‏إظهار الرسائل ذات التسميات تجديد الدين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تجديد الدين. إظهار كافة الرسائل

12/03/2008

أن تزداد إيماناً وتزداد تخلفاً

 

؛؛ الكلام عن الفصل بين العلم والدين ليس استنساخا شائها وبليدا كما قيل، بل هو المنطق الطبيعي وعمل العقلاء في كل الاماكن والعصور؛؛

أصل الدعوى التي أزعجت الزميل د.عبدالعزيز قاسم (عكاظ 2ـ28) هي زعم هذا الكاتب بالحاجة الى الفصل بين العلم والدين. في بيان هذه الفكرة اقول ان معظمنا يربط بين الدين والعلم ربطا عضويا، فهو يريد هندسة اسلامية وطبا اسلاميا الخ.

- هل المقصود يا ترى هو استنباط علم الرياضيات والطب.. إلخ من القرآن والسنة؟. بديهي ان هذا ليس هو المقصود، فالأمم الاخرى لم تأخذ بالقرآن والسنة، ومع ذلك فقد ابدعت علوما عظيمة كالتي نعرفها اليوم.

يقودنا هذا الى نقطة اخرى جديرة بالنقاش وهي اختلاف وظيفة الدين عن وظيفة العلم، وكنت قد تحدثت عن هذه النقطة في مقالين سابقين (عكاظ 27-6-2007 ، 4-7-2007)، وخلاصة ما قلت هناك ان لكل من الدين والعلم منهج عمل ومجال اشتغال خاص ووظائف متمايزة عن الآخر. ثمة في حياة الإنسان مجالات كثيرة لا يتدخل الدين فيها مطلقا. فأنت لا ترجع الى الكتاب والسنة حين تريد بناء جسر، بل توكل الامر الى المهندس الكفؤ الذي قد يكون مسلما او مسيحيا او وثنيا. ولا تسأل عن دين الطبيب حين تمرض، بل تبحث عن كفاءته العلمية. علم الرياضيات والفيزياء، والعلوم الطبيعية والتجريبية الأخرى تطورت على يد آلاف من الباحثين الذين لا يتذكر الإنسان دينهم ولا يشير الى معتقداتهم، فالعاقل يعرف بفطرته ان الانتماء الديني أو القومي لا علاقة له اطلاقا بالبحث العلمي وما ينتج عنه.

- ترى أين يتصل الدين بالعلم؟

هدف القيم الدينية هو الانسان الذي يستعمل منتجات العلم. عالم الميكانيكا يعمل في مختبره متجردا من كل قيد فينتج محركا فائق القوة، يمكن ان يستعمل في تطوير سيارة او طائرة تسهل السفر على الناس، او يستعمل في صناعة صاروخ يقتل الناس. دور الدين ليس تحديد ما يفكر فيه عالم الميكانيكا، ولا كيف يعمل في مختبره. بل يتوجه الى مستهلك العلم فيقول مثلا بحرمة إطلاق الصاروخ على المدنيين او حرمة العدوان.

يتضح إذن؛ أن الكلام عن انفصال العلم عن الدين ليس استنساخا شائها وبليدا كما وصفه د. قاسم، بل هو المنطق الطبيعي وعمل العقلاء في كل الاماكن والعصور.

- هل يتضمن هذا القول تهوينا من شأن الدين أو عزلا له عن حياة الناس؟

في ظني أن اقحام الدين في مجالات اشتغال العلم قد ساهم في عزل الدين عن الحياة وفي تخلف المسلمين. تقييد النشاط الفكري تحت مبررات دينية ادى الى اضعافه. ويذكر هذا بما فعله اباء الكنيسة الاوروبية حين جعلوا انفسهم اوصياء على انتاج العلم وعمل الباحثين، فخلقوا تعارضا شديدا بين الدين والعلم. ونشاهد اليوم في مجتمعاتنا نماذج مماثلة عن أناس يفرضون رقابة حديدية على المفكرين والعلماء ويستعينون بالسلطة السياسية في تحديد ما هو مسموح وما هو ممنوع من الانتاج العلمي، ولعل اقرب مثال الى الذهن هو استبعاد تدريس الفلسفة التي هي ام العلوم واساس التفكير العلمي السليم، فنحن البلد الوحيد في العالم الذي يتخذ هذا الموقف، ونحتج له بمبررات دينية. وبسبب الاقحام المفتعل للدين في مجالات العلم، تضاعفت سطوة رجال الدين، بينما ضعف انتاج العلم، أي ازددنا تدينا وازددنا تخلفا في الوقت نفسه.

