22/07/2007

المدينة الفاضلة


لم يحفل مفكرو العرب كثيرا بنماذج المدن الفاضلة او اليوتوبيات التي عرفها الفكر الاوروبي في عصوره القديمة. ولعل الفيلسوف الفارابي هو الوحيد الذي كلف نفسه عناء التنظير لمثل هذا النموذج فكتب «المدينة الفاضلة» محتذيا مثال افلاطون في «الجمهورية». لكن التفكير في المجتمع المثالي لم يغب لحظة عن بال الفلاسفة والمفكرين والفقهاء.
وتجد هذا التطلع مبثوثا في زوايا كتاباتهم وآرائهم، بل وفي الكثير من الفتاوى والاحكام الفقهية. وللمناسبة ينبغي القول ان المجتمع المثالي او المدينة الفاضلة شكل في قديم الزمان وحاضره نقطة التقاء بين مفكري العالم اجمع. فالذين حاولوا وضع نموذج متكامل، مثل افلاطون والفارابي، والذين اقترحوا سياقات محددة مثل اخوان الصفا وكارل ماركس، بل وحتى الذين عارضوا هؤلاء واولئك، مثل جورج اورويل وكارل بوبر، اتفقوا جميعا على ان الوصول الى مستوى قريب من المثالية هو احتمال ممكن، اليوم او غدا او بعد قرون. وطبقا لماريا برنيري (المدينة الفاضلة عبر التاريخ – عالم المعرفة) فان كثيرا من الجوانب المشرقة في حياة البشر المعاصرين، كانت في اول امرها افكارا مثالية طرحها مفكرون حالمون، ورأوها ممكنة، ربما قبل سنوات طويلة من اقتناع بقية الناس بها وتحولها الى مواضع اجماع بين العامة.

دعنا نتذكر مثلا ان تحديد يوم العمل بثماني ساعات ومنح العامل اجازة اسبوعية مدفوعة، لم يكن معروفا في الماضي، وحين طرحه كامبانيلا في بداية القرن السابع عشر، قوبل بالسخرية والانكار. لكن العالم اليوم متفق على ان عدم ثبات ساعات العمل ينطوي على استغلال وظلم للاجير ولعائلته وتهوين من انسانيته ودوره كفاعل اجتماعي. يمكن الاشارة ايضا الى ان فكرة الغاء الرق والمساواة بين الجنسين ظهرت اولا في كتابات اليوتوبيين، في الوقت الذي كان نظام الرق عمودا راسخا في اقتصاديات العالم شرقه وغربه، وكانت الفكرة في اول امرها موضوعا للسخرية والتندر من جانب كثيرين. شهد القرن التاسع عشر نهاية ادب اليوتوبيا.

فمنذئذ رأينا كتابات في نقد التفكير المثالي، لكن لم نر محاولات جدية لوضع نموذج عن المدينة الفاضلة او دعوة اليها. لعل هذا الانحسار كان نتيجة التحول الجذري في اتجاه البحث العلمي من التأملات المجردة والميتافيزيقا الى الوصف والتجريب وتحليل الوقائع، وتركيز العلماء على فهم الطبيعة والانسان والجماعة ومسيرة حياتهما كما هي، ثم استنباط طرق الاصلاح من داخل هذه المنظومة وليس بانكارها. لم يعد اهل هذا العصر يبحثون – كما رأت برنيري – عن حلول جذرية ونهائية لشرور العالم، ولم يعودوا مؤمنين بامكانية انهاء الحروب واجتثاث الامراض او التصفية الكاملة للجريمة.

