‏إظهار الرسائل ذات التسميات كارل بوبر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كارل بوبر. إظهار كافة الرسائل

28/10/2015

مدينة الفضائل

زميلنا الاستاذ مرزوق العتيبي كتب قبل اسبوعين ناقدا التفكير المثالي ، الذي يتخيل مدينة تخلو من الآثام والنواقص. ليس باعتباره مستحيل التحقق ، بل لأنه يرسي أرضية للاستبداد والاحادية ، التي تحول المجتمع الطبيعي الى ما يشبه السجن الكبير.
لعل كتاب "الجمهورية" الذي وضعه الفيلسوف اليوناني افلاطون هو أشهر النماذج التي وصلت الينا عن فكرة "المدينة الفاضلة". لكني احتمل انه لم يكن بصدد الدعوة الى مدينة واقعية يقيمها الناس. فقد صب جل اهتمامه على التعريف باراء استاذه سقراط ، وما أدخله من تعديلات عليها. انه في ظني مثال للمقارنة الفلسفية ، وليس برنامج عمل يمكن تطبيقه. لكنه مع ذلك ، شكل مدخلا لمنهج في العمل السياسي والاجتماعي اصبح له فيما بعد رواد وأنصار كثيرون.
انطلق افلاطون من مقدمة بسيطة ، اعتبرها بديهية ، خلاصتها ان البشر عاجزون فطريا عن الاجتماع السليم. لو وجدوا صدفة في مكان واحد فالمرجح انهم سيكونون أميل الى التنازع والعدوان. ولذا فهم يحتاجون دائما الى رئيس يقسرهم على التسالم.
تبنى هذا الفكرة الفيلسوف المسلم ابو نصر الفاربي وشرحها بالتفصيل في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" ، ويبدو انها صادفت هوى في المجال الثقافي الاسلامي عموما ، حيث تجد ظلالها في غالبية البحوث الفقهية ، سيما ما يتعلق منها بالولايات والحسبة. وتبناها القديس توما الاكويني الذي اضاف اليها لمسة دينية ، حولتها الى تعبير معياري عن المفهوم الكاثوليكي للدولة.
وفي أيامنا هذه نجد ظلال الفكرة عند شريحة كبيرة من العاملين في حقل الدعوة الدينية. وهي تتضح في جانبين: في الكلام الكثير عن الالتزام بالدين كحل وحيد ونهائي لكافة المشكلات ، وفي تحبيذ القسر والاجبار كوسيلة لالزام الناس بالفضائل.
تعرضت فكرة "المدينة الفاضلة" لكثير من النقد. بل ان الفيلسوف المعاصر كارل بوبر اعتبرها من أسوأ ما فكر فيه الفلاسفة عبر التاريخ. وكرس جانبا كبيرا من كتابه "المجتمع المفتوح واعداؤه" لنقد هذه الفكرة في شخص افلاطون. كما وجه نقدا شديدا الى الماركسية ، واعتبرها نموذجا للايديولوجيات الشمولية التي تريد – في نهاية المطاف – اعادة سجن البشر في أقفاص جميلة الالوان ، بدل تمكينهم من التحرر واختيار نمط الحياة التي يريدها كل منهم.  
ويشير بوبر في طيات كتابه الى خطورة الفكرة لانها – حسب تعبيره – من ذلك النوع من الافكار التي تلامس نزوعا مثاليا عند كافة البشر، فيتناسون انها مجرد تخيل غير قابل للتحقيق ، ويسلمون قيادهم لبعض المغامرين الذين يستعملون الفكرة كمركب لصناعة النفوذ السياسي ، أو لأنهم وقعوا مثل أولئك أسرى لهذا الوهم.
ويعرض في مفتتح الكتاب نموذجا مما كتبه افلاطون حول استحالة الحياة الفاضلة من دون قائد:
" المبدأ الاعظم هو ان اي شخص ، ذكرا كان او انثى ، لا ينبغي ان يعيش بلا قائد..... لا ينبغي لعقل اي شخص ان يعوده على فعل اي شيء على الاطلاق بمبادرته الخاصة.... حتى في اصغر المسائل شأنا ، عليه ان يمتثل للقائد... عليه ان يروض نفسه طويلا على ان لا يأتي بفعل مستقل ، وان لا يصبح قادرا عليه بأي معنى.."
 اختار بوبر هذا النموذج لانه يجسد جوهر التفكير الشمولي/المثالي ، الذي يتجلى في الغاء الفرد ككائن عاقل مستقل وقادر على الاختيار. القائد او المرشد او المعلم عند افلاطون ليس جسرا يحمل المتعلمين الى الجانب الاخر من النهر ، ثم يطلقهم كي يواصلوا الطريق بمفردهم ، بل هو أشبه بالراعي الذي يأخذ ماشيته الى المرعى ، كي ترى العالم ، ثم يعيدها في اخر النهار الى الحظيرة.  
الشرق الاوسط 28-10-2015