لا يختلف اثنان على ان انتاج العلم هو سر النهضة وسبب الحضارة، وانتاج العلم يحتاج اولا وقبل كل شيء الى بيئة تضمن الحرية الكاملة والامان الكامل للعلماء والباحثين. من المعروف بين أهل القانون ان تحقيق العدالة مشروط بتمتع القاضي بعصمة تامة من المؤاخذة والأذى كي يصدر احكامه من دون وجل او مجاملة او مراعاة لهذا وذاك. ويعرف اهل الفكر أن انتاج العلم مشروط بتمتع المفكر بنفس العصمة، في نفس الدرجة، كي يواصل بحثه من دون وجل او مجاملة. ومتى ما افتقرت البلاد الى بيئة كهذه، تراجع الانتاج العلمي او توقف، وتباعدت احتمالات النهوض والتقدم.


عكاظ  الأربعاء 04/03/1429هـ   12/ مارس/2008  العدد : 2460

مقالات  ذات علاقة
-------------------




04/07/2007

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم



؛؛ لا نسأل عن دين الرجل الذي صنع مكيف الهواء او صنع الدواء او مصباح الكهرباء. وحين نحتاج الى بناء منزلنا فاننا نقصد المهندس وليس الفقيه؛؛
 ذكرت في مقال الاسبوع الماضي ان عودة التلاقي بين العلم والدين تتوقف على تحديد نقاط التداخل والتخارج بين الاثنين. وبررت هذه الدعوى بأن لكل من الدين والعلم عالمه الخاص المختلف في موضوعه وأدواته وأغراضه ومعاييره. وبدا أن هذا التبرير لم يلق استحسان بعض السادة القراء. وحسب رأي أحدهم فإن علينا ان نعتقد بشمول الدين وان كل شيء في هذه الحياة ينبغي ان يجد له مكانا في دائرته والا اعتبرناه خارجا عن الصراط المستقيم. ويظهر ان هذا الاحتجاج شائع بين عامة الناس والمثقفين الى درجة تسبب الحرج لكل من يفكر في احتمال وجود عالمين مستقلين : عالم ديني وعالم غير ديني. 

ولا مراء في عظمة الدين وكماله، أما الكلام في شموله فلا يخلو من نقاش. لدينا الكثير من الادلة على «كمال» الدين، والكمال وصف للنوعية وليس الكم. نقول مثلا إن لدينا برنامجاً شاملاً، ونشير الى مساحة يغطيها هذا البرنامج، بغض النظر عن جودته او كماله. بينما نقول ان لدينا برنامجاً كاملاً، ونقصد اتصاف هذا البرنامج بمستوى نوعي رفيع من دون الاشارة الى المساحة التي يغطيها. 

ثمة في العالم مساحات كثيرة خارج النطاق الديني. ومن بينها مثلا النشاطات الحياتية القائمة على العلوم الطبيعية او التجريبية او التقنيات العملية او الرياضيات. لا يختلف الجسر الذي يصممه مهندس مسلم عن ذاك الذي يصممه مسيحي او وثني او ملحد، من حيث المعادلات الهندسية والرياضية والتقنيات التي يتبعها او يعتمد عليها في تصميمه. ولا تختلف السيارة التي يصنعها مسلم عن تلك التي يصنعها غيره. كما لا يختلف نظام المحاسبة الذي يتبعه بنك مسلم عن ذاك الذي يتبعه غيره. فهذه كلها اعمال علمية تقوم على جهد عقلي محض، لا يختلف بين دين وآخر. نحن نعيش في عالم مليء بالحلول التقنية المحايدة، اي التي يمكن تطويرها او استعمالها في اي بلد، بغض النظر عن دينه او لونه. نحن لا نسأل عن دين الرجل الذي صنع مكيف الهواء او صنع الدواء او مصباح الكهرباء. وحين يحتاج احد الى بناء منزله فانه يقصد المهندس وليس الفقيه، وحين تصيبه علة فانه يقصد الطبيب وليس شيخ القبيلة. لكن الطبيب والمهندس وشيخ القبيلة سيلجأون الى الفقيه حين يواجههم امر له علاقة بدينهم، اي بالامور الحياتية التي يعرف كل عاقل انها تدخل ضمن دائرة الدين. 