غاية ما يبحث عنه انسان اليوم هو تأجيل الحرب او تخفيف انعكاساتها واضرارها، وتخفيض معدلات المرض والجريمة والفقر. هل يعني هذا ان انسان اليوم أصبح عاجزاً عن حل مشكلاته؟ ام ان المشكلات قد تضخمت الى الحد الذي اصبحت معه عصية على العلاج؟. كلا الاحتمالين قد يكون صحيحا. لكن هل نجح اليوتوبيون في تطبيق اي من الحلول التي اقترحوها؟. ربما تفاقمت مشكلات العالم في العصر الحديث، لكن المثاليين لم ينجحوا حتى في العصور القديمة التي يمكن افتراض ان مشكلاتها كانت ايسر. بل ان السياسيين الذين ارادوا تطبيق بعض مقولات اليوتوبيا انتهوا الى القمع العاري، فتحولوا من مصلحين محتملين الى مستبدين فعليين.
يلتقي معظم اليوتوبيين عند نقطة محورية محددة هي القول بان سعادة الانسان تكمن في نظام اجتماعي شديد الانضباط. بعبارة اخرى فان هؤلاء يربطون بين الرفاه المادي والسعادة، ويقبلون قيام نظام استبدادي يلغي استقلال الفرد بذاته وهويته وعقله واختياراته، طالما ساعد هذا على تحقيق الانضباط المنشود. وقد رأينا تاثيرات هذه الفكرة عند السياسيين الذين تبنوا ايديولوجيات شمولية، مثل تجربة الرايخ الثالث في ظل ادولف هتلر وتجربة الاتحاد السوفيتي في ظل ستالين.

ونجد امثلة منها – ولو كانت اقرب الى الكاريكاتير منها الى الصورة الواقعية - عند بعض زعماء العالم الثالث الذين ظنوا ان الانضباط الحديدي هو السبيل لتحقيق حلول جذرية، مثلما فعل الجنرال سوهارتو، الرئيس الاندونيسي، وانور خوجه الرئيس الالباني في اوائل السبعينات من القرن العشرين، وكذلك صدام حسين، الرئيس العراقي في منتصف الثمانينات. تحول النظريات المثالية من الفكر الى الجبر، وصيرورتها قاعدة للنظريات السياسية الشمولية، هي ابرز اسباب فشلها وانكارها في عالم اليوم. هناك بالطبع اسباب اخرى، من بينها مثلا تعاظم قيمة الفرد، وتغير مسارات العلم والاقتصاد وما يترتب عليه من ادوار وقيم. لكن هذا حديث آخر نعود اليه في وقت لاحق.

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070722/Con20070722126785.htm
 عكاظ - الاحد  08/07/1428هـ ) 22/ يوليو/2007  العدد : 2226

18/07/2007

العامل السعودي


اظن ان سفيرنا في اسلام اباد كان اشد الناس قلقا وهو يتابع بيانات الجيش الباكستاني عن عملياته حول المسجد الاحمر.  في العاصمة اسلام اباد. ربما لم نصرف قرشا على هذا المسجد او المدرسة الملحقة به، وربما لم نعرف احدا من القائمين عليه او الدارسين فيه. لكن ايدينا كانت على قلوبنا حين سمعنا بانفجار الصراع. وكذلك الحال كلما حدث تمرد في شرق الارض او غربها، خوفا من ظهور «العامل السعودي». 
المسجد الاحمر-لال مسجد
اظن ان كثيرين منا تابعوا الصراع على المسجد الاحمر، ليس اشفاقا على من فيه، بل خشية ان يظهر بينهم احد منا. بل ان بعض القنوات الاعلامية قد تبرع ابتداء بالقول ان «العامل السعودي» موجود، ظاهرا او خفيا في هذه المسألة، مثل كل مسألة اخرى مماثلة، من الفلبين الى افغانستان وكينيا والعراق الى اوروبا وامريكا مرورا بلبنان والاردن وغيرها.

