14/03/2007

من محاسن المكيافيلية القبيحة

؛؛ السؤال الفلسفي قبل مكيافيلي: كيف ينبغي للناس ان يعيشوا ، اما هو فقد اهتم بسؤال: كيف يعيش الناس فعلا. فانزل السياسة من سماء المثال الى ارض الواقع؛؛

 لا شك ان عددا مهما من المبادئ والمفاهيم التي تشكل مضمون الدولة الحديثة، هو نتاج الحلول الفلسفية التي قدمها مفكرون مثل جان جاك روسو وجون لوك وتوماس هوبز، وغيرهم من كبار الفلاسفة الذين حققوا اختراقات اساسية في الفكر السياسي وانتقلوا به من مرحلة التاملات النظرية الى مرحلة تقديم الحلول العملية.

ربما لا يتوقع الكثير من القراء ان ندرج اسم نيقولو مكيافيلي، السياسي والكاتب الايطالي بين تلك الاسماء اللامعة، بل لعل الكثيرين يعتبرونه بين الظواهر السلبية في الفكر السياسي. فحين تذكر المكيافيلية، تقفز الى الذهن صورة شخص طماع لا يتورع عن فعل كبيرة ما دامت توصله الى اغراضه. ومن هنا اقترن اسم مكيافيلي والمكيافيلية بعبارة «الغاية تبرر الوسيلة»، وهي من العبارات التي تستعمل في الاشارة الى الفارق بين الاخلاق والسياسة او انعدام الاخلاق في السياسة. مثلها تماما مثل عبارة «فرق تسد» وأمثالها. لكن هذا الانطباع الذي ربما تولد لدى بعض من قرأ في الادب السياسي المعاصر، لا يكشف عن الحقيقة تماما. بل ربما تجد بين مؤرخي الفكر من يدعي انه لولا مكيافيلي لما ظهر هوبز ولوك وروسو، بل والفلسفة السياسية الحديثة بشكل عام. ومع اني لا اميل الى الربط الشديد بين الاشخاص والحوادث، الا ان الانصاف يقتضي الاشارة الى ان مكيافيلي كانت له الريادة في فتح باب جديد من الجدل الفلسفي لم يكن معهودا قبله.

حتى القرن السادس عشر الميلادي، كانت الفلسفة السياسية تدور حول فكرتين محوريتين: الكمال الانساني، والانسجام مع النظام الكوني. واضاف اليه الفلاسفة المسلمون لمسات دينية بعدما ترجمت الاداب اليونانية الى اللغة العربية في اواخر العصر العباسي. وبقي المنهج المثالي سائدا في الفكر الاسلامي حتى اليوم. ولعل تأثير الفلاسفة المسلمين يبدو بوضوح اكبر في فكرة الكمال الانساني التي اضاف اليها الفيلسوف والمتصوف المعروف ابن عربي الكثير من الصياغات والتبريرات والشروح التي نعرفها اليوم.

كان ارسطو قد قال ان العلم هو الفلسفة التي يحصل عليها الانسان اذا نشط جميع ملكاته العقلية الكامنة. اما ابن عربي فقد قلل من دور العقل، وركز على دور الايمان في اكتشاف الحقيقة. العلم – حسب رأيه – ليس بكثرة التعلم، بل هو نور يقذفه الله في قلب العبد. فاذا حصل الانسان على العلم الالهي فقد تميز عن عامة الناس، واصبحت له سلطة ذاتية على قلوبهم وعقولهم لا تحتاج الى تعريف او تبرير خارجي. اكتشاف طريق الكمال واكتشاف نظام العالم، وكيفية الانسجام معه، أي المعايير الاخلاقية التي يجب الالتزام بها كي نصبح في حالة تكامل مع النظام الكوني المحيط بنا، كانت – كما اشرنا – محور النشاط الفلسفي في اوربا حتى العصور الوسطى.

كرس مكيافيلي كتابه الاشهر «الامير» لكشف عوار هذا المنهج. وقد حقق هذه الغاية من خلال اسلوب غير مباشر، ركز على كشف حقيقة العمل السياسي ولفت انظار الناس الى الفارق الكبير بين المفترض والمتخيل في الفلسفة المثالية وبين الواقع القائم في الحياة السياسية. كما اوضح بجلاء ان النبلاء والقادة ورجال الكنيسة ليسوا جنسا خاصا من الخليقة وليسوا بشرا كاملين، بل هم رجال عاديون يعيشون ويفكرون ويعملون مثلما يفعل سائر الناس، وهم يفعلون الافعال الخيرة ويرتكبون الاخطاء مثل الناس كافة.