هذا يكشف في الحقيقة عن تلك المساحات التي تقع خارج دائرة الدين. ترى هل توجد نقطة اتصال بين الدين وهذه المساحات ؟.
الجواب : نعم، يمكن للدين ان يتدخل كمعيار لتحديد قيمة العمل، اي كمصدر للقيم الاخلاقية التي تمنع المهندس او الطبيب او التاجر او رجل الدين من استثمار عمله في ما يضر بالانسان او البيئة او المجتمع. بعبارة اخرى فان كل منشط من مناشط الحياة ينطوي على بعدين، داخلي يتضمن آليات اشتغاله الخاصة، وخارجي يتضمن تأثيره على الانسان والبيئة التي يطبّق فيها.
يتدخل الدين هنا كموجّه لأغراض العمل، ولا يتدخل في العمل نفسه. يمكن لنا ان نسبغ القيمة الدينية او الاخلاقية على عمل الطبيب او المهندس، او نسلبها منه، لا بالنظر الى العمل نفسه بل بالنظر الى نتائجه النهائية. لان دور الدين يتركز على تقييم الناتج وليس تقييم البحث او العمل بذاته. 


خلاصة القول إن كمال الدين امر لا نقاش فيه، بل الكلام في الشمول بالمعنى الكمي. فثمة مساحات كثيرة في الحياة تعتمد على جهد عقلي انساني لا يتدخل فيه الدين. لكن في كل الاحوال فان نتاج كل عمل انساني يحتاج الى تقييم اخلاقي (سلبي) غرضه سلب المشروعية عن تلك الاعمال التي تضر بالانسان او البيئة او المجتمع. وهذه –في ظني- نقطة الاتصال الاولى بين الدين والعلم.


عكاظ الأربعاء 19/06/1428هـ ) 04/ يوليو/2007  العدد : 2208

27/06/2007

تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة

؛؛ الدين يحتاج للعلم في جوانب، والعلم يحتاج الدين في جوانب أخرى. لكن كلا منهما عالم مستقل بمناهجه ومعاييره واغراضه؛؛

هذا تعليق على مقالة اخرى جميلة للاستاذ احمد عائل فقيهي (عكاظ 21 يونيو2007 )، يدعو فيها الى عودة التلاقي بين الجامعة والجامع، كتمهيد لصياغة وعي جديد بين جيل المسلمين الحاضر. وأظن ان معظم قراء الاستاذ فقيهي قد وافقوه فيما ذهب اليه، فغالبية الناس تميل الى سبيل المصالحة، وتفضل اللقاء على الفرقة، والوئام على الخصام. 

أحمد عائل فقيهي

لكن ليسمح لي الاستاذ فقيهي وقراؤه المكرمون بادعاء ان هذه دعوة مستحيلة ضمن الشروط الاجتماعية – الثقافية الراهنة عندنا، رغم انها ممكنة على المستوى النظري.

ولو كنت في محل الكاتب لبدأت بسؤال : لماذا نشكو اليوم من انفصال المؤسستين؟. فالواضح ان احدا لم يقرر هذا الفصل او يسعى اليه. والواضح ان معظم الناس يرغبون في مصالحة بين الدين والعلم، تعيد الى الحياة ما يقال عن تاريخ المسلمين القديم من توافق وتفاعل بين الدين وعلم الطبيعة والتجريب والفلسفة. 

دعنا نحاول سؤالا آخر ربما يسبق ذلك السؤال:

-          ما الذي نعنيه بكلمة «انفصال»؟.

فالواضح ان كثيرا من رواد المساجد قد تخرجوا من جامعات، واكثرية طلاب الجامعات ملتزمون بدينهم. نحن لا نتحدث اذن عن انفصال اهل الدين عن اهل العلم. 

-  هل المقصود هو منح العلوم هوية دينية؟.

بعض الدعاة تحدث عن اسلمة العلوم، واظن ان اهتمام هؤلاء كان منصبا على العلوم الانسانية مثل الفلسفة والاجتماع والادب الخ. لكن فريقا منهم ذهب الى ما هو ابعد فتحدث عن طب اسلامي وكيمياء اسلامية الخ.