فيما مضى من السنين كنا نأمل ان تكون المشكلة فردية : عشرة او عشرين رجلا سئموا الحياة هنا فبحثوا عن مغامرة يعيدون من خلالها اكتشاف ذواتهم وقدراتهم. لكن الحدث تكرر مرات ورأينا دماء شبابنا تسيل في بلاد لم نعرفها، لقضايا لم نسمع بها من قبل. في اواخر القرن الثامن عشر شهدت مجتمعات اوروبية شيئا قريبا من هذا: شعر مئات من الشباب بضيق الحياة في بلادهم وقرروا الهجرة لاكتشاف العالم. وقد اثمرت تلك الهجرات الفردية عن معظم ما يعرفه العالم اليوم عن البلاد البعيدة، من غابات الامازون الى مجاهل اسيا الشرقية، فضلا عن الصحارى العربية وغيرها.
وفي الربع الاخير من القرن العشرين ذهب عشرات من الشباب العرب، ومنهم سعوديون وخليجيون الى دول افريقيا الفقيرة يحفرون آبار المياه ويقيمون المدارس ويقدمون المساعدة، معتقدين أنهم –بهذا الاسلوب– ينشرون الدين الحنيف او يحققون اغراضه النبيلة. 
نعرف من هذه التجارب وغيرها ان الضيق بالاهل والوطن ليس شيئا غريبا. وان البحث عن الذات والبحث عن المكانة ليس معيبا. فكثير من الناس لا يحتمل مسارات المجتمع ونظام علاقاته ونظام القيم السائد فيه. وبعضهم لا يشعر بالقدرة على ان يكون شيئا ذا بال في ظل هذه المسارات والمعادلات، والشجاع منهم هو الذي يقرر التخفف من كل هذه القيود والسدود.
لكن ما الذي حدث حتى تركزت هجرات شبابنا على الحرب ولم يعد احدهم يرضى بغير ان يثير حربا او يكون وقودا في حروب الآخرين؟. معظم الذين كتبوا خلال الايام الماضية عن «العامل السعودي» في معركة نهر البارد بشمال لبنان، والذين علقوا على ما قاله عسكري امريكي عن «عدة آلاف» من السعوديين في العراق، اشاروا باصبع الاتهام الى مناهج التعليم في المملكة كسبب اول للمشكلة. واظن ان معظم الكتاب لديهم اسباب اخرى لكنهم ربما ترددوا في التصريح عنها. السنوات الطويلة التي مضت منذ اتضاح هذه الظاهرة، كشفت عن مكونات جديدة في البيئة التي تفرخ التشدد والارهاب، وكل منها جدير بالنقاش.
خلال الاسابيع الماضية سمعت تحليلات مثيرة للانتباه، لكنها للاسف لا تظهر في الصحافة. ضيق النظام الاجتماعي الذي يدفع بالافراد خارجه، ليس بذاته سببا بل هو خلاصة مكثفة لاسباب اخرى، لعل من ابرزها عدم اتضاح الهوية الفردية للمواطن السعودي كمقابل لهويته الاجتماعية. وربما يكون من اسبابها الخلط السائد في مفهوم العدالة الاجتماعية وتطبيقاته. ويجب ان لا ننسى بطبيعة الحال ضآلة اطارات النشاط العام التي تسمح للفرد بالتعبير عن همومه وتطلعاته بشكل فعال لكن ضمن اطار القانون.
 استطيع القول من دون تردد ان المشكلة اكبر من الحلول الامنية، واكبر من التنظيرات الفردية والاحكام المسبقة. صحيح اننا نراها على فترات متباعدة، وقد ننساها او نتغافل عنها فور ان ينشغل الاعلام بغيرها، وهو ما حدث حتى الان للاسف. لكن المشكلة موجودة في بيئتنا، وهي ربما تتفاقم من دون ان نشعر. ولهذا فاننا بحاجة الى رفع القيود الواقعية او الافتراضية على النقاش في مشكلة العنف وتفريخ العنف. ونحن بحاجة الى تشجيع هؤلاء الشباب على الكلام بصراحة وفي العلن، لعلنا نستطيع استنباط بدائل او حلول. ربما نستطيع تحويل «العامل السعودي» الى مسار اكثر ايجابية، مسار بناء في بلادنا وفي العالم، بدل ان يبقى مقترنا بتصدير العنف او تحريك العنف او المشاركة في العنف كما هو الحال اليوم.
عكاظ 18  يوليو 2007  العدد : 2222 
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070718/Con20070718125906.htm

لمعلومات عن احداث المسجد الاحمر في يوليو 2007، انظر الجزيرة.نت 
http://www.aljazeera.net/home/Getpage/f6451603-4dff-4ca1-9c10-122741d17432/f1b9bf1c-a2a1-4459-8ac9-2c869f2b4ef2


مقالات ذات علاقة

إشارات على انهيار النفوذ الاجتماعي للقاعدة

اعلام القاعدة في تظاهرات عربية

تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

خديعة الثقافة وحفلات الموت

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

اتجاهات في تحليل التطرف

ابعد من تماثيل بوذا

ثقافة الكراهية

تجريم الكراهية

تجارة الخوف

في انتظار الفتنة

كي لا نصبح لقمة في فم الغول

تفكيك التطرف لتفكيك الإرهاب-1

تفكيك التطرف لتفكيك الارهاب-2

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

العامل السعودي

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...