07/05/2011

نافذة على فلسفة كارل بوبر



مجلة الخط – العدد الثالث – مايو 2011

اكتب هذه الملاحظات ناصحا زملائي واصدقائي بقراءة كارل بوبر ، الفيلسوف البريطاني ، النمساوي المولد ، الذي يعتبر واحدا من اهم الفلاسفة المعاصرين واكثرهم تاثيرا. رغم اني اميل شخصيا الى نظرية "تغير الانساق" التي اقترحها توماس كون فيما يتعلق بفلسفة العلم ، الا ان فلسفة بوبر تذهب الى افاق اوسع من تلك التي عالجها كون ، في فلسفة المعرفة وفي الفلسفة السياسية والمجتمع وغيرها.


ولد بوبر في فيينا عام 1902 ، وتوفي في 1994. في اوائل القرن العشرين اشتهرت فيينا بحلقاتها العلمية ولا سيما الفلسفية ، وكان لكل حلقة مذهب خاص ، وقد انتجت تلك الحلقات بعض اهم المساهمات في الفلسفة الحديثة. ليس من قبيل المبالغة القول بان الامة الالمانية قد ارست بعض اهم الاسس في العلوم والتقنيات الحديثة ، ولا شك ان شيوع الفكر الفلسفي في الثقافة الالمانية كان من ابرز العوامل وراء شيوع التفكير العلمي.

قدم بوبر نظرية هامة في فلسفة العلم تبدأ بنقد منهج الاستقراء الذي يقوم في صورته المبسطة على ملاحظة العناصر المشتركة بين الامثلة الواقعية وصياغة قاعدة عامة وصفية بناء على تلك المشتركات. رأى بوبر ان ملاحظة الواقع ليست بسيطة : حين ترى شيئا فانك لا تستعمل عينك فقط ، العين هي مجرد اداة لنقل المشهد الخارجي الى منصة فرز وتصنيف في داخل عقلك. هذه المنصة هي اداة فهم للاشياء تتشكل على ضوء ثقافتك السابقة وتوقعاتك وفهمك لنفسك ولمحيطك. ولهذا فان الوصف الذي تعطيه لذلك الشيء يتضمن – بصورة صريحة او ضمنية – حكما عليه. ومن هنا فان ما قرر الباحث انه عنصر اشتراك بين الاشياء هو في حقيقة الامر حكمه الخاص عليها ، وهو حكم قد يحكي الواقع وقد يجافيه.

 

يعتقد بوبر ان البحث العلمي في كل مراحله هو سلسلة من المشكلات الذهنية او الواقعية التي يجري تجريب الحلول عليها بشكل تدريجي. ما نسميه حلا او تفسيرا او نظرية هو في واقع الامر تجربة او مرحلة من مراحل تطور الفكرة وليس نهايتها. الباحثون في العلوم لا يختلفون في عملهم عن سائر الناس . اولئك مثل هؤلاء ، يتبعون نفس الطريق التجريبي في التعامل مع المشكلات التي يواجهونها . تبدأ العملية بتحديد المشكلة ، وهذا يقود الى بروز العديد من الحلول المحتملة ، التي تخضع للمقارنة بغرض استبعاد الاحتمالات الاضعف . ما ينتج عن هذه العملية هو احتمال اقوى وليس حلا نهائيا او حقيقة صريحة . سياتي اشخاص اخرون ويكتشفون بعض العيوب في تلك النتيجة ، ويقترحون حلا ارقى ، اي اقل عيوبا. وهكذا تستمر العملية ولا تتوقف ابدا. من هنا فان البحث العلمي لا يستهدف اثبات حقائق نهائية ، وهو على اي حال لا يستطيع بلوغ هذه المرتبة مهما حاول . هدف البحث العلمي هو تقديم حلول مؤقتة كل منها يمثل احتمالا افضل في وقته.