انطلق دعاة اسلمة العلوم من فكرة ان العلم المعاصر قد تطور في بيئة معرفية تنكر دور الدين. ولهذا السبب فقد يتطور العلم بعيدا عن الاخلاق، وقد يتحول من خدمة الانسان الى استغلاله. لكن على اي حال فان هذه الدعوة لم تجد قبولا واسعا، لانها ظهرت في بيئة لا تنتج العلم ولا تجري فيها نقاشات علمية حرة. بعبارة اخرى فان اسلمة العلوم غير قابلة للتحقق الا اذا اصبح العالم الاسلامي منتجا للعلم. اما اذا بقي مستهلكا للنتاج العلمي الاجنبي، فان الكلام عن اسلمة العلم يبقى مجرد بلاغة لفظية تشبه اعلان سيتي بنك الامريكي عن انشاء «وحدة مصرفية اسلامية» لاستقطاب زبائن جدد في الخليج.

اظن ان جوهر مشكلة الانفصال التي تحدث عنها الاستاذ فقيهي، تكمن في عجز كل من الجانبين، الديني والعلمي، عن تحديد نقاط التداخل ونقاط التخارج بينهما. فالمؤكد ان الدين يحتاج الى العلم في جوانب، والمؤكد ان العلم يحتاج الى الدين في جوانب أخرى. لكن يبقى كل منهما عالما مستقلا بذاته، له مناهجه ومعاييره واغراضه وأدوات تطوره الخاصة.

نتيجة لغموض نقاط التداخل والتخارج، اصبحنا عاجزين عن تحديد المكان الذي ينبغي ان نستعمل فيه المنهج الديني والاداة الدينية، والمكان الذي ينبغي ان نستعمل المنهج والاداة العلمية. 

الدين بطبعه عالم يسوده اليقين والتسليم والتنازل والخضوع. بخلاف العلم الذي يسوده الشك والجدل والنقد والتعارض وانكار المسلمات. دور الدين هو توفير الاجوبة لانسان يبحث عن الاطمئنان، اما دور العلم فهو اثارة الاسئلة وهدم كل جواب سابق. 

اظن ان اتضاح الخط الفاصل بين مجالات العلم ومجالات الدين، هو الخطوة الاولى لعودة التفاعل الايجابي بينهما، وبالتالي قيام تواصل بناء بين العالمين. لكن هذا يتوقف مرة اخرى على توفر نقاشات حرة ونشطة تنتج علما او تطور العلم. ان تحديد النقاط المشار اليها ليس من الامور التي نرجع فيها الى آراء السابقين وما تركوه من تراث، بل هو نتاج لاكتشاف حاجات معاصرة وأسئلة جديدة تضع على المحك الاجوبة المعتادة والآراء المنقولة من ازمنة سابقة وتثير الشك في ما يبدو بديهيا ومتعارفا.

 https://www.okaz.com.sa/article/114404

عكاظ الأربعاء 12/06/1428هـ ) 27/ يونيو/2007  العدد : 2201

23/02/1997

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة


حين بدأت بالكتابة عن قضايا الحركة الاسلامية المعاصرة في هذه الجريدة ، ان لا يرتاح اليها بعض القراء ، سيما الذين يتوجسون خيفة من الجدل في الامور التي يعتبرونها مقدسة او فوق مستوى التناول في الصحافة العامة ، لكني اشعر الان بالارتياح لان بعض الذين اعتادوا على اصدار الاحكام قبل القراءة تعاملوا هذه المرة بلطف بالغ ، فكتب بعضهم الي ناقدا ما عرضته من افكار ، اومدافعا عن مواقف كنت قد تناولتها بالنقد ، وتحدث بعض عاتبا علي تناول الحركة الاسلامية والمشروع الاسلامي كما لو كان نطيحة ، في الوقت الذي اصبح هذا المشروع هدفا لسهام الاعداء شرقا وغربا.

ومع اني واثق تمام الثقة في ان اي كاتب لا يمكن ان يكون بلا اخطاء ، ولا بد اني قد ارتكبت اخطاء في مكان ما ، الا اني أجد ان هذه المقالات قد ادت بعضا من اغراضها ، فهي على الاقل شجعت قليلا ممن اتجه الحديث اليهم ، على اعادة النظر في مفاهيم ، كانوا يحسبونها من قبل في عداد المسلمات .