 قبل مكيافيلي، اهتم الفلاسفة بسؤال: كيف ينبغي للناس ان يعيشوا، اما هو فقد اهتم بسؤال: كيف يعيش الناس فعلا. فانزل السياسة من سماء المثال الى ارض الواقع، وعرضها للناس كما هي من دون رتوش. كما لفت الانظار إلى حقيقة ان السياسة عمل بشري دنيوي يتأثر بكل ما لدى البشر من افهام وهموم وتطلعات وقدرات ونقاط ضعف. كان افلاطون وارسطو قد اعتبرا ان قيام الحكومة الفاضلة منوط بتوفر شروط مناسبة تأتي صدفة. اما مكيافيلي فقد نفى امكانية قيام حكومة مثالية، لان النموذج المثالي لا يمكن ايجاده في الواقع، ولان الناس لا يتفقون على تصور واحد لما يعتبرونه مثاليا. وقال ان الحكومات تتفاضل في ما بينها بحسب اجتهاد المجتمع وحكامه في توفير الشروط اللازمة، فالامر يتعلق بالمعرفة والارادة وليس بالصدف.

هذا التفكير الواقعي هو الذي مهد الطريق امام الجيل الجديد من الفلاسفة السياسيين، كما رأينا عند توماس هوبز الذي اتخذ منهجا تجريبيا- ميكانيكيا مغرقا في المادية، ينفي أي دور للمجردات والمثل غير المادية في الفعل الانساني، ويربط حتى الاحساس بالفرح والالم بعوامل مادية بحتة، ضمن ما وصفه بسلسلة العلل والنتائج.

صحيح ان النظرية الاخيرة قد تعرضت لنقد كثير من جانب الفلاسفة اللاحقين لاسيما روسو ومن تبعه. لكن لا شك ان تحول الفلسفة من التنظير في المجرد والمثال، الى محاولة فهم الواقع كما هو، من اجل تنظيمه او صياغة مسارات بديلة، هي ثمرة للاختراق الكبير الذي حققه مكيافيلي، رغم ما تحمله من عنت من جراء وصفه لواقع السياسة وتقريبها الى اذهان الناس.

عكاظ 14/ مارس/2007  العدد 2096 2096  

   https://www.okaz.com.sa/article/89414

 

07/03/2007

حكم القاضي وحكم المدير

||عدالة القاضي ليست كافية لضمان عدالة النظام. ثمة ضمانات أخرى في القانون ولوائح العمل وتوزيع السلطات ، كلها ضرورية كي يكون النظام الاداري كله عادلا.||

