19/04/2017

نظرة على علم اصول الفقه

"أصول الفقه"  هو منهج البحث في أدلة الاحكام الشرعية. لا يمكن للفقيه ان يعمل دون الاعتماد على القواعد ونظم البحث والمقدمات النظرية التي تطورت في أطاره. المهمة الرئيسية لعلم اصول الفقه هي وضع الاطارات النظرية وصوغ المفاهيم الناظمة للبحث الفقهي. ومن هنا نقول ان تطور علم الاصول سيقود بالضرورة الى تطور الاجتهاد والارتقاء بمستوى البحث الفقهي ، وبالتالي انتاج أحكام شرعية أكثر دقة وملامسة لموضوعاتها وانسجاما مع روح الشريعة.

"اصول الفقه" علم عقلي ، يطور القواعد والمفاهيم ، او يستعيرها من العلوم الأخرى كالفلسفة والمنطق واللغة. من يقرأ في الفقه ، سوف يصادف على الدوام قواعد مبنية على حكم العقل مثل "لاضرر ولا ضرار" ، "دفع العسر والحرج" ، "امتناع التكليف بالمحال" ، "عدم جواز التكليف بما لا يطاق" ، "دفع الضرر بالضرر" ، "أولوية دفع المفسدة على جلب المصلحة" ، وعشرات القواعد المماثلة ، التي استعملها الشرع في إطاره الخاص.

رغم ان علم الاصول الذي لدينا لا يقارن بما كان عليه في بداياته. الا انه – مثل سائر علوم الشريعة الاخرى – تباطأ كثيرا ، ولا سيما في القرنين الاخيرين. نعرف هذا من المقارنة بينه وبين التطور الكبير للعلوم الموازية له ، مثل علوم اللغة والقانون والفلسفة وغيرها.  وأحتمل ان هذا مرتبط بتراجع العلم في العالم الاسلامي بشكل عام ، وعدم انفتاح دارسي الشريعة على العلوم الجديدة التي تطورت في اطار الحضارة الغربية.

لكني أجد سببا آخر ، وهو إعراضه عن التخصص. وهذه مشكلة فيه وفي علم الفقه ، وهو المستهلك الوحيد لنتائج علم الاصول. ان الثورة العلمية التي شهدها العالم ، ولاسيما في القرن العشرين ، مدينة في جانب كبير من زخمها الى رسوخ مبدأ التخصص العلمي ، الذي تحول بموجبه العلم الواحد الى عشرات من العلوم الفرعية ، المنفردة برجالها ومدارسها ونظرياتها ومجالات عملها. يستحيل ان ترى في هذه الايام فيلسوفا او عالم قانون او طبيبا أو رياضيا ، محيطا بكل فروع هذه العلوم. لأن سعتها وغناها يفوق قدرة فرد واحد على الاحاطة بفرع واحد ، فضلا عن كافة الفروع.

لو اتجهنا الى تطوير علم الاصول من خلال تطبيق مبدأ التخصص ، فسنرى باحثين متخصصين في اللغويات واللسانيات وعلم الدلالة ، واخرين في نظرية المعرفة ومنطق البحث العلمي ، وغيرهم في الهرمنيوتيك الفلسفي (التأويل) وفقه القانون. وهذه العلوم قريبة جدا من المجال المباشر لعلم اصول الفقه. لو حدث هذا فلربما تلاشت الفجوة الفاصلة بين علم الدين والعلوم الحديثة. ولربما حصلنا على منظومة واسعة من العلوم الاصولية. وسنجد ان القواعد التي ذكرناها في أول المقالة قد تضاعفت وتفرعت ، وبات بامكاننا الانتقال من الفقه المدون في الاف المسائل المنفردة الى فقه منظومي مرتب بقواعد عامة وفروع مترابطة. وأظن ان هذا سيكون تمهيدا فعالا لتطور الفكر الديني ، ومعه معنى الدين ودوره في الحياة العامة.