كان ينبغي ان يكون المقال الذي بين يدي القاريء ، هو الاول في سلسلة حول مشروعية نقد الفكر الاسلامي والمشروع الاسلامي ، وكنت ازعم ارساله الى الصحيفة قبل اي مقال آخر ، فاخترت له عنوان (نقد المشروع الاسلامي) لكن احد الزملاء الذين اعتدت تبادل الراي معهم ، وجد ـ حين عرضت عليه المقالة ـ ان  العنوان ينطوي على قدر كبير من الفجاجة ، ذلك ان معظم القراء لا يوافقون على نقد المشروع الاسلامي ، وسيظن بعضهم ان المقصود هو نقد الاسلام بذاته ، فمعظم الناس لا يفرق بين الاسلام في صورته النظرية الاصلية ، وصورته بعد ان يعمل فيه المجتهدون عقولهم ، فيحولونه الى مشروع للتطبيق مرتبط بالزمان والمكان ، وقد دعاني ذلك الى عرض الفكرة مجددا على زملاء آخرين ، وجدت عندهم نفس الانطباع ، الامر الذي دعاني الى تأخير ارساله للنشر ، مع انه اكد لي اهمية الدعوة الى طرح المشروع الاسلامي في صيغه التطبيقية ، بعد ان بقينا ردحا طويلا من الزمن نعرضه للناس كاقوال مجردة ، مثالية تنحو صوب الامنية ، ويسيطر عليها المضمون الاخلاقي ، وتخاطب الفرد ، اكثر مما تتجه الى صور التطبيق في اطار القانون الموجه الى الجماعة السياسية ، ان طرح المشروع الاسلامي في صيغته القابلة للتطبيق ، يستوجب ابتداء اعتباره مشروعا بشريا متاحا للنقاش ، لا كلاما منزلا من عند رب السماء .

منذ ان وجد البشر على هذه الارض ، وهم يسعون لوضع المنهج الذي ينظم امور حياتهم ويشكل سبيلهم الى التقدم والمدنية  ، وشهدت العصور الحديثة ظهورا متزايدا للعقائد والايديولوجيات ، التي تدعي القدرة على القيام بهذه المهمة ، لكن ايا من هذه الايديولوجيات لا يدعي قدرته على تجاوز زمنه ، ولو ادعى هذا لما اخذ على محمل الجد ، ذلك ان الذين وضعوها متأثرون ـ قهرا ـ بخلفيتهم الثقافية ، التي تتشكل في ظروف الزمان والمكان المعين ، وهي لهذا السبب غير قادرة على معالجة الموضوعات المماثلة في الظروف الزمانية او المكانية المختلفة  ، خاصة بالنظر الى اختلاف المبررات التي تقوم عليها الايديولوجيا البشرية ، المبررات التي تشكلها حاجات المحيط المحدود زمانيا او جغرافيا .

اما بالنسبة للاسلام فان كل مسلم يعتقد ان الدين كما انزله الله ، قادر على عبور الزمان والمكان ، ذلك ان الذي ابدعه ليس متأثرا بظروف معينة او اوضاع معينة ، فهو خالق الكون والمكان والمهيمن على الحياة والازمان  .

ويتمتع الدين الاسلامي بقايلية عظيمة للتجدد والبقاء شابا فعالا ، مهما تطاول الزمن او بَعُد زمن الوحي ، وبهذه القدرة على التجدد ، فانه مؤهل للتعامل مع مشكلات الانسان المعاصرة ، بذات الكفاءة والفاعلية التي عالج بها حاجات الانسان قبل اربعة عشر قرنا من الزمان .

ان السر في هذه القدرة يكمن في تعالي النص الديني على الافهام البشرية ، المرتهنة ـ بالضرورة ـ لظروف الزمان والمكان ، فاذا ابقينا النص في تجريده ، فانه سيتيح لنا امكانية الفهم المتجدد في كل زمن ، اما اذا قيدناه بقيود البيئة فسيكون ـ كسائر الايديولوجيات البشرية ـ مؤقتا ومحدودا ، ومرتهنا للشروط الخاصة بتلك البيئة ، وفي هذا يروى عن عبد الله بن عباس الذي اشتهر بلقب ترجمان القرآن  قوله ( لا تفسروا القرآن فان الدهر يفسره)  وفي هذا القول اشارة ذكية الى الحقيقة التي لا يمكن انكارها ، حقيقة ان فهم الاجيال المتاخرة للقرآن ستكون اعمق واشمل من فهم الاجيال المتقدمة ، على الرغم من قرب هذه لزمن النزول وبعد الاخرى عنه .