وضع بوبر معيارا للتمييز بين ما يعتبره علميا او غير علمي ، اثار الكثير من الجدل ، فحواه ان القابلية للتفنيد هي ما يميز العلمي عن غير العلمي. النظريات التي لا يمكن دحضها او تفنيدها ليست علما. يجب ان تكون الفكرة قابلة للتفنيد كي توصف بانها علمية. كلما ازدادت العناصر القابلة للتفنيد في النظرية كانت اقرب الى العلمية والعكس بالعكس. بناء على هذا المعيار قرر بوبر ان المادية التاريخية التي تعتبر من اعمدة النظرية الماركسية ليست علما لانها لا تحوي عناصر قابلة للتفنيد. كذلك الامر بالنسبة لنظرية فرويد المشهورة في التحليل النفسي.

غير العلمي يمكن ان يكون ايديولوجيا او ايمانا او ميتافيزيقا او انطباعا شخصيا ، اي – في العموم- شيء تؤمن به لانك تريد ذلك ، بغض النظر عن قابليته للاثبات والتجربة او عدمها. هذا المعيار ، الذي يبدو غريبا بعض الشيء ، ينطلق من اعتقاد بوبر بان العلم ليس اكتشافا واحدا ، بل هو سلسلة من الكشوف التي لا تتوقف . يتوقف العلم اذا توصلنا الى الحقيقة النهائية ، لكن هذا مستحيل بالنسبة للانسان . نحن نسعى للتعلم والبحث لا ننا لا نعرف الحقيقة الكاملة والنهائية ، ولو وصلنا الى هذه الغاية لما عاد الانسان محتاجا الى العلم ، وهذا من الاحتمالات المستحيلة.

يخلص بوبر من وراء هذه التحليل الى ان النظرية التي نعارضها قد لا تكون "خطأ" في الحقيقة ، بل هي احد الاحتمالات ، وان ردنا عليها هو احتمال آخر. سلسلة الاحتمالات هذه هي خط متصاعد يتطور من خلاله العلم وتتسع المعرفة. كل احتمال هو مرحلة ، ليس بالضرورة خطأ وليس بالضرورة صحيحا. هي في كل الاحوال احتمالات ومراحل تطور. نحن نستفيد من الفكرة التي نعتبرها خاطئة بقدر استفادتنا من الفكرة التي نعتبرها صحيحة.  فالاولى مثل الثانية تفتح اعيننا على بدائل وخيارات مختلفة عنها.

"منطق البحث العلمي" و "المجتمع المفتوح واعداؤه" هي ابرز كتب بوبر التي ترجمت الى اللغة العربية ، ويحوي الاول ابرز محاور نظريته في المعرفة ، بينما يدور الثاني بشكل رئيسي حول فلسفته السياسية التي ركز فيها على نقد الانظمة الشمولية والمثالية.

دار معظم فصول الكتاب الثاني حول نقد اليوتوبيا التي اقترحها الفيلسوف اليوناني افلاطون في "الجمهورية". ويعتقد بوبر ان اليوتوبيات او النظريات المثالية كانت من اكثر الافكار التي اساءت للانسان ، لانها قامت ابتداء على انكار فردانيته وخصوصيته ، وبررت للاقوياء ميولهم للاستبداد والتسلط. ولعل الانظمة الشمولية مثل النازية والشيوعية هي ابرز تمثلات المباديء السياسية القائمة على يوتوبيا . فهي تنطلق من ايمان اصحابها بانهم يملكون الحقيقة والادوات المناسبة لاجبار الاخرين على ان يكونوا صالحين وسعداء.

ويكرر بوبر السؤال الذي تردد عبر العصور: هل يستطيع احد غيري ان يحقق لي السعادة التي اتصورها واسعى اليها؟ هل السعادة تصور شخصي لما يريد الانسان ان يكون عليه او يفعله لنفسه ، ام هي تصور يصنعه الاخرون ويحشرونك في عباءته؟  بعبارة اخرى : هل انا الذي اصمم حياتي كي اصل الى سعادتي الخاصة ، ام ان غيري هو الذي يفكر نيابة عني ويقرر كيف يجب ان اعيش وما هو معنى السعادة التي اريدها؟.

