر ايضا الحاشية 27

[13] For more on this topic, see Isaiah Berlin: Concepts and Categories: Philosophical Essays, ed: Henry Hardy, Viking (New York 1979), Chapter One : The Purpose of Philosophy, pp 1-11.

[14] Berlin: Concept and Categories, p. 2

[15] ميز كانط عنصرين في المعرفة ، احدهما يأتي من الاشياء التي في الواقع ، هو "مادة" المعرفة ، والثاني ياتي من العقل وهو سابق على التجربة ، هو "صورة" المادة ، او المظهر الذي تتجلى فيه الاشياء في عقولنا. وفحوى كلام كانط اننا لا نستطيع معرفة الاشياء كما هي في ذاتها بالحواس. هذا ليس انكارا لحقيقة موضوعات التجربة ، فهي موجودة ، لكنا لا نعرف منها غير الظواهر التي تتبدى عليها.  للمزيد ، انظر عبد الرحمن بدوي: مدخل جديد الى الفلسفة ، وكالة المطبوعات (الكويت 1975) صص 124-125

[16]   ايزايا برلين: الحرية ، مصدر سابق ، ص 202

[17]  لم يقدم برلين رؤية قطعية عن اصل وطبيعة هذه المفاهيم والاصناف. لكن يستفاد من رؤيته الاجمالية والتلميحات المتفرقة في كتاباته ، انها تأتي في الغالب من الثقافة والتعليم ، ومايكسبه الفرد من خبرات في حياته اليومية ، كما قد يستفيدها من الاعراف والتطبيقات الاجتماعية الشائعة ، اضافة الى النظريات الفلسفية. بعض المفاهيم قد يكون فطريا ، بقدر ما هو تعبير عن حاجات اساسية او ميول غريزية في بني آدم ، او ربما تكون (نظير أمثلة كانط عن الزمان والمكان) ضرورية لاضفاء معنى على العالم والوجود الانساني ، كي نتمكن من ادراكها بعقولنا ، اذا كانت مما يمكن لعقل البشر استيعابه.

لكن برلين ذهب الى ان القليل فقط من المفاهيم والاصناف التي نستعملها ، تماثل هذه. اما البقية – وهي الاكثر – فهي مصنوعات ثقافية او نظرية ، ولهذا فهي تخضع لعمليات تغيير وتبديل مقصودة ومستمرة ، في سياق تفاعلها مع التجارب. ومن الامثلة على المفاهيم الاساسية التي اتسمت بالتحول ، نذكر الفهم الغائي للطبيعة ، اي الرؤية القائلة بأن كل شيء يوجد في الطبيعة ، وجد كي يخدم غاية  ، وهو يعرف بسعيه الى هذه الغاية. وكذا المفهوم القائل بأن الانسان مختلف تماما عن الحيوان ، والتي تعاكس الرؤية الاخرى القائلة بأن البشر نوع من الحيوان (لكنه اكثر تطورا).

فيما يخص الاختلاف بين المفاهيم والاصناف ، فان الشرح الذي قدمه برلين (برلين: الحرية ، ترجمة معين الامام ، ص 202 الحاشية 1) يوضح المائز بين هذين العنصرين الذين يحتلان مكانة مركزية في بنية تفكيرنا ، حيث تظهر "الاصناف" على نحو اكثر رحابة وانها غير محددة ، وانها اكثر تجريدية من "المفاهيم" (المثال الذي ضربه برلين عن "الاصناف" هنا هو الابعاد الثلاثة ، والمدى اللامتناهي لادراكنا العادي للفضاء ، وعدم قابلية عكس العمليات الزمنية وتنوع الاشياء المادية وقابليتها للعد).

مع ذلك ، تبقى الحدود مفتوحة ومتداخلة بين الاثنين (المفاهيم والاصناف). ليس واضحا متى نبقى داخل الحد ومتى نعبره الى الطرف الآخر. يضرب برلين امثلة عديدة تتحدد باستمرار وتتنوع ايضا: من الالوان الى الاشكال والاذواق ، القواعد المتشابهة للعلوم ، اصناف القيم ، المعايير الاخلاقية ، قواعد الاتيكيت ، والميول الشخصية المتعلقة بالذوق. من هنا يمكن القول ان صلة المفاهيم بالاصناف ، ربما تمثل صلة الفرد species الى النوع/الجنس genus ، مع ان برلين لم يستعمل هذه المصطلحات على هذا النحو ، كما انه لا دليل لدينا على انه اتخذ موقفا في هذا الصدد ، يتسم بالثبات والوضوح.

لم يقدم برلين نظرية محددة او شرحا واضحا حول المفاهيم والاصناف ، ليس فقط لأن القيام بهذا يقتضي العودة الى البحث الفلسفي الذي كان برلين قد تخلى عنه ، بل أيضا لانه اعتقد ان المفاهيم والاصناف المختلفة ، تختلف ايضا في اصولها ، في وظائفها ، ضرورتها ، ومرونتها.. بالنسبة لبرلين فان هذه الاصناف والمفاهيم كانت ببساطة الطريقة التي نفكر بها ، والتي كانت مهمة على الصعيد الفلسفي ، لكن الافضل ان  تعالج من مدخل تاريخي او سيكولوجي ، بدلا من الاطار الكانطي المتسامي (اي الرؤية القائلة بسبق الافكار للتجارب ، وكونها شرطا ضروريا لاي نوع من المعرفة). 

[18] Berlin, Concepts and Categories, p.11

[19] Isaiah Berlin, Logical Translation’. Proceedings of the Aristotelian Society, New Series, 50 (1949): pp.157-188. www.jstor.org/stable/4544470.

[20] القضية proposition في المنطق هي "المركب التام" او الجملة الخبرية التامة التي يمكن ان نقول انها "قول" صادق او "قول" كاذب.  وبالتالي فهي ليست من نوع الفرضيات الابتدائية ولا من الاحكام. بل يمكن وصفها بالفرضية المتقدمة التي قد تاتي بعد الملاحظة الحسية الاولية ، ويتلوها اثبات او دحض او حكم.  انظر عبد الهادي الفضلي: خلاصة المنطق ، ط 3مؤسسة دائرة معارف الفقه الاسلامي (قم 2007) ص 131 https://bit.ly/2PlLJOl

[21] المغالطة الايونية نسبة الى مدرسة ايونيا الفلسفية ، والتي ينسب اليها مؤسسو الفلسفة الغربية ، مثل طاليس. قدم اعضاء المدرسة نظريات مختلفة حول تشكل الكون ، بين ابرزها المحاول الرامية الى اكتشاف عنصر أولي تبدأ منه كل الاشياء وتتشكل.

[22] Berlin: Concepts and Categories, pp 114-115.

[23] Berlin: Concepts and Categories, p 119

[24] Isaiah Berlin: Russian Thinkers, ed. H. Hardy & A. Kelly,  Penguin 2003, (The Author preface) p. viii

[25] See Jonathan Allen, ‘Isaiah Berlin’s Anti-Procrustean Liberalism’, Presented at the annual meeting of the American Political Science Association (August 28- 31, 2003, Philadelphia, PA) http://berlin.wolf.ox.ac.uk/lists/onib/allen2003.pdf

[26] Berlin: Concepts and Categories, p. 138

[27] يقر ايزايا برلين بان بعض العلوم الانسانية قد حاولت محاكاة العلوم الطبيعية في اغراضها ، من خلال محاولة اكتشاف نماذج من السلوك الانساني ، يمكن البرهنة على كونها نمطية ومتكررة ، وتنقيحها ثم اعتمادها كأساس لقواعد تفسيرية قابلة للتعميم. كان برلين متشككا جدا في هذه التوجهات ، التي تضم حقولا علمية مثل الاجتماع ، الاقتصاد ، علم النفس وغيرها. لكنه – رغم ارتيابه – اقر بان مثل هذه الدراسات العلمية في السلوك البشري لا تخلو من قيمة. لكنه مع ذلك بقي مصرا على استثناء التاريخ الذي يبقى بحسب تصوره  ، مختلفا جذريا عن العلوم الطبيعية في اهدافه وتقنياته.