ان فهم القرآن في زمن سيكون مشروطا بمستوى العلم والعقول في ذلك الزمن ، ونعلم ان تقدم الزمان يتوازى غالبا مع تقدم العلم ونضج العقل البشري ، واذا كان الاولون اقدر على فهم المؤدى المباشر للنص في احكام العبادات ذات الطبيعة الثابتة ، فان معظم توجيهات القران واحكامه لا تتعلق بالعبادات ، بل تتعلق بمجمل نواحي الحياة ، وفهمها محكوم بمستوى حياة الناس وعقولهم في كل حقبة ، ويتفق الاصوليون على ان الايات التي تتضمن احكاما مباشرة لا تتجاوز 500 آية ، تعادل نحو  ثمانية بالمائة فقط من مجموع القرآن الذي يحوي 6666 آية ، وقد روى البيهقي بسنده عن الامام جعفر الصادق عليه السلام قوله في شأن القرآن (أن الله تبارك وتعالى لم يجعله لـزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعنـد كل قـوم غض إلى يـوم القيامـة) ومنه يتضح ان كل عصر يفهم القرآن فهما جديدا ، يتجاوز ما فهمه العصر السابق ، فيبقى القرآن موردا غضا في كل عصر .

ويبدو لي ان هذه النقطة هي محط الجدل بين علماء الاسلام ورجاله ، طوال الازمنة التالية لظهوره ، فنادرا ما وجدنا جدلا في النص ذاته ، جدل ينطوي على انكاره او انكار فائدته ، وفي الحالات التي بادر احدهم الى تشكيك من أي مستوى في النص ، فقد جرى طرد مادة الجدل من التيار واعتبرت اجنبية أو شاذة ، ونتيجة لهذا الحفاظ الشديد ، فقد بقي النص الديني (القرآن والسنة) محافظا على مكانته ، كمصدر اول للتشريع وميزان يرجع اليه عند الاختلاف .

لكن في المقابل فقد دار الكثير من النقاش واحيانا النزاع حول فهم النص ، وفي بعض الاحيان قام بعض الاسلاميين ، رجال علم او رجال سياسة ، بنفي غيرهم او محاربة رايه انطلاقا من ان فهمهم للنص هو الفهم الوحيد الصحيح او الصالح ، وانه الوحيد المعبر عن مراد الخالق والمتمتع بالشرعية المطلقة .

ان ادعاء التفرد بمعرفة النص الشرعي او ادراك مراد الخالق ، هو نوع من التجاوز على مقام الخالق سبحانه ، فهو يفرغ المراد الرباني في سلة الفهم البشري القاصر ، او يجرد الحكم من مجاله التطبيقي الواقعي ويجعله متعاليا مستحيل التطبيق ، واجد من المناسب هنا استحضار الاشارة القوية للامام على بن ابي طالب ، الى هذا المعنى في رده على قول الخوارج ، حين قالوا بان (لاحكم الا لله) ونادوا برفض تحكيم الرجال في دين الله ، فرد الامام عليهم بالقول ( كلمة حق يراد باطل . نعم إنـه لاحكم إلا للـه ، ولكن هـؤلاء يقـولـون لا إمـرة إلا للـه ، وانه لابد للناس من أمير بـر أو فاجـر  يعمل في إمـرتـه المـؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله فيها الاجل ، ويجمع به الفيء ، ويقاتل به العـدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بـر ويستـراح من فاجـر )  فميز امير المؤمنين بين الحاكمية العليا الثابتة لله سبحانه ، وبين الحكم المباشر في ميدان الحياة ، المتروك لاجتهاد اهل الاجتهاد ، ان هذا التمييز ضروري لوضع الحد بين ما يقبل على اطلاقه وما هو قابل للنقاش او الرد .