مقالات ذات صلة
كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي
نافذة على فلسفة كارل بوبر
حول القراءة الايديولوجية للدين

نافذة على مفهوم "البراغماتية"

مدينة الفضائل

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟


13/12/2010

فقه الواقع من منظور الايديولوجيا


اذا لم يستوعب الدعاة ان العالم قد تغير في العقد المنصرم فهذه مصيبة ، واذا فهموا ورفضوا التعامل مع هذه التغيير او البناء عليه في ارائهم وفتاواهم فهذه مصيبة اكبر من الاولى.

ناصر العمر
قبل عقدين من الزمن (1991م) كتب الشيخ ناصر العمر رسالة صغيرة اسماها "فقه الواقع" ، كرسها للتاكيد على ضرورة فهم الواقع السياسي والاجتماعي قبل اصدار الراي او الفتوى. وحملت الرسالة وما تلاها من خطابات وكتابات للشيخ ناصر العمر تنديدا باهمال العلماء وطلاب الشريعة لذلك الفن واعتبارهم اياه انشغالا بما لا يستحق. وقد اثارت الفكرة جدلا في وقتها ، ثم ذهب الامر برمته في الارشيف مثل سائر الجدالات. كان يمكن للفكرة ان تمثل اضافة هامة للتفكير الديني لو ان صاحبها التزم بالمعايير الموضوعية في فهم الواقع (او فقه الواقع بحسب اصطلاحه الخاص). لكنها بقيت – كما سلف – مجرد عنصر في سلسلة طويلة من الجدالات.
تنقسم المعرفة ، بحسب تقسيم الفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، الى ثلاثة عوالم:

العالم الاول : هو الكون المادي الذي يتالف من حقائق واقعية. يعيش الناس في هذا العالم ويسعون الى فهمه وتصويره على شكل نظريات واوصاف ، فيفلحون احيانا ويفشلون احيانا اخرى . حقائق هذا العالم موجودة سواء احببتها او كرهتها ، فهمتها او عجزت عن ادراكها.

العالم الثاني : هو تصوراتنا الشخصية وتجاربنا وتاملاتنا في ذواتنا او في الكون المادي المحيط . وهي تشكل في مجموعها رؤيتنا للعالم وعلاقتنا به وموقفنا من عناصره ومكوناته. هذا العالم هو الذي تعمل فيه عقولنا حين نفكر في وجودنا وما يطرأ عليه من متغيرات. المعارف الشخصية والتاملات والذاكرة الشخصية هي بعض تمثيلات هذا العالم . وهي جميعا قائمة على ارضية الوعي الشخصي والرغبات والميول والهموم ومتفاعلة معها . هذه المعرفة قد تكون مطابقة للواقع وقد تختلف عنه. لكن صاحبها يؤمن بها ويحبها لانها مرتبطة بشخصه او ميوله.

العالم الثالث : هو مجموع منتجات العقل الانساني المجردة ، اي القائمة بذاتها كموضوع منفصل عن شخص المنتج او الاشخاص الاخرين.  ونراها عادة في اطار اعمال علمية او تطبيقات تقنية مثل الكتب ، الالات ، النظريات ، النماذج ، الحاسبات ، الشبكات .. الخ .

من المهم التمييز بين العالمين الاول والثاني في مرحلة التفكير والتحليل. لان الاسراف في استعمال المنظورات الشخصية والايديولوجية – حتى لو كانت صحيحة بذاتها – قد تعطي للمفكر صورة ملتبسة عن الواقع. ويقال عادة ان اهم اخطاء الماركسية هي هذا الفهم الايديولوجي للعالم. انها خطا جميع الذين ينظرون الى حركة التاريخ باعتباره سلسلة من الحتميات المتعاقبة. واظن ان صاحب "فقه الواقع" قد وقع في هذا المطب . التاريخ قد ينتهي الى نتيجة حتمية ، لكننا لا نعرف توقيتها ، ربما تكون نهاية العالم او مرحلة متاخرة من تاريخه. لكن من الخطا اعتبار الحوادث التي تجري كل يوم نوعا من الحتميات، سواء الحتميات التي نحبها او التي نخشى منها.

