02/06/1999

القيم الثابتة وتصنيع القيم



الثقافة هي الأداة التي يتوسل بها المجتمع لتبرير حاجاته ، وبعض حاجات المجتمع لها طابع الثبات ، لكن معظمها متغير ، بحسب تغير حياة الجماعة واتجاهات حركتها ، الحاجات الاجتماعية الثابتة تقابلها مفاهيم ثابتة في الثقافة نسميها القيم أو الثوابت ، وثمة جدل لا ينتهي حول اخضاع متغيرات الحياة الاجتماعية للثوابت والقيم أو تحريرها منها ، وتدل التجربة على ان الانسان يميل بطبعه إلى توسيع نطاق الثوابت وبسط حاكميتها على المتغيرات ، ولديه على هذا الميل حجة قوية ، فحواها ان اشتغال المتغيرات في إطار الثوابت ، لا يعيق حركتها ولا يمنعها من التجدد والتغير ، لكنه يضمن استمرارية المسار في خط مستقيم .

ان الشرط الاول لتثبيت قيمة معينة ، هو تجردها وتعاليها عن الموضوعات ذات الطبيعة الشخصية ، أو تلك التي هي محل خلاف ، لكن القبول بالتثبيت ينطوي على مخاطرة ، ولا سيما في المجتمعات التي تفتقر إلى الحياة الثقافية النشطة ، أو تلك التي تحولت فيها الثقافة إلى حرفة ، تمارسها طبقة محدودة العدد دون بقية الناس ، ذلك ان محترفي الثقافة يرغبون في تسويد القيم التي يتوصلون اليها ، ويميلون إلى تبنيها في وقت من الاوقات ، باعتبارها عامة وثابتة ، في غفلة عن حقيقة ان الثقافة وقيمها _ مثل كل منتج بشري آخر _ ذات طبيعة زمنية ومؤقتة ، ربما يطول بها الامد أو يقصر ، لكنها في كل الاحوال واصلة إلى نقطة ينتهي عندها مفعولها أو فائدتها . ان استمرار تسويد قيمة معينة بعد انتهاء زمنها أو نفاذ وقودها ، يعادل إلى حد كبير حكم الاموات على الاحياء .

ويبدو لي ان جميع محترفي الثقافة يعرفون هذه الحقيقة ، لكنهم في الوقت ذاته يخشون من تأثيرها السلبي على قيمة منتجاتهم ، فتحديد زمن نهاية لفاعلية المنتج ، يفرض تحديد القيمة المادية أو الاجتماعية لمن انتجه ، بينما يرغب المنتجون ، وبينهم منتجو الثقافة ، الحصول على أكبر عائد ممكن من وراء عملهم ، وهنا يأتي دور التدعيم الخارجي ، حيث يستورد صانع الثقافة رباطا من قيمة ثقافية أخرى متفق على تثبيتها ، فيربط بينها وبين ما ينتج ، فتتحول القيمة الجديدة المحدودة زمانا ومكانا وفاعلية ، إلى فرع للقيمة العابرة للزمان والمكان ، المتجردة عن التأثير الانعكاسي للفعل والتفاعل مع موضوعاتها .

 وبالنسبة للمجتمعات المسلمة فان القيم الدينية المطلقة هي المقصد الرئيسي لصانعي الثقافة ، ذلك ان هذه القيم المتعالية تتمتع بالقبول العام والديمومة ، فضلا عن كونها جزء لا يمكن فصله