 ثمة مناهج في الدراسات الانسانية ، ربما تسعى لبناء نماذج مثالية مفيدة تفيدنا في فهم سلوكيات البشر ، وذلك بتجريد عدد ضخم من المتشابهات والمتكررات الثابتة ، في العديد من الحالات المختلفة ، واعتمادها من ثم كمادة بحث للنماذج المذكورة. لكن التاريخ حالة مختلفة تماما الى حد يستحيل تقريبه الى هذا التوجه. ذلك لان غرضه هو استكشاف وفهم الحالات الفردية بمفردها ، اي باعتبارها حالات فريدة وغير متكررة. لهذا السبب فان علم التاريخ اغنى في الوصف ، ولكنه اقل عمقا ودقة في التفسيرات. العلوم الانسانية الاخرى تميل بطبعها للتجريد: قوتها الوصفية واسعة وليست مكثفة. من ناحية اخرى فان موضوع البحث في التاريخ ، ينطوي على نسيج متين من الخيوط المتقاطعة التي تتغير باستمرار ، وتذوب في طياتها المعتقدات والفرضيات الواعية واللاواعية (Berlin: Concepts and Categories, p.139  )

يتشكل التاريخ من مزيج ضخم من مكونات متوالفة او متباينة ، مثل النهر الذي يحمل خلال جريانه الطويل عشرات من المواد ، التي ربما تبدأ مسيرتها على صورة ، لكنها تنتهى على صورة مختلفة تماما. في سعينا للحصول على رواية تاريخية مرضية ، نتطلع عادة الى "شيء ممتليء يما يكفي ومتين بما يكفي للتلاؤم مع فهمنا الخاص للحياة العامة ... التي ننظر اليها من زوايا عديدة ومستويات عديدة ، وهذا يتضمن اكبر عدد ممكن من المكونات ،  والقدر الاوسع من الابعاد والاعمق من المعرفة والقوة التحليلية ، والتخيل العميق.... التفسير التاريخي يتضمن ترتيبا للحقائق المكتشفة في انماط patterns ترضينا ، لانها تتلاءم مع التنوع الذي يتسم به النشاط الحيوي والتجربة الانسانية ، اي الحياة كما نعرفها وكما نستطيع تخيلها (المصدر السابق 131). ان غرض المؤرخ هو رسم صورة (بورتريه) يحاول من خلالها وضع يده على الانماط الفريدة والسمات الخاصة للموضوع  الذي يبحثه "انه لا ياخذ صورة للخطوط الاساسية ، نظير التصوير باشعة اكس مثلا ، بل يرسم لوحة ملونة بتفاصيلها. (المصدر نفسه 125).

[28] Berlin: Concepts and categories, p. 142

[29] Berlin: Concepts and Categories, p. 110

[30] Berlin: Concepts and categories p. 116

[31] Berlin: Concepts and Categories, p. 128

[32] Berlin: Concepts and Categories, p. 136

[33] Berlin: Concepts and Categories, p. 137

[34] Berlin: Concepts and Categories, p. 137

[35] Isaiah Berlin: Historical Inevitability, Oxford U. Press, (London 1954) 79 pages

اعيد نشره باسم "الحتمية التاريخية" ضمن كتاب برلين: الحرية ، صص  145-224

[36] مما يذكر في تاريخ المعرفة ان كوبرنيكوس قلب الفيزياء راسا على عقب ، حين برهن على ان الارض ليست مركز الكون ، وفق الاعتقاد الذي كان سائدا ، بل هي تدور حول الشمس. ومنذ ذلك الحين بات الكون يفهم على نحو مختلف تماما عما سبقه. اما كانط فقد قلب التفكير السائد حول علاقة العقل بالواقع. كان الاعتقاد السائد حتى زمنه ، أن العقل يتعلم من خلال تعرفه على الحقائق القائمة في الخارج. لكن كانط برهن ان العقل هو الذي يبنيها اعتمادا على مخزونه السابق. بناء عليه فلم يعد العقل يتأمل الحقيقة كما توجد جاهزة في الخارج ، ولم يعد العقل صفحة بيضاء تتلقى المعرفة الجاهزة ، بل اصبح فعالا ، يصنع المعرفة ويساعد في تعريفها وتحديد معناها ، وبالتالي اصبح العقل مركز العملية المعرفية.  للمزيد انظر  المختار شعالي: نظرية المعرفة عند كانط ، هسبرس ، 01 أبريل 2017  www.hespress.com/writers/344820.html

[37] Berlin: Concepts and Categories, p. 166

[38]  ليس من المستبعد ان هذا الموقف الحاد نسبيا ، متاثر بتجربة برلين المريرة مع الشيوعية السوفيتية. والواضح انها هي الهدف الرئيسي لهجومه. لكن نقده هذا قابل للتطبيق على النازية أيضا ، وكل نظام سياسي شديد التعصب وشمولي. بل وقد ينطبق حتى على السياسات "التكنوقراطية" و"الإدارية" القليلة الاكتراث بمعاناة الانسان ، التي تطبق في الديمقراطيات الغربية. راجع برلين:  الحرية صص 142-144.

[39] See Edward Carr, What is History,  Vintage, (New York 1961), p. 120

[40] لم يوجه برلين كبير اهتمام الى العصور القديمة في دراساته عن تاريخ الافكار. لعل الدراسة الوحيدة التي تلفت النظر في هذا الجانب ، هي مقالته في 1962 عن الفردانية في اليونان القديمة  (اعيد طبعها ضمن كتابه "الحرية" صص 369-412). فيما يخص العصور الوسطى ، فانه على الرغم من كونها تحوي ميزات قد تتجاوز الازمنة التالية في جوانب معينة ، الا انه اعتبرها في العموم حقبة فقيرة على المستوى الفكري ، والسبب في هذا يرجع الى الوضع الشديد الاستقرار ، وهيمنة الاتجاه المحافظ على الحياة الفكرية اثناء تلك الحقبة. في مقابل هذا ، وجه برلين اهتماما كبيرا نسبيا للفكر في عصر النهضة الاوروبية ، مع ان اهتمامه هذا اسفر عن مقال واحد فقط ، لكنه يقدم دراسة اصيلة ومؤثرة عن مكيافيلي (انظر

Isaiah Berlin, ‘The Originality of Machiavelli’, in M. P. Gilmore (ed.), Studies on Machiavelli, Firenze (1972) pp.149-206.