الجدالات الاخيرة التي شهدتها البلاد تشير الى غفلة مريعة من جانب بعض الدعاة والناشطين في التيار الديني عن التحولات الجارية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي – ومن بين هؤلاء كاتب رسالة فقه الواقع نفسه-. وهي تحولات تنعكس ، شئنا ام ابينا ، على الثقافة العامة وانماط التدين ومعايير العلاقة بين القوى الاجتماعية. تنتمي هذه التحولات الى العالم الاول ، وهي تستوجب فهما وتفسيرا تبنى عليه المواقف والاراء (اي ما ينتمي الى العالم الثاني). اهمال هذه الوقائع او رفضها لا يلغيها ولا يزيل مفاعيلها ، بل يعزل الشخص المفكر عن عصره ويجعل الامور ملتبسة عليه ، فيقع في سلسلة اخطاء منهجية ومعرفية وعملية قد تصحبه لزمن طويل.
فقه الواقع لا يعني – في جوهره - قراءة الاخبار ومتابعة الحوادث والتعليق عليها وكتابة مقالات التنديد والتاييد حولها ، بل استيعاب نسق التحولات ومحركاتها وفهم اتجاهاتها ومآلاتها ، ثم اخذها بعين الاعتبار عند استنباط الموقف الديني والخطاب الديني. اذا اقحمنا قناعاتنا الايديولوجية على تفكيرنا في الحوادث ، فسوف نعود الى ما كنا نعرفه سلفا ، ولن نستفيد معرفة جديدة ، وسوف نعيد انتاج صورة ذهنية عن واقع افتراضي نؤمن به ، لكنه غير موجود خارج اذهاننا.

جريدة عكاظ 13 ديسمبر 2010

15/03/2010

كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي"

|| معيار التمييز بين العلمي وغير العلمي عند بوبر هو القابلية للتفنيد. ما لا يمكن دحضه او تفنيده فليس علما||
"منطق البحث العلمي" للفيلسوف البريطاني – النمساوي كارل بوبر هو كتاب اخر وجدته في معرض الرياض للكتاب ، واظنه يستحق الاقتناء والقراءة . افترض ان قراء الفلسفة قليلون ، لكني مع ذلك انصح به الكتاب والدعاة واي مثقف يرغب في عصف ذهني يجادل من خلاله ذاته ومتبنياته.
يعتبر بوبر واحدا من ابرز فلاسفة العصر . وقد خلفت بحوثه اثارا عميقة على التفكير الفلسفي والنقدي وعلى الفلسفة السياسية في العالم المعاصر. ورغم ان كثيرا من كتبه قد ترجم الى العربية ، الا اني وجدت الاهتمام به بين المثقفين العرب محدودا . ولعل مرجع ذلك هو قلة اهتمامنا بالفلسفة وتياراتها الجديدة ، رغم انها ضرورية ليس فقط للمختصين ، بل لكل باحث يريد التحول من مستهلك للمعلومات والآراء التي ينتجها الاخرون الى ناقد لتلك الآراء ثم الى منتج للفكر والعلم.
Image result for ‫تحميل كتاب كارل بوبر منطق البحث العلمي‬‎
قدم بوبر نظرية هامة في فلسفة العلم تبدأ بنقد منهج الاستقراء الذي يقوم في صورته المبسطة على ملاحظة العناصر المشتركة بين الامثلة الواقعية وصياغة قاعدة عامة وصفية بناء على تلك المشتركات . رأى بوبر ان ملاحظة الواقع ليست بسيطة : حين ترى شيئا فانك لا تستعمل عينك فقط ، العين هي مجرد اداة لنقل المشهد الخارجي الى منصة فرز وتصنيف في داخل عقلك.
هذه المنصة هي اداة فهم للاشياء تتشكل على ضوء ثقافتك السابقة وتوقعاتك وفهمك لنفسك ولمحيطك. ولهذا فان الوصف الذي تعطيه لذلك الشيء يتضمن – بصورة صريحة او ضمنية – حكما عليه. ومن هنا فان ما قرر الباحث انه عنصر اشتراك بين الاشياء هو في حقيقة الامر حكمه الخاص عليها ، وهو حكم قد يحكي الواقع وقد يجافيه.
يعتقد بوبر ان البحث العلمي في كل مراحله هو سلسلة من المشكلات الذهنية او الواقعية التي يجري تجريب الحلول عليها بشكل تدريجي . ما نسميه حلا او تفسيرا او نظرية هو في واقع الامر تجربة او مرحلة من مراحل تطور الفكرة وليس نهايتها. الباحثون في العلوم لا يختلفون في عملهم عن سائر الناس.
 اولئك مثل هؤلاء يتبعون نفس الطريق التجريبي في التعامل مع المشكلات التي يواجهونها . تبدأ العملية بتحديد المشكلة ، وهذا يقود الى بروز العديد من الحلول المحتملة ، التي تخضع للمقارنة بغرض استبعاد الاحتمالات الاضعف . ما ينتج عن هذه العملية هو احتمال اقوى وليس حلا نهائيا او حقيقة صريحة . سياتي اشخاص اخرون ويكتشفون بعض العيوب في تلك النتيجة ، ويقترحون حلا ارقى ، اي اقل عيوبا. وهكذا تستمر العملية ولا تتوقف ابدا. من هنا فان البحث العلمي لا يستهدف اثبات حقائق نهائية ، وهو على اي حال لا يستطيع بلوغ هذه المرتبة مهما حاول . هدف البحث العلمي هو تقديم حلول مؤقتة كل منها يمثل احتمالا افضل في وقته.
وضع بوبر معيارا للتمييز بين ما يعتبره علميا او غير علمي ، اثار الكثير من الجدل ، فحواه ان القابلية للتفنيد هي ما يميز العلمي عن غير العلمي. النظريات التي لا يمكن دحضها او تفنيدها ليست علمية . كلما ازدادت العناصر القابلة للتفنيد في النظرية كانت اقرب الى العلمية والعكس بالعكس. بناء على هذا المعيار قرر بوبر ان المادية التاريخية التي تعتبر من اعمدة النظرية الماركسية ليست علما لانها لا تحوي عناصر قابلة للتفنيد.
كذلك الامر بالنسبة لنظرية فرويد المشهورة في التحليل النفسي. غير العلمي يمكن ان يكون ايديولوجيا او ايمانا او ميتافيزيقا او انطباعا شخصيا ، اي – في العموم- شيء تؤمن به لأنك تريد ذلك ، بغض النظر عن قابليته للاثبات والتجربة او عدمها. هذا المعيار ، الذي يبدو غريبا بعض الشيء ، ينطلق من اعتقاد بوبر بان العلم ليس اكتشافا واحدا ، بل هو سلسلة من الكشوف التي لا تتوقف . يتوقف العلم اذا توصلنا الى الحقيقة النهائية ، لكن هذا مستحيل بالنسبة للانسان . نحن نسعى للتعلم والبحث لا ننا لا نعرف الحقيقة الكاملة والنهائية ، ولو وصلنا الى هذه الغاية لما عاد الانسان محتاجا الى العلم ، وهذا من الاحتمالات المستحيلة.