الثـــــوابت والمـتـغيرات

ثمة احكام تفصيلية منصوصة ، يتعلق معظمها بالعبادة واحكام الاسرة ، او ما يسمى اليوم بالاحوال الشخصية ، وفي هذه فان مجال الاجتهاد محدود ، على الرغم من ان معظم العمل الفقهي ، منذ تاسيس علم الفقه في اواخر القرن الثاني الهجري  والى اليوم ، قد دار غالبا حول محور العبادات والاحوال الشخصية ، بخلاف جانب المعاملات الذي ينتظم تحت عنوانه الجزء الاعظم من امور الحياة ، فقد تركه المشرع لاجتهاد اهل الاسلام في مختلف عصورهم ، بعد ان وضع قواعد عامة ، منطقية ومنسجمة مع العقل الطبيعي لاعتمادها في عملية الاجتهاد .

ومع اعتبار امكانية الاجتهاد المستند الى النصوص والقواعد الشرعية ، فان بوسع المسلمين الاطمئنان الى رحابة افق التشريع واتساع امكاناته .

على ان الامر لم يبق كما اراد له المشرع ، فمع التطورات السلبية التي مرت بها دولة الاسلام ، ولاسيما مع انحسار الشورى ، التي تمثل التجسيد الاوسع والاعلى للاجتهاد في الشأن العام ، فان الاجتهاد قد انكمش الى حدوده الدنيا واصبح متمحورا حول العبادات والاحوال الشخصية ، التي لا تتيح  كثرة المنصوص فيها فرصا واسعة للاجتهاد ، بل ان تكلف الاجتهاد فيها قد ادى الى تضخم فقه الثوابت بموازات انحسار شبه كامل لفقه المتغيرات ، الامر الذي ادى بالنهاية الى تجميد المعرفة الدينية وتاخير الفقه عن زمنه ، لا سيما في الامور غير العبادية .

من ناحية اخرى فان انعدام الشورى ، وغياب حرية التعبير عن الراي منذ نهاية الخلافة الراشدة ، قد غيب الجدل الفقهي في الامور العامة ، واصبح فرض الراي الواحد متعارفا ومن ثم مقبولا ، وشهدنا في اوقات مختلفة في العصر الاموي والعصور التي تلته ظهور تحالفات بين علماء وسياسيين ، تعمل على فرض راي واحد وقمع ما عداه ، وبالتالي فان تداول الراي الذي هو اساس النقد ، قد اصبح ممنوعا بل وسببا لتعريض صاحبه لافدح الاخطار .

وفي الوقت الراهن فان هناك الكثير من الاسلاميين ، من الجيل السابق او من الاجيال الجديدة يقبلون ، بل ويمارسون قمع الراي الاخر ويمنعون تعرض الاخرين لارائهم بالنقد والمناقشة ، باعتبار هذه الاراء مجسدة لصحيح الدين وحقيقـته ، وباعتبار نقدها انحرافا عن الدين او تحديا له ، ويبدو ان الامر جدي الى درجة ان احدا من الاسلاميين لا يجرؤ على طرح راي جديد او اجتهاد غير مسبوق ، خشية ان يرمى بالابتداع أو الانحراف عن الطريق القويم  .

ولهذا فانه من الضروري التاكيد دائما ، على ان فرض راي او اجتهاد او فهم محدد للنص على الاخرين ، باعتباره دينا ، سوف  يؤدي بالضرورة الى سجن النص الديني الواسع الافق والعابر للزمان والمكان ، في قفص الفهم البشري المحدود الافق ، والمرتهن لشروط الزمان والمكان .

ان التاكيد على التمايز بين الدين وفهم الدين ، بين النص وتفسير النص ، بين الحقيقة المجردة التي لا يعلمها غير الخالق  والاجتهاد الذي تتكلفه عقول البشر ، هذا التاكيد يبدو ضروريا لتخليص الدين من قيود البيئة والزاماتها ، كما انه ضروري لاتاحة الفرصة دائما لتجديد الدين ، وجعله فعالا في مواجهة الحاجات المتجددة مع الزمن .

هذا التمايز الضروري يعني اعتبار التفسير والمعرفة القائمة على الاجتهاد وعمل العقل موضوعا ثابتا للنقد والجدل ، بكلمة اخرى فان النقد الذي نتحدث عنه لا يتجه الى الدين ، بل الى فهم البشر له ، وهو لا يتجه الى النص بل الى تفسير المفسرين له .

الراي العام 23 فبراير 1997

مقالات  ذات علاقة
-------------------


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...