[41] يمكن تصنيف دراسات برلين عن تاريخ الافكار بطرق مختلفة ، من بينها التصنيف الجغرافي ، الذي يسمح بوضع مجموعة أولى تخص تاريخ روسيا الفكري والثقافي ، خصوصا في القرن 19. وتحوي هذه المجموعة مقالاته عن الكسندر هيرزن ، دراستيه عن ليو تولستوى ، مقالاته عن ايفان تورجينيف ، فيساريون بيلينسكي ، وجورجي بليخانوف ، اضافة الى ما كتبه عن الشعبوية الروسية ، والالتزام الفني الذي كل طابعا ملحوظا في الفكر الروسي. ومعظم هذه المواد نشر ضمن كتابه (مفكرون روس):

 Isaiah Berlin: Russian Thinkers, ed: Henry Hardy and Aileen Kelly, penguin 2003.

تضم المجموعة الثانية كتابات برلين حول تاريخ الافكار في اوربا الغربية ، وتأتي المانيا في المقدمة ثم فرنسا وايطاليا ، ومن بعدها انجلترا وسويسرا. لدينا مجموعة ثالثة تضم مقالات برلين حول المفكرين العلمانيين اليهود في العصر الحديث.  اما كتاباته التاريخية ، فهي فئتان: تركز الاولى على افراد لعبوا ادوارا  استثنائية ، وتضم هذه الفئة ، اضافة لمن ذكر اعلاه ،  كلا من يوهان فيخته ، يوهان غوتفرايد هيردر ،  جورج سوريل ، فريدريك هيجل ، كارل ماركس ، جون ستيوارت ميل ، جيامباتيستا فيكو ، جوزيبي فيردي ، هنري دي سان سيمون ، جان جاك روسو ، فريدريك ماينيك،  ايمانويل كانط ، موشيه هز ، يوهان جورج هامن ، جوزف دي ميستر  ، واخرين. اما الفئة الثانية فتركز على الحقب والحركات الفكرية الكبرى والاتجاهات العامة في الفكر. ومن ابرز ما اجتذب اهتمام برلين في هذا الصدد ،  تيارات التنوير والمعادين لها ، الحركة الرومانتيكية ، اضافة الى اشتراكية القرن التاسع عشر.

[42]  استمد برلين هذا التفسير لحركة التنوير وما تنطوي عليه من تعارضات ، في الغالب ، من اعمال المفكر الروسي بليخانوف حول تاريخ المادية.

[43] في دراسته لعصر التنوير حاول برلين تشخيص العناصر التي تتبنى توجها راديكاليا ، ماديا ، طبيعيا ، ونفعيا بين فلاسفة هذا التيار ، مثل كلود هلفتيوس ، بارون دي هيلباخ ، وجوليان دو لاميتري ، والاكثر اعتدالا مثل المركيز دو كوندرسيه. كما  حاول ضم شخصيات أخرى للحركة  ، مثل مونتسكيو ، جان جاك روسو ، فولتير ، ايمانويل كانط ، وديفيد هيوم. ويعتبر الاخيران من اوائل نقاد التنوير  ، مع انهما لم يقصدا القيام بهذا الدور.

[44] بين الذين يشملهم هذا الوصف جوزف دي ميستر (الذي وصف بانه رجعي كاثوليكي متطرف ، وأنه من آباء الفاشية الذي كتب رؤية للحياة شديدة الاقناع ، لكنها مظلمة ، وحشية ، مشحونة بطبعها بالشرور والعنف والرعب) ، وكذلك الفيلسوف الايطالي جامباتيستا فيكو ، الذي وصف بانه ناقد للعلموية ، اضافة لعدد من الفلاسفة الالمان السابقين للرومانتيكية ، الذين عارضو ا دعوى عقلانية التنوير وكونيته ، مثل يوهان هامن و يوهان هيردر. 

[45] Ramin Jahanbegloo, Conversations with Isaiah Berlin, Halban (London 1992), p. 70

[46] Jahanbegloo, ibid.

جدير بالذكر ان برلين استخدم مصطلح "العقلانية" و "العقلاني" في معاني متعددة ، ليست دائما متسقة او متمايزة. الغموض الناتج عن هذا ‏الخلط لم يكن كبوة عرضية ، فهو يبدو عنصرا متكررا في رواية برلين لتاريخ  الافكار. من ذلك مثلا انه يقرن "التنوير" ب ‏‏"العقلانية" ، من دون الاشارة الى الميول التجريبية للعديد من مفكري التنوير  ، وتبعا لهذا رفضهم المبدأ الذي يشكل ركنا من ‏اركان "العقلانية" ، المبدأ القائل بان الفهم الصحيح للعالم ممكن فقط بواسطة العقل المحض. لقد استعمل برلين مصطلح العقلانية ‏في هذا المعنى (انظر مثلا برلين: ضلع الانسانية الاعوج ، 30 ، ايضا برلين: الحرية ، 249) لكنه في ‏احيان اخرى استعمل المصطلح مقترنا مع ما يمكن ان نسميه بالمادية ‏materialism‏ وبناء على هذا يمكن ان نعتبر ‏الكثير من العقلانيين تجريبيين ايضا.‎‏.‏‎ ‎

لو نظرنا لمفهوم "العقلانية" من زاوية أوسع ، فقد نراها عند برلين قرينة للرؤية الميتافيزيقية القائلة بان الواقع لايمكن ‏معرفته الا من خلال العقل الخالص. لأن الواقع يتطابق تماما مع املاءات العقل . ‏نضيف الى هذا الرؤية الاخلاقية التي تقرن الحرية او الخير او الازدهار مع تقبل ما هو عقلاني والالتزام بمقتضياته. ‏ونعني بهذا القوانين العقلائية او المباديء التي تحكم الواقع (برلين: ضلع الانسانية الاعوج ، 29). نشير الى ان برلين لم يميز بين الابعاد المعرفية ، الميتافيزيقة ، ‏والاخلاقية للعقلانية ، بل تعامل معها كمترادفات. وبناء عليه فان ما نعرفه هنا كعقلانية "اخلاقية" ، يعرفه برلين باعتباره ‏‏"القلب الميتافيزيقي للعقلانية".‏‎ Isaiah Berlin: Liberty, ed. Henry Hardy, Oxford U. Press (London 2002), p. 190)ولم يرد هذا التعبير في النسخة العربية ، قارن السابق مع ص 255 من ترجمة معين الامام).

ياخذ برلين المسالة مسافة ابعد حين يقرب هذه العقلانية الى الاحادية ، التي تكمن في "قلب جانب كبير من العقلانية الميتافيزيقية" (Isaiah Berlin: The Proper Study Of Mankind: An Anthology of Essays, Pimilco (London 1998), p. 117

اضافة الى ما سبق ، استخدم برلين مصطلح "العقلانية" في الاشارة الى نظرية سيكولوجية (سبق ان ‏اعتبرها سطحية ومبالغة في التفاؤل على نحو غير واقعي) نظرية فحواها ان الكائن الانساني مدفوع اساسا ‏باعتبارات عقلائية ‏‎ (see e.g. The Lessons of History, 274–5‎‏ او باعتبارات اسميناها هنا "علموية" ، ونقصد بها الاعتقاد ‏بان كل التجارب يمكن ان تجرى اعتمادا على مناهج العلوم الطبيعية. ويتصل بهذا ان كل المشكلات يمكن ان تجد ‏حلا بالرجوع الى المعرفة او الخبرات العلمية ‏‎( Isaiah Berlin: Freedom and Its Betrayal: Six Enemies of Human Liberty, Henry Hardy (ed.), Princeton U. Press, (New Jersey 2002), p. 128).‎

رفض برلين كل هذه الاشكال من العقلانية. لكنه كان – في الوقت ذاته – حريصا على ابعاد نفسه عما اسماه "مناهضة ‏العقلانية ‏anti-rationalism‏". وفي هذا السياق يبدو كما لو كان يشير الى الرؤية التي ترفض جذريا اي محاولة لفهم ‏منطقي للعالم ، وبالتالي جعل التجربة منطقية ، متسقة ، ويمكن التنبؤ بنهاياتها.‏(نظر مثلا برلين: الحرية ، 68). ربما صنف برلين نفسه بين هؤلاء الذين وصفهم بالعقلانيين المضطربين.‏ وقد بقي متعاطفا مع ‏التيار الاوسع "العقلانية النقدية" برغم شكوكه فيه. وهذا التيار كان متفائلا نوعا ما ازاء المستقبل الفكري ‏والاخلاقي للجنس البشري  (برلين: الحرية 137).