22/07/2007

المدينة الفاضلة


لم يحفل مفكرو العرب كثيرا بنماذج المدن الفاضلة او اليوتوبيات التي عرفها الفكر الاوروبي في عصوره القديمة. ولعل الفيلسوف الفارابي هو الوحيد الذي كلف نفسه عناء التنظير لمثل هذا النموذج فكتب «المدينة الفاضلة» محتذيا مثال افلاطون في «الجمهورية». لكن التفكير في المجتمع المثالي لم يغب لحظة عن بال الفلاسفة والمفكرين والفقهاء.
وتجد هذا التطلع مبثوثا في زوايا كتاباتهم وآرائهم، بل وفي الكثير من الفتاوى والاحكام الفقهية. وللمناسبة ينبغي القول ان المجتمع المثالي او المدينة الفاضلة شكل في قديم الزمان وحاضره نقطة التقاء بين مفكري العالم اجمع. فالذين حاولوا وضع نموذج متكامل، مثل افلاطون والفارابي، والذين اقترحوا سياقات محددة مثل اخوان الصفا وكارل ماركس، بل وحتى الذين عارضوا هؤلاء واولئك، مثل جورج اورويل وكارل بوبر، اتفقوا جميعا على ان الوصول الى مستوى قريب من المثالية هو احتمال ممكن، اليوم او غدا او بعد قرون. وطبقا لماريا برنيري (المدينة الفاضلة عبر التاريخ – عالم المعرفة) فان كثيرا من الجوانب المشرقة في حياة البشر المعاصرين، كانت في اول امرها افكارا مثالية طرحها مفكرون حالمون، ورأوها ممكنة، ربما قبل سنوات طويلة من اقتناع بقية الناس بها وتحولها الى مواضع اجماع بين العامة.