 

الشرق الاوسط 19 ابريل 2017
http://aawsat.com/node/905761

12/04/2017

مواطنون فقط. لا ذميون ولا مستأمنون


اثار الهجوم الارهابي على كنيستين مصريتين هذا الاسبوع موجة استنكار واسعة بين كافة المسلمين ، علماء وعامة وسياسيين. وأحمد الله انا ما عدنا نسمع أحدا يرحب بهذه الجرائم او يبررها. وهذا تطور طيب.
وسط بيانات الاستنكار ، لفت نظري الاستعمال المتكرر لمصطلحات مثل "مستأمنين" و "ذميين" و "اهل الكتاب" في وصف المواطنين الأقباط ، الذين وقعوا ضحية للهجوم الغادر. ومثل هذه المصطلحات ترد عادة في أحاديث رجال الدين ، تأكيدا على حرمة العدوان على غير المسلمين.
نتيجة بحث الصور عن الكنيسة القبطية
تلك التعابير ليست اطلاقات لغوية محايدة ، بل "حقائق شرعية" حسب عرف الاصوليين ، اي مصطلحات خاصة ذات محمول محدد. وتقال في سياق الكلام ، بقصد الاشارة الى جملة علائق وأحكام ، أو وحدة مفهومية ، تصف قيمة الاشخاص المعنيين وموقعهم بالنسبة للمتحدث.
هذه الاوصاف مستمدة من الفهم الفقهي للواقع. لكنها خاطئة في المنظور الواقعي المعاصر. هذا يشير إذن الى تباين بين الفهم الفقهي للواقع وبين الواقع نفسه. ومن حيث التصنيف فهي تنتمي الى مرحلة تاريخية سابقة ، الامر الذي يكشف عن سبب التباين.
ولدت تلك الأوصاف في مرحلة نهوض الدولة الاسلامية ، حين كانت جيوشها تغزو البلدان ، فتتوسع الدولة وتنمو معها علاقات المسلمين بغيرهم. كان ضروريا يومها تنظيم العلاقة بين القوة الكبرى المنتصرة ورجالها الاقوياء ، وبين الافراد والمجتمعات الضعيفة التي خضعت لها رغبة أو كرها. ضمن هذا الظرف الخاص ، كان مضمون هذه العبارات هو التأكيد على الولاية السياسية ومسؤولية الدولة عن كل رعاياها ، كقاعدة عمل موازية لولاية الايمان ، التي تشير الى تعاضد أهل الاسلام فيما بينهم.
مع مرور الزمن وهيمنة التفكير الفقهي على الثقافة العامة ، تحول الانتماء الديني الى مضمون وحيد للرابطة الاجتماعية. ومع ان فكرة الحماية والضمان ، بقيت مركزية في تحديد العلاقة مع غير المسلم ، الا انه لم يعتبر شريكا متساويا في كافة الحقوق ، او "مواطنا" بحسب المفهوم الحديث.
انتقلت هذه المقاربة الى الفقه الاسلامي المعاصر. وتكفي نظرة سريعة على اي مما كتبه الفقهاء والكتاب الاسلاميون المعاصرون حول الموضوع ، كي تكتشف المشكلة التي واجهوها ، حين ارادوا وضع تصور يتلاءم مع الموروث الديني من جهة ، ومع المباديء السياسية والقانونية وحقوق الانسان من جهة ثانية ، ومباديء العدالة من جهة ثالثة.
والحق انه لا مجال لتسوية الاشكال. الدولة الحديثة تنتمي لعالم مفهومي مختلف عن ذلك الذي كان قائما في عصر الدولة الاسلامية القديمة. اي انها موضوع مختلف ، لا يمكن فهمه وفق المنظور الفقهي القديم ، ولا التكييفات والاحكام التي استعملت فيه. علاقة الدولة الحديثة برعاياها قائمة على مبدأ المواطنة ، الذي يعني تساوي جميع المواطنين في الحقوق والواجبات ، أيا كانت أديانهم وانتماءاتهم الاجتماعية. كل مواطن شريك في ملكية تراب وطنه. وهو يستمد حقوقه المدنية من هذه الملكية ، وليس من انتمائه الديني. ومن هنا فليس في عالم اليوم من يصح وصفه بالذمي والمستأمن. المواطن مواطن فقط وفقط.
بالنسبة لعامة الناس فان هذه النتيجة لا تحمل اي جديد. لكني اردتها مناسبة لتنبيه أهل الفقه وطلابه الى التباين القائم بين التفكير الموروث ، وبين واقع الحال في عالم اليوم. انها دعوة للتحرر من المفاهيم القديمة ، التي ما عادت مفيدة او واقعية. دعوة لتوجيه الذهن الى العالم الواقعي ، بدل حصره في عالم الاوراق والكتب القديمة.
الشرق الاوسط 12 ابريل 2017
http://aawsat.com/node/900261



رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...