كما علق أمله في المستقبل الافضل على ايمان بقابلية الذكاء الانساني ، وقدرته على انجاز فهم اعمق ‏للذات وتخفيف المشكلات المادية والاجتماعية التي تعترض حياة البشر. لقد كانت هجماته على الاشكال ‏المختلفة للعقلانية مدفوعة بالرغبة في فهم العالم ، كتمهيد لجعل الانسان قادرا على التصرف العقلاني ، وهذا ‏الموقف يحتل مكانه ضمن تراث العقلانية بمفهومها الواسع والاقل تدقيقا في المسميات ، التيار الجامع للروافد ‏المجاورة والفرعية ، وفق ما كتب برلين اكثر من مرة.‏

ان استخدام برلين الملتبس لهذا المصطلح الرئيسي يمثل درسا واقعيا عن مخاطر الوقوع في نمط راسخ من الاستعمالات ‏الاصطلاحية غير المعيارية ، وهو درس كان برلين قد اشار اليه حين تحدث عن استغلال اعداء الحرية لاحد تمثيلاته ، حين ‏استغلوا غموض مفهوم الحرية في "انتحال بشع" لهذا المبدأ من اجل نقيضه.  (برلين: الحرية ، 244)

[47] إزيا برلن: ضلع الإنسانية الأعوج ، فصول في تاريخ الأفكار ، المركز القومي للترجمة (القاهرة 2013) ، ص. 30

[48] ازيا برلين: ضلع الانسانية الاعوج ، صص 27-28

[49] استعمل برلين مصطلحات مثل "القيم" ، "المثل"، "الغايات" ، "المباديء" ، "الخير" ، "المطالب" ، و "الاهداف" على نحو تبادلي نوعا ما ، بحيث يمكن لبعضها ان يحل محل الآخر.

[50]  برلين: ضلع الانسانية ، ص 47

[51] Isaiah Berlin: Three Critics of the Enlightenment: Vico, Hamann, Herder, Henry Hardy (ed.), Pimlico; (London, 2000) p.245, note. 1

[52]  برلين: ضلع الانسانية الاعوج ، ص 247

[53] يشير  برلين هنا الى الشاعر الانكليزي جون كيتس (1795-1821) من شعراء الحركة الرومانتيكية ، والكلمة المشار اليها هنا هي البيت الاخير من قصيدة له "Beauty is truth, truth beauty, —that is all / Ye know on earth, and all ye need to knowومعناها الجمال هو الحقيقة والحقيقة هي الجمال هذا ما تعرف وهو كل ما تحتاج لمعرفته. والفقرة الاولى هي المشار اليها في حديث برلين ، عن كون الحقيقة والجمال شيئا واحدا  ، او على الاقل انهما قيمتان متوافقتان. حول الشاعر انظر ويكيبيديا  (2020-08-08) https://ar.wikipedia.org/w/index.php?title=&oldid=49601325 حول القصيدة ، انظر  https://www.faena.com/aleph/articles/beauty-is-truth-truth-beauty-revelations-from-john-keats/

[54] برلين: الحرية ، 282

[55] برلين: الحرية ، 282

[56] مفهوم "المعاناة القصوى" يشير الى المعاناة الانسانية التي لا يمكن التعويض عنها  بأي لذة مناظرة. ويذكر مثلا الهولوكوست او القصف النووي على هيروشيما. وأمثال هذه المآسي ، التي لا يمكن – اخلاقيا – ان تكون موضع مفاضلة او اختيار  ، مهما كان البديل المطروح في الجهة المقابلة. وقد تطورت الفكرة من خلال نقاشات الفلسفة النفعية ، ولاسيما المفاضلة بين درجات الألم واللذة او السعادة ، التي توصف احيانا بالمنفعة السلبية مقابل الايجابية. لبعض التفاصيل حول الفكرة ، انظر : Wikipedia: ‘Negative utilitarianism’, https://wikipedia.org/w/index.php?title=Negative_utilitarianism

[57] Henry Hardy (editor): ‘Pluralism’, The Isaiah Berlin Virtual Library (IBVL),  http://berlin.wolf.ox.ac.uk/lists/pluralism/index.html

[58] برلين: ضلع الانسانية الاعوج ، ص 35

[59] Isaiah Berlin: The power of ideas, ed: Henry Hardy, Princeton U. Press (Princeton 2000), pp 7-11

[60] James F. Stephen: Liberty, Equality, Fraternity, Smith, Elder & Co (London 1873).

[61] See Max Weber: ‘The Meaning of Ethical Neutrality in Sociology and Economics’, in M. Weber: The Methodology of the Social Sciences, E. Shils and H. Finch (trans. and eds), Free Press, (Glencoe 1949), esp. pp. 17-18

[62] See for instance, William  James: ‘The Moral Philosopher and the Moral Life‘, International Journal of Ethics, Vol.1 April 1891, pp. 330–354. https://archive.org/details/jstor-2375309/page/n1/mode/2up

[63] John Dewey: ‘The Virtues’, in J. Dewy & J. Tufts: Ethics, Holt. (New York 1908), pp 399-424

[64] Hastings Rashdall: The Theory of Good and Evil, vol. 2, London: Oxford U. Press (London 1907). Chapter 2, pp 37-60.

[65] Sterling P. Lamprecht: ‘The Need for a Pluralistic Emphasis in Ethics’ The Journal of Philosophy, Psychology and Scientific Methods, Vol. 17, No. 21 (Oct. 7, 1920), pp. 561-572

[66] Michael Oakeshott: Rationalism in Politics and Other Essays, chapter 1, pp. 1-36

[67] Isaiah Berlin: ‘Some Procrustations’, Oxford Outlook 10 no. 52 (May 1930), 491–502

 http://berlin.wolf.ox.ac.uk/published_works/singles/bib3.pdf

[68] في رسالة بتاريخ 30 نوفمبر 1933 ، كتب برلين "انا اقرأ الفيلسوف ماليبرانش ، الذي يقول انه قد يمكن ايجاد عالم افضل من عالمنا. لكنه سيكون معقدا جدا بالقياس الى عالمنا القائم. كون الله خيرا ، وانه في الوقت ذاته راغب في منحنا هذا العالم المعقد ، أوجب هذه المساومة بين البساطة والخير ، وهو – ماليبرانش – يعتقد انهما غير متوافقين (وهذه رؤية غريبة وملفتة). نتاج تلك المساومة  هو عالمنا البائس. ولو قلنا ان عالمنا هو الافضل بين كل العوالم المحتملة ، فكيف سيكون حالها اذن" .  “Isaiah Berlin: Letters, 1928-1946, edited by Henry Hardy, (Cambridge Uni. Press, 2004)  v.1, p. 72”

نشير الى ان الفكرة التي نسبها برلين الى ماليبرانش ، وردت في كتاب "الطبيعة والنعمة – 1680" وترجم الى الانكليزية بنفس الاسم Nicolas Malebranche, Treatise on Nature and Grace, Translated by Patrick Riley (Oxford Uni. Press 1992)

ويبدو ان الفكرة التي يعرضها برلين هنا تتجاوز الحدود التي يشير اليها ماليبرانش في الكتاب المذكور. لذا فمن المحتمل انه نقل الفكرة من نص آخر لم نصل اليه.

[69] Isaiah Berlin: ‘Utilitarianism’, (around 1973), The Isaiah Berlin Literary Trust (May 2002), pp 1-27, http://berlin.wolf.ox.ac.uk/lists/nachlass/utilitarianism.pdf

[70]  ايزايا برلين: "الحتمية التاريخية" ، في ايزايا برلين: الحرية ، مرجع سابق ، صص 145-225

[71] Isaiah Berlin, Conversation with Stuart Hampshire, Iris Murdoch and Anthony Quinton, ‘Philosophy and Beliefs’, p.12, The Isaiah Berlin Virtual Library, (Accessed Sep. 17, 2020) http://berlin.wolf.ox.ac.uk/published_works/singles/PhilosophyandBeliefs.pdf 

[72] Michael Ignatieff: Isaiah Berlin: A Life, Chatto and Windus (London 1998), p. 246

[73] المحاضرة منشورة في كتاب برلين: ضلع الانسانية الاعوج ، صص 27-46

[74] تجنب برلين الرد العلني على هجوم ليو شتراوس القوي والمباشر ، لكنه قدم جوابه في رسالة الى هاري جافا في 1992  

 (see: More explaining: Isaiah Berlin on His Own Ideas, p 47, (accessed 17, Sep., 2020) http://berlin.wolf.ox.ac.uk/published_works/a/more-explaining.pdf).

كما أجاب على انتقادات ارنالدو  موميجليانو  (انظر برلين: ضلع الانسانية الاعوج ، صص 97-118). كان موميجليانو  قد فسر قراءة برلين لفيكو وهيردر ، على انها مساواة بين النسبية والتعددية. وكان برلين حريصا على رسم خط واضح بين المبدأين. لكن الجدل لم يتوقف ، وقد واصل معارضوه تكرار التهمة ، كما واصل مؤيدوه نفيها.

[75] Martin Hollis: ‘Is Universalism Ethnocentric?’ in C. Joppke & S. Lukes (eds), Multicultural Questions, Oxford U. Press.( Oxford 1999).

[76] Steven Lukes: ‘Making Sense of Moral Conflict’, in Liberalism and the Moral Life, N. Rosenblum (ed.), Harvard U. Press (Cambridge, MA 1991) pp. 127-142

[77]Michael Oakeshott: Rationalism in Politics and Other Essays, Basic Books (New York 1962), p. 125

[78]  "النسبية الثقافية" واحدة من أشهر اشكال النسبية. وفحواها ان كافة القيم ولدت على ارضيات ثقافية / حضارية خاصة ، وهي – بالضرورة – مشروطة بشروطها ، وصالحة ضمن اطارها ومن أجله ، وليس – بالضرورة – لأي ثقافة او حضارة اخرى. في بعض الاحيان كان برلين يبدو وكانه يقول بهذا الرأي.

ثمة فرضية تمثل ارضية لمعظم الاراء القائلة بالنسبية الثقافية ، خلاصتها ان الثقافة شاملة ، بمعنى انها تشكل المضمون او المحرك لمعظم جوانب الحياة في المجتمعات (لاسيما المجتمعات غير الصناعية) ويظهر تأثيرها في القيم والعلاقات والدين والشعور القومي والسياسة .. الخ. حين تقرأ برلين تشعر انه يدعم هذه الفرضية ، بينما ينكرها في احيان اخرى.

وفقا لهذه الفرضية فان الثقافة تمثل كونا موحدا ومستقلا بذاته ، انه اقرب الى شبكة تربط بين معتقدات الجماعة ، وتشكل نوعا من المحيط الذي يمنع اعضاء الجماعة من التمييز بين معتقد وغيره او  الاختيار فيما بينها ، او نقدها او الحكم عليها. ليس بالوسع الجزم بما اذا كان برلين يدعم هذه الرؤية ، او الى اي حد ، وباي طريقة. لكن ثمة رأي شائع ، يتبناه عدد من المفكرين ، لعل ابرزهم ستيفن لوكس ، فحواه ان السبيل لانقاذ التعددية من منزلق الاختلاط بالنسبية ، هو انكار فرضية الثقافة الشمولية  او المهيمنة ، والذي يؤكد لوكس انه مفهوم خاطيء من الاساس.

See, Steven Lukes: ‘The Singular and the Plural: On the Distinctive Liberalism of Isaiah Berlin‘, Social Research, Vol. 61, No. 3, (FALL 1994), pp. 687-717

إن نقد لوكس لفرضية الشمولية الثقافية ، وفصله للتعددية عنها ، أمران مقبولان. لكن ليس من الضروري ان يترتب عليه القول بقيم او معايير كونية تتجاوز جميع الثقافات. خاصة مع الاخذ بعين الاعتبار ان القول بالتعددية ، يتضمن في ذاته القول بامكانية التعارض بين تلك القيم. من المفهوم طبعا ان انكار الشمولية الثقافية ، يزيح عقبة اساسية تعترض القول بامكانية وجود قيم معينة فوق الاختلافات الثقافية ، اي كونية عابرة للثقافات. هذا سيكون سهل المنال اذا اقررنا بفرضية ان الثقافات الوطنية ليست مكتفية بذاتها ، وليست بالضرورة منغلقة على اطارها الاجتماعي وتجربتها التاريخية. من البديهي ان الثقافات قد تتعارض. لكن ثمة معتقدات وقيم تحصل على نفس القدر من الاحترام في غالب الثقافات ، كما ان لها نفس الدور والانعكاسات بدون فرق جوهري بين ثقافة واخرى. ان العقائد والقيم التي تدعم بشكل مباشر مصلحة الانسان ورفاهيته ، تشكل مورد اجماع واحترام عبر المجتمعات الانسانية. ومن بينها على سبيل المثال الاعتقاد بان الطبيعة الانسانية كونية ، اي ان كل ثقافات العالم تتفق على ان الانسانية شيء واحد ، وانه لا فرق بين انسان وانسان في طبيعته ، وأمثالها من العقائد والقيم العالية والكلية.

[79]  برلين: الحرية ، ص 286

  [80] حول استعمال ايزايا برلين لتعبير plumping ودلالته ، في سياق شرحه لمفهوم تفرد القيم ، انظر  The Isaiah Berlin Virtual Library. راجعته في 30-8-2020   http://berlin.wolf.ox.ac.uk/information/a-z.html#plumping

[81] For a detailed account on the topic, see Nien-hê Hsieh: ‘Incommensurable Values’, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Jan-2016), https://plato.stanford.edu/entries/value-incommensurable/

[82] يمكن – مع شيء من التبسيط - تلخيص نقد غراي لليبرالية في ثلاث حجج رئيسية: الاولى ان الليبرالية مذهب ذو منطلق أحادي ويدعي كونه مطلقا. ذلك لانه قائم على أرضية تعطي أولوية سياسية/اخلاقية للحرية باعتبارها قيمة سياسية عليا. (ينبغي التذكير هنا بأن ايزايا برلين رفض بصراحة هذا الزعم). اذا كانت القيم متفردة حقا ، فان تلك الفرضية غير ممكنة. الحجة الثانية ان الليبرلية تمثل نظاما قيميا او طريقة حياة محددة ، بين العديد من النظم وطرق الحياة المناظرة. فاذا اخذنا بعين الاعتبار القول بان مفهوم التعددية ينصرف الى معنى انماط حياة ، انظمة قيم ، ثقافات.. الخ ، اي اننا لم نصرفها حصرا لى معنى تعددية القيم المفردة ، عندئذ فان الليبرالية سوف تكون مجرد نظام واحد ، بين أنظمة متعددة ، صالحة لكنها متعارضة ، من دون ان يكون لأحدها فوقية او اولوية على الاخريات.

بناء على هذا ، فإن المؤمنين بالليبرالية وهم يعيشون في مجتمعات ليبرالية ، أحرار في تبني هذا المذهب والالتزام بقيمه. لكنهم لا يملكون الحق في الزام الآخرين بذلك المذهب او هذه القيم ، ولا في اعتبار انفسهم متفوقين ، او ان طريقتهم في ادارة حياتهم هي الأفضل. أخيرا يدعي جراي أن تاريخ الليبرالية يظهر انها تعاملت مع نفسها كمذهب كوني ، وادعت بالفعل أنها متفوقة على كل انماط العيش الاخرى في كل مكان وزمان. من هنا فان قبول الليبراليين للتعددية ،  سوف يعني بالضرورة قبولا بكون الليبرالية ، مجرد طريقة من طرق حياة عديدة متساوية في القيمة. وعندئذ فانه يجب التخلي عن احد الاهداف المركزية لليبرالية الكلاسيكية ، وهو تحولها الى نظام متبع في كافة ارجاء المعمورة. ونشير اخيرا الى ان جميع هذه الحجج قابلة للتفنيد اعتمادا على مناقشات برلين.

[83] جادل جالستون بأن التعددية والليبرالية متوافقان ، إن لم نتعامل مع أي منهما باعتباره مذهبا شاملا تماما. وهو يعتقد ان بالوسع وضع صيغة لنظام سياسي ، يجمع بين الليبرالية والتعددية في آن واحد. من ناحية اخرى قال كراودر ، في مناقشة هي الأكثر منهجية ودقة للموضوع حتى الآن ، أن تفسير جراي لتعددية القيم ، ينطوي على افتراضات واستنتاجات تجعله اقرب الى النسبية منه إلى تعددية القيم. ذلك أن التعددية الحقيقية تتقبل الإيمان بوجود حد أدنى من القيم الانسانية ، يتصف بانه كوني وعابر للثقافات وانماط الحياة.

اقترح كراودر كذلك أن الليبرالية وتعددية القيم يدعمان بعضهما البعض ، بقدر ما يتطلب التفكير الأخلاقي الفعال - في ظل ظروف تعددية - ممارسة بعض الفضائل (مثل الكرم واتساع الأفق والمرونة والاعتدال والاهتمام بالقيم والمواقف والأشخاص). ويرى كراودر أن هذه الفضائل ليبرالية او انها محل تبجيل من جانب الليبرالية. اضافة الى ان الايمان بتعددية القيم ، تعطينا سببًا آخر لتفضيل النظم الاجتماعية التي تتيح تنوعا أوسع  للقيم ، وفرصة أكبر للأفراد للاختيار من بين تلك القيم. ونعلم ان مجتمعات تحمل هذه الصفة ، هي – في الحقيقة - مجتمعات ليبرالية.

[84] Michael Walzer, ‘Are There Limits to Liberalism?’, New York Review of Books, 19 Oct. 1995, pp.28–31. Cited in William Galston: Liberal Pluralism: The Implications of Value Pluralism for Political Theory and Practice, Cambridge U. Press, (Cambridge 2002), p 61.

[85] See Ian Carter, “Positive and Negative Liberty", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2019), https://plato.stanford.edu/entries/liberty-positive-negative/

[86] يرجع التمييز بين المفهوم الايجابي والسلبي للحرية الى ايمانويل كانط على اقل التقادير. وقد ظهر بهذه الصورة او شيئا قريبا منها في اعمال توماس غرين، برنارد ‏بوسانكويت ، وبوريس شيشرين. واستعمله في زمن اقرب غويدو دي روجيرو ، روبين كولينجووود ، جون بتروف بلاميناز ، دوروثي فوسديك ، واخرون. وقد أقر برلين ‏بانه تأثر بعمق بحديث بنيامين كونستانت عن "حرية القدماء كمناظر لحرية المحدثين" بل اعتبره المؤثر الرئيسي على تفكيره. يمكن – علاوة على هذا – نسبة جانب من ‏من الفضل الى تمييز جان جاك روسو بين "حرية الانسان" و "حرية المواطن" ، فضلا عن تمييز روسو نفسه ومفكرين معاصرين له او سابقين ، بين الحرية الطبيعية ‏والحرية الاخلاقية.‏

[87] في شرحه لفكرة الاستقلال او القابلية للسيطرة على الذات ، يستشهد برلين بالموعظة الرواقية الداعية لضبط النفس والزهد ، كوسيلة لمقاومة الاغراء المادي ، وصون النفس من الوقوع في شرك الفساد الذي تمده السلطات الأرضية المهيمنة. كما يستشهد باصرار جان جاك روسو على أن المجتمع لا يبقى عادلا ، الا اذا حافظ الناس على حرياتهم ، من خلال تحويل الحق الفردي في حكم الذات (وهو السائد في مجتمع الحالة الطبيعية) الى الهيئة التي تمثل جميع الناس ، حيث يصبح الجميع محكوما وشريكا في الحكم ، في الوقت ذاته. وحينئذ تصبح طاعة الدولة المدنية مقاربة نوعا ما لطاعة الذات. فالطاعة هنا ليست خضوعا بقدر ما هي صورة اخرى للحرية في اطار القانون ونظام المدينة. استشهد برلين اضافة الى هذا  بفلسفة الاستقلال الاخلاقي عند كانط ، والتي فحواها ان الحرية والكرامة التي لا يمكن نزعها من الفرد ، تكمن في حقيقة ان الفرد ملتزم في سلوكه بقانون أخلاقي قائم بذاته (اخلاق الواجب). ومن هنا يعترف به ككائن لا يتكل على احد ، بل مستقل بنفسه وقادر على الاختيار الحر.

كان برلين متعاطفا الى حد بعين مع رؤية كانط السابقة ، رغم اعتقاده انها تسببت في اخطاء جوهرية. ويقر برلين ان النموذج الرواقي المذكور اعلاه اكثر إثارة للاعجاب ، لكنه وجده قائما على نوع من التلاعب بالالفاظ. بيان ذلك: ان المرء قد يكون اقل حاجة الى الاخرين ، اذا ما نبذ الميول الغريزية والشهوات والاغراءات ، وبالتالي اكثر قدرة على التحكم في حياته ، وعدم الاتكال على الغير في أي شيء. وربما كان من المفيد للانسان ان يفعل هذا الشيء في ظروف معينة. لكن ثمة حقيقة مغفلة هنا ، وهي ان الانسان قد يفعل كل تلك الامور فيمسي أقل حرية مما كان ، او انه على الاقل لا يزداد حرية ، لأن الزهد والتحكم في الذات لا يزيل القيود (سيما القيود خارج الذات) التي تمنع الانسان من التصرف بحرية حقيقية.

[88]  ايزايا برلين: الحرية ، ص 244

[89] انظر : رسالته الى جورج كنان (1951) ، في  برلين: الحرية ، صص 429-438

[90]  ثمة انطباع فحواه ان حجة برلين الاولى أقوى من الأخيرة. لأنه قد يقال ان احد المعاني المحتملة لتعارض القيم ، هو  ان اتخاذ القرار امر لا مفر منه ، بل هو يمثل جانبا كبيرا من حياة البشر. لكن هذا ليس مبررا كافيا ، لجعل اتخاذ القرار شيئا قيما جدا ، بل ومركزيا لكرامة الانسان وتحقيق ذاته. اذا كان اتخاذ القرار ينطوي على خسائر فادحة (وهو ما تحدث عنه برلين اكثر مرة) فان الانسان قد يميل الى التهرب من مواجهة العسر والألم المقارن للاختيار واتخاذ القرار ، بدل الفخر بالاقدام عليه. يقول برلين: ان العالم الذي نعيشه يضعنا كل يوم ، امام تجربة الاختيار بين غايات كبرى متساوية في القيمة والاهمية.... حالة كهذه تجعل من غير الممكن اخذ احداها دون التضحية بالاخرى. الحقيقة ان هذا العسر هو الذي جعل البشر يضفون قيمة استثنائية على حرية الاختيار. لانه لو كان لدى الانسان  يقين بانه ، في حالة  ما من حالات الكمال ، لن يكون ثمة تعارض بين الغايات التي يسعى اليها الانسان ، فان ضرورة الاختيار وما يترتب عليه من عسر والم سوف تختفي من الوجود ، وستختفي معها ايضا الاهمية المحورية لحرية الاختيار.  (برلين : الحرية ، 282)

ربما لم يطرح هنا شرح مسهب للعوامل التي بموجبها اعتبرت "حرية الاختيار" عالية القيمة.  لكن ليس من الصعب ان نقرأ هذا بين السطور. اننا نسعى وراء الغايات الكبرى لأنها ذات أثر بالغ الاهمية في تحقيق الرفاهية في حياتنا. من هنا فان الاختيار بين القيم القائم على ارضية التعددية ، يعد وسيلة لتحقيق الذات. لا يمكن تفويضه الى الخبراء ، لان العلاقة الوثيقة بين الاختيار وتحقيق الذات توجب ان يتولى الاختيار الشخص المعني وصاحب المصلحة مباشرة ، لأنه الوحيد الذي يستطيع الاحاطة بالاطار العام الذي تجري فيه المفاضلة ، بين الغايات والثمن الذي سيدفع مقابل كل منها ، وصولا الى تحقيق غاياته الاكثر تمثيلا لحقيقة ذاته.

[91] See George Crowder: ‘Pluralism, Relativism and Liberalism in Isaiah Berlin’, The Berlin Virtual Library, (2003) berlin.wolf.ox.ac.uk/lists/onib/crowder/IBVPREL2003.pdf

[92] برلين: الحرية ، صص 270-271

[93] انظر الفصل الخاص عن جون ستيوارت ميل ، في ايزايا برلين: الحرية ، مرجع سابق ، صص 289-328

[94] برلين : الحرية ، 270

[95] برلين : الحرية ، 270

[96]  كان موقف ايزايا برلين من الحركة الصهيونية موضع جدل. وقال ناقدوه ان تعاطفه مع الحركة ، قاده الى غض الطرف عن الظلم والتأييد الضمني للشوفينية الاسرائيلية.  لم يكن الامر على هذه الصورة في الواقع. كان تعاطف برلين يتعلق بالجانب الانساني ، كما استند الى قناعاته الليبرالية. فمن جهة آمن بضرورة الوطن اليهودي وعدالة هذا المطلب ، ومن جهة اخرى عارض العنف والعدوان والشوفينية القومية اينما ظهرت. وادى نفوره من الراديكالية السياسية الى دعم حاييم وايزمان ، السياسي الاسرائيلي المعتدل والموالي لبريطانيا ، في مواجهة القادة الاكثر تطرفا مثل ديفيد بن غوريون ، حتى بعدما ظهر ان استراتيجية بن غوريون كانت اكثر فعالية في  تحقيق هدف اقامة الدولة اليهودية. في وقت لاحق اتخذ برلين موقفا ناقدا بهدوء ولكن بحزم ، وفي بعض الاحيان بعنف ، لكتلة الليكود والسياسة الاسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة ، ودعم "حركة السلام الان" ، كما دعم حل الدولتين. (1997) http://berlin.wolf.ox.ac.uk/information/israelandthepalestinians.html

[97] See for example, Isaiah Berlin: Personal Impressions, ed: Henry Hardy, Hogarth Press (London 1980)

[98] Isaiah Berlin: The sense of Reality, Pimlico 1997, p. 43

[99] ibid., 56

[100] ibid., 57

[101] كان برلين يشعر بالقلق من ان تؤول السلطة الى البيروقراطيين والتكنوقراط ، الذين يجمعون بين الاستبداد بالرأي وعدم الاحساس بالواقع ، هؤلاء الذي كان ستالين قد اطلق عليهم اسم "مهندسي النفوس البشرية" . انظر مثلا برلين: الحرية ، ص 131 ، الحاشية 1.

[102] Isaiah Berlin: Concepts and Categories, Viking, (New York 1979), pp 164-165

[103] الذي جذب برلين الى هيرزن هو حسه الساخر وعاطفته الاخلاقية الجياشة. لكن كان من الغريب ان ان الأكاديمي البريطاني وجد نفسه متماهيا مع أرستقراطي روسي تحول إلى ثوري متجول. اشترك الرجلان في الشغف بالحرية ، والشك في السلطة ، ومعارضة الظلم. لكن الذي جذب برلين بقوة الى هيرزن كان معارضة الأخير الشديدة لعقيدة الحتمية التاريخية ، وما يرتبط بهذا الموقف من اخلاق سياسية.

[104] ايزايا برلين: ضلع الانسانية الاعوج ، ص 42

[105] Berlin: Russian Thinkers, (2003) p. 194

[106] يمكن الاشارة الى اتجاهين في دراسة ما يعرف ب "الواقعية السياسية".يركز الاتجاه الأول على مفهوم "الواقعية" في اطار العلاقات الدولية. وفقا لهذا الاتجاه ، فان (1) كل دولة في النظام الدولي مدفوعة أساسا بالسعي لتوسيع نفوذها وضمان امنها منتهديد الدول الاخرى. هذا المسعى قد يضعها في منافسة مع دول اخرى تسعى في الاتجاه نفسه.

 (2) ينبغي لحكام الدول أن يضعوا مصلحة دولتهم ورفاهيتها (اي قوة الدولة وأمنها) كهدف رئيس لسياساتهم. (3) ستسعى الحكومة لضمان سيطرتها على الأراضي الواقعة ضمن سيادتها ومن يسكنها من الرعايا ، وإخضاع أي منافس او حتى القضاء عليه. و (4) تملك الحكومات الحق في القيام بالمهمات السابقة الذكر. وفقا لوجهة النظر هذه ، فان السياسات العامة والنشاطات المرتبطة بها تستهدف تأمين وتوسيع سلطة الدولة ؛ الدولة هي الوحدة السياسية الاساسية وهي تتمتع بقيمة عليا. وبناء على هذا فان التفكير في السياسة يمنح الدولة أولوية على المستوى التحليلي والمعياري. عالم السياسة عالم منافسة (عنيفة في بعض الأحيان) والحصول على السلطة هو الهدف المركزي للفعل السياسي.