دعنا نتذكر مثلا ان تحديد يوم العمل بثماني ساعات ومنح العامل اجازة اسبوعية مدفوعة، لم يكن معروفا في الماضي، وحين طرحه كامبانيلا في بداية القرن السابع عشر، قوبل بالسخرية والانكار. لكن العالم اليوم متفق على ان عدم ثبات ساعات العمل ينطوي على استغلال وظلم للاجير ولعائلته وتهوين من انسانيته ودوره كفاعل اجتماعي. يمكن الاشارة ايضا الى ان فكرة الغاء الرق والمساواة بين الجنسين ظهرت اولا في كتابات اليوتوبيين، في الوقت الذي كان نظام الرق عمودا راسخا في اقتصاديات العالم شرقه وغربه، وكانت الفكرة في اول امرها موضوعا للسخرية والتندر من جانب كثيرين. شهد القرن التاسع عشر نهاية ادب اليوتوبيا.

فمنذئذ رأينا كتابات في نقد التفكير المثالي، لكن لم نر محاولات جدية لوضع نموذج عن المدينة الفاضلة او دعوة اليها. لعل هذا الانحسار كان نتيجة التحول الجذري في اتجاه البحث العلمي من التأملات المجردة والميتافيزيقا الى الوصف والتجريب وتحليل الوقائع، وتركيز العلماء على فهم الطبيعة والانسان والجماعة ومسيرة حياتهما كما هي، ثم استنباط طرق الاصلاح من داخل هذه المنظومة وليس بانكارها. لم يعد اهل هذا العصر يبحثون – كما رأت برنيري – عن حلول جذرية ونهائية لشرور العالم، ولم يعودوا مؤمنين بامكانية انهاء الحروب واجتثاث الامراض او التصفية الكاملة للجريمة.

غاية ما يبحث عنه انسان اليوم هو تأجيل الحرب او تخفيف انعكاساتها واضرارها، وتخفيض معدلات المرض والجريمة والفقر. هل يعني هذا ان انسان اليوم أصبح عاجزاً عن حل مشكلاته؟ ام ان المشكلات قد تضخمت الى الحد الذي اصبحت معه عصية على العلاج؟. كلا الاحتمالين قد يكون صحيحا. لكن هل نجح اليوتوبيون في تطبيق اي من الحلول التي اقترحوها؟. ربما تفاقمت مشكلات العالم في العصر الحديث، لكن المثاليين لم ينجحوا حتى في العصور القديمة التي يمكن افتراض ان مشكلاتها كانت ايسر. بل ان السياسيين الذين ارادوا تطبيق بعض مقولات اليوتوبيا انتهوا الى القمع العاري، فتحولوا من مصلحين محتملين الى مستبدين فعليين.
يلتقي معظم اليوتوبيين عند نقطة محورية محددة هي القول بان سعادة الانسان تكمن في نظام اجتماعي شديد الانضباط. بعبارة اخرى فان هؤلاء يربطون بين الرفاه المادي والسعادة، ويقبلون قيام نظام استبدادي يلغي استقلال الفرد بذاته وهويته وعقله واختياراته، طالما ساعد هذا على تحقيق الانضباط المنشود. وقد رأينا تاثيرات هذه الفكرة عند السياسيين الذين تبنوا ايديولوجيات شمولية، مثل تجربة الرايخ الثالث في ظل ادولف هتلر وتجربة الاتحاد السوفيتي في ظل ستالين.

ونجد امثلة منها – ولو كانت اقرب الى الكاريكاتير منها الى الصورة الواقعية - عند بعض زعماء العالم الثالث الذين ظنوا ان الانضباط الحديدي هو السبيل لتحقيق حلول جذرية، مثلما فعل الجنرال سوهارتو، الرئيس الاندونيسي، وانور خوجه الرئيس الالباني في اوائل السبعينات من القرن العشرين، وكذلك صدام حسين، الرئيس العراقي في منتصف الثمانينات. تحول النظريات المثالية من الفكر الى الجبر، وصيرورتها قاعدة للنظريات السياسية الشمولية، هي ابرز اسباب فشلها وانكارها في عالم اليوم. هناك بالطبع اسباب اخرى، من بينها مثلا تعاظم قيمة الفرد، وتغير مسارات العلم والاقتصاد وما يترتب عليه من ادوار وقيم. لكن هذا حديث آخر نعود اليه في وقت لاحق.

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070722/Con20070722126785.htm
 عكاظ - الاحد  08/07/1428هـ ) 22/ يوليو/2007  العدد : 2226

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...