زميلنا الدكتور أنمار مطاوع
يخشى من تحول المجتمع السعودي الى ما وصفه بـ«مجتمع احتفالي». المجتمع الاحتفالي
حسب تعريفه هو ذلك الذي يبالغ في تصوير الاعمال والانجازات ويحتفي بها على نحو
مبالغ. وهو يضرب مثالا على هذا بالتظاهرة الاحتفالية التي رافقت ادخال الكمبيوتر
الى المدارس، والتي كانت اكبر من حقيقة المشروع.
كما عرض امثلة منها بكاء
الخطباء في المساجد. وركز على الجانب الاتصالي في هذا الفعل، أي كون الاحتفال أو
البكاء وسيلة لاثارة تعاطف المستمعين أو المشاهدين مع القضية أو الحدث المطروح.
يتعلق الموضوع اذن بالتناسب
بين الفعل والمعنى الذي يولده أو يراد توليده منه، كتمهيد للفكرة نقول ان أي فعل
انساني يستمد قيمته من المعنى الداخلي الكامن فيه. لولا معنى الفعل لما كان للفعل
أي قيمة. حين تقيم وزارة التربية احتفالا بتدشين مشروع الكمبيوتر فانها تعرف تماما
ان هذا الاحتفال هو كلفة اضافية. لكنها تقبل بهذا العبء، لأنها تريد اضفاء قيمة
رمزية على عملها، فهو – في رأي الوزارة – ليس مجرد الات واشخاص يجلسون أمام
الآلات، بل هو تعبير عن «تحول» ثقافي أو عملي تريد الاشارة اليه، أو هو دليل على
«انجاز» أو نجاح لرجال الوزارة. وهي تتوقع ان يقابل المشروع بتقدير من جانب
الجمهور لها أو له، كما تريد من الطلاب أو اهاليهم اعتباره مكسبا وفرصة. هذه
التعبيرات ليست جزءا من المكونات المادية للمشروع لكنها قيم رمزية، يمثل كل منها
جوابا على حاجة قائمة أو سؤال سابق.
تتولد القيمة الرمزية للفعل
اذا تولد الفعل نفسه، لكنها دائما اكبر منه، لأن الرمز اكبر من الحقيقة، ولأن
توليد الرمز هو عملية سائلة متواصلة يمارسها كل شخص على نحو مختلف عن الاخرين،
بينما الفعل محصور في حدوده المادية والموضوعية. الرمز هو كون اسطوري يحيط
بالحقيقة، فلا بد أن يكون أضخم منها.
ارتباط الفعل بالمعنى واضح
حتى في الافعال الشخصية. فلان يشتري سيارة بربع مليون مع ان سيارة بخمسين الفا تسد
حاجته، لأن السيارة الاولى تولد معاني مختلفة عن الثانية، مثل التعبير عن المكانة
أو السعادة أو القوة الخ. على نفس النسق فان الخطيب الذي يبكي اثناء حديثه قد لا يكون
– بالضرورة – منفعلا أو متألما، لكنه يريد توجيه المستمعين الى الرسالة الداخلية
لكلامه، أي الانفعال العاطفي، الذي قد يكون خوفا من الله أو تعاطفا مع الام
الناس.. الخ.
يقودنا هذا الى تفسير مختلف
للسلوك الاجتماعي الذي يصفه الزميل مطاوع بالاحتفالي. تحتفل الحكومات باليوم
الوطني الذي ربما يكون قد مضى على موضوعه عشرات السنين، ويحتفل الناس بالذكرى
السنوية لزواجهم أو ولادة – أو وفاة – عزيز عليهم، وتحتفل الشركات بيوبيلها الفضي
أو الذهبي، لا لسبب غير التاكيد على المعنى الذي يرتبط به هذا الاحتفال، مثل معنى
النجاح أو الاستمرار، أو التواصل أو ربما المطالبة بالتقدير، أو بيان المكانة. في
حقيقة الامر فان الرابطة الاجتماعية، أي كون الفرد جزءا من جماعة وليس روبنسون
كروسو أو حي بن يقضان في جزيرته المنعزلة، هذه الرابطة ليست شيئا ماديا، أي ليست
فعلا، بل هي معنى يتولد عن افعال، مثل اللقاء واظهار التعاطف والتعاون والتجاور
والتوافق على فكرة، والقاء تحية الصباح، وتبادل القلق على المصالح، والتفكير
المتماثل حول المستقبل الخ..
كل من هذه الافعال يكتسب قيمته من المعنى الذي يولده،
وهو في هذه الحالة : الارتباط العاطفي. وعلى هذا الاساس نشأ الفولكلور، أي الثقافة
الشعبية التي تجسد وتصور اشكال الحياة الاجتماعية وهموم الناس ورغباتهم. الفولكلور
الشعبي هو فعل غرضه توحيد المعنى المفترض ان يتولد عن افعال فردية أو اجتماعية
وربطها بالقيمة الكلية للفعل الكلي، أي الحراك المجتمعي، باعتباره تكثيفا لمجموع الافعال
الفردية التي غرضها ترسيخ الرابطة الاجتماعية. الفولكور هو احتفال بالجماعة وتاكيد
على اهمية الرابطة الاجتماعية.
الاحتفال بالفعل قد يكون
تصرفا طبيعيا غير متكلف، يقوم به الناس من تلقاء انفسهم، ويشعرون بسببه بالسعادة
وتقدير الذات. وقد يكون اصطناعيا، يستهدف فقط التغطية على قصور الفعل الذي هو
موضوع الاحتفال، أو التعجيل في استرداد ثمنه الاجتماعي (مثل الولاء والتقدير).
ولعل هذا هو الجانب الذي ازعج زميلنا الدكتور مطاوع، واظنه محقا فيما ذهب اليه.
عكاظ 14-11-2007