اما الاتجاه الثاني في دراسة "الواقعية السياسية" فيبدأ من تصور  للطبيعة البشرية والديناميات الاجتماعية فحواه انهما محكومان بالتنافسية والغرور والخوف والعدوان والأنانية والعقلانية المنتقصة. بناء على هذا فان هذا الاتجاه يتعامل مع السياسة كحقل للصراع ، وينظر للسلطة والنظام السياسي باعتبارهما قائمين على مزيج من القوة والخوف والاعتقادات الزائفة ، وليس على القناعات الاخلاقية او الرضا العام. حول تاريخ الواقعية ، وتعددية معانيها ، انظر Meinecke 1957 ؛ بيو 2015 ؛ McQueen 2017. حول "الواقعية" في النظرية السياسية الحديثة انظر.

William Galston: ‘Realism in Political Theory’, European Journal of Political Theory, (Oct. 2010): pp. 385–411

https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/1474885110374001

[107] برلين: الحرية ، 223

[108] Berlin: Russian Thinkers, (2003), p. 299

[109]   ازيا برلن: ضلع الانسانية الاعوج ، 43

[110]  برلين: الحرية ، 431

[111] Isaiah Berlin: Russian Thinkers, Henry Hardy and Aileen Kelly (eds), Penguin, 2003, p. 258

[112] See for example, Roger Hausheer: ‘introduction’ to I. Berlin: Against the Current: Essays in the History of Ideas, Henry Hardy (ed.), 2nd ed., Princeton U. Press, (Princeton 2001), pp. xiii-Liii

[113] See for instance, Christopher Hitchens: ‘Moderation or Death’, London Review of Books, Vol. 20 No. 23, (26-Nov- 1998), https://www.lrb.co.uk/the-paper/v20/n23/christopher-hitchens/moderation-or-death

[114] من بين المفكرين البارزين الذي اتخذو ا موقفا مماثلا لموقف برلين  ، نذكر ريموند ارون ، دانييل بل ، نوربرتو بوبيو ، مايكل اوكيشوت ، كارل بوبر ، وارثر شليسنجر  جونيور . 

مقالات ذات صلة

ايزايا برلين ... حياته وفكره

ايزايا برلين

الحرية بين مفهومين

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات 

عودة لمبدأ المساواة

المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته

اساطير قديمة

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟


07/10/2020

سجن الارواح

غرض هذه المقالة هو توضيح المقصود بالتفكير الاخلاقي. أي كيف يضبط الناس علاقاتهم كي لا يتحول الاختلاف الى عداوة او طغيان.

والمتوقع في الغالب ان يلتزم الناس بشكل طوعي بالاحسان في تعاملهم مع بعضهم. لكن هذا لا يحصل دائما. لهذا تقوم المجتمعات بتحويل بعض القواعد الاخلاقية الى انظمة ملزمة (ومن الامثلة عليها تحريم الكلام العلني عن الفواحش ، ومنع الاساءة اللفظية والتهديد ، ومنع الاهمال المؤدي الى الضرر ، وغير ذلك) فهذه في الأصل قواعد اخلاقية ، كان المفروض ان يلتزم الافراد بها طوعا ، أي دون خوف العقاب او الطمع في الثواب. لكن الأمور لا تجري دائما على هذا النحو ، لهذا تحولت الى قانون.

رغم ذلك ، فان غالبية القواعد الاخلاقية بقيت اعرافا عاما ، يلتزم الناس بها عن طيب خاطر. وينبغي القول للمناسبة ان اسوأ المجتمعات حالا ، هي تلك التي تركت الالتزام الطوعي بالمعروف ، وحولت معظم اعرافها وقواعدها الاخلاقية الى قوانين ملزمة ، فباتت حياة الافراد مقيدة ومحدودة ، لا يتحركون الا بامر ولا يتوقفون الا بأمر ، وبات الخوف من العقاب والغرامة والسجن ، هاجسا يسيطر على نفوس الناس طوال يومهم. وأذكر لهذه المناسبة حادثا شهدته في منتصف ثمانينات القرن العشرين ، حين لقيت استاذا جامعيا في ديار بكر ، جنوب تركيا ، فتحدثنا في مسائل شتى ، وحين سألته عن تاثير الحكم العسكري – الذي كان قائما وقتها – على الجامعات ، التفت يمينا وشمالا ، ثم نهض وودعني من دون كلام. وفي اليوم التالي ابلغني صديق مشترك ان الرجل يأسف ، لأنه شعر بخوف شديد لمجرد وصول الكلام الى الوضع السياسي القائم.

لا يوجد مجتمع من دون اخطاء او مشكلات ، صغيرة أو كبيرة. المجتمع الذي يعاقب افراده  على كل خطأ ، والمجتمع الذي يمتنع أفراده اختيارا عن ارتكاب "أي" خطأ ، سيتحول الى سجن للروح ، سيكون اقرب الى حظيرة دواجن ضخمة وليس مجتمعا للناس. لا اعلم ان كان احد القراء قد زار حظائر الدواجن الحديثة ، فالدجاج الذي فيها يقضي معظم وقته ذليلا ناعسا صامتا ، يأكل ثم يتراجع ، ليبقى من دون حركة طوال ساعات. هذا هو المثال الاقرب الى المجتمع الشديد الانضباط.

 اما المجتمع الاعتيادي فهو مجال حيوي مفتوح للخطأ والصواب ، يتصارع الناس فيه من اجل مساحة او مكانة او مال او فكرة ، او غير ذلك. التكاثر غريزة طبيعية في البشر ، وهي – في اعتقادي – من اسرار تقدم الانسان. الاختلاف ثم الصراع نتيجة طبيعية لنشاط تلك الغريزة. وهذا هو الذي حمل البشر على تطوير المثل والقواعد الاخلاقية ، التي تساعدهم على تقليل الاحتكاكات الضارة فيما بينهم ، وحل المشكلات اذا وقعت.

التفكير في الاخلاق إذن ، هو الفحص المنتظم للعلائق التي تربط البشر الى بعضهم ، والقواعد التي يتبعونها في فهم الاشياء وادراكها ، واختبار المصالح والمثل التي تشكلت على ضوئها أساليب العيش والتعاملات العامة ، وانظمة القيم التي تحدد اغراض حياتهم. منظومات القيم هذه عبارة عن اعتقادات حول الكيفية التي ينبغي للحياة ان تعاش ، كيف ينبغي للرجال والنساء ان يكونوا ، وماذا ينبغي لهم ان يفعلوا.

نحن بحاجة الى الاخلاق لاننا بشر خطاؤون ، ولو لم يكن ارتكاب الخطأ طبعا لازما لحياتنا ، لما كان ثمة حاجة لأي من القيم الاخلاقية او آداب السلوك.

الشرق الاوسط   الأربعاء - 20 صفر 1442 هـ - 07 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15289]

https://aawsat.com/home/article/2550031

مقالات ذات علاقة

اساطير قديمة

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها الق...

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية والانفلات

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

كلمة السر: كن مثلي والا..!

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

مدينة الفضائل

نافذة على مفهوم "البراغماتية"


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...