 ينظر ديوان المظالم في دعوى رفعها مواطنون لنقض احكام اصدرها موظفون في ادارة الجوازات ، وتضمنت فرض غرامات وعقوبات. واعترض اصحاب الدعاوى بان الموظفين المذكورين ليسوا جهة اختصاص ، وان الاحكام لم تستوف المقدمات القانونية اللازمة في مثل هذه الأحوال.
في ماضي الزمان كان «تطبيق العدالة» يعني الرجوع الى قاض ذي معرفة في امور الشريعة ، يسمع من طرفي الدعوى رواية كل منهما للقضية ثم يتخذ ما يراه. وكان بعضنا يتباهى بالسرعة والحسم في نظامنا القضائي مقارنة بالبلدان الاخرى ، التي تأخذ فيها القضايا شهورا وربما سنوات قبل النطق بالحكم. ومضى الزمان وفهمنا ان الوقت الطويل الذي تنفقه محاكم تلك البلاد لا يخلو من حكمة. فتأخير الحكم بحثا عن ادلة واحتمالات، اقرب الى تحقيق العدل من قراءة متعجلة.
ثم تعلمنا بعد ذلك ان ضمان العدالة ، يحتاج الى ما هو اكثر من قاض مؤهل. واكتشفنا ما يعرف اليوم بالضمانات القضائية ، التي تشمل سلسلة من الاجراءات القانونية هدفها ضمان تساوي الفرص بين طرفي القضية ، وتمكين كل منهما من تبرئة نفسه ، او تخفيف العقوبة التي يمكن ان تصدر بحقه.
وفهمنا ان القضايا لا تحال جميعا الى جهة واحدة ، وان اختصاص الجهة بموضوع القضية هو واحد من الضمانات الضرورية لتحقيق العدالة. أشارت القضية المذكورة اعلاه الى عدد من النقاط التي تستحق الاهتمام ، لانها ليست مبادرات فردية تقع مرة في السنة ، بل هي مثال على  سلوك شائع بين الادارات الرسمية. وقد اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى ما يفعله بعض الموظفين والمديرين من اصدار الزامات على المواطنين من دون سند قانوني. واريد الاشارة اليوم الى ما يعرف في القانون بالاحكام الادارية.
تختلف هذه عن سابقتها باستنادها الى تعليمات او لوائح تنفيذية. ومن هذه الزاوية فهي – نظريا على الاقل – تتمتع بسند قانوني. لكن تطبيق بعضها قد تشوبه عيوب جوهرية. ومن بين تلك العيوب المحتملة مثلا ، تمتع الجهة التي اصدرتها بالصلاحية اللازمة لتقرير عقوبات او فرض الزامات. ومن بينها وجود مسببات ومبررات واضحة وقابلة للنقض من جانب المتضرر ، كي لا يكون الموظف المخول باصدار او تنفيذ القرار هو الخصم والحكم في الوقت نفسه. وأذكر مثلا على ذلك قرارا جرى الغاؤه العام الماضي بعدما وضع قيد التطبيق مدة تزيد على عقدين. بموجب هذا القرار كانت البلدية في مدينتنا تمنع المواطنين من بناء قبو كامل في بيوتهم وكان الحد الاقصى المسموح به هو خمسين بالمائة من مساحة البناء.  (الموقع الالكتروني للمجلس البلدي بالقطيف – نقلا عن جريدة الحياة 6 نوفمبر 2006)
وفي كثير من الحالات فرضت البلدية على المخالفين غرامات تصل الى اربعين الف ريال، وبعد التحقيق والمتابعة، تبين ان البلدية لا تملك أية تعليمات مكتوبة بهذا المعنى، وكل ما في الامر ان بعضهم قد تبادل الحديث واقترح وضع ذلك القرار الذي لم يثبت في أي محضر رسمي يمكن للمواطنين مراجعته. ومثل ذلك ان شركة الكهرباء (وهي قطاع تجاري بحت كما هو معروف) تلتزم بأوامر من البلدية تتضمن ما يشبه العقوبات على المواطنين، مثل عدم توصيل التيار ما لم ينفذ المواطن تعليمات معينة للبلدية. والمفهوم ان البلدية لا تملك حقا قانونيا يخولها التدخل في العلاقة بين شركة تجارية وعملائها، كما ان القانون لا يسمح لشركة الكهرباء بحجب الخدمة عن مواطن اذا حصل خلاف بينه وبين جهة اخرى حكومية كانت او اهلية.
هذه بعض الامثلة على ذلك النوع من الاحكام الادارية التي تصدر من جانب جهات رسمية او شبه رسمية، وهي تتمتع بسند قانوني احيانا، كثير من هذه الاحكام تستند الى تعليمات قديمة جدا، واظن ان الكثير منها لم يعد منسجما مع الانظمة التي اصدرتها الحكومة. ويبدو لي ان من حق مجلس الشورى ان يتخذ مبادرة لمعالجة هذا النوع من الاحكام وهي كما قلت شائعة ومتكررة، وتطبقها كثير من الوزارات والدوائر.
المبادرة المقترحة يمكن ان تكون على شكل قانون جديد يحدد كيفية اصدار التعليمات والجهات المخولة باصدارها، والشروط اللازمة لانفاذ أية تعليمات تنطوي على كلفة او الزام او عقوبة. ومن هذه الشروط مثلا تقديم شرح مكتوب بالمبررات والعقوبات وحدها الاقصى وموارد الاستثاء والجهة المرجعية وكيفية الاعتراض على الاحكام.. الخ. يستهدف هذا الاقتراح في المقام الاول تليين العلاقة بين المواطن والادارة الرسمية، من خلال رفع الاعباء غير الضرورية عن كاهله، وتعزيز ثقافة الخدمة والعدل بين المواطنين.


مقالات ذات علاقة

عكاظ 7 مارس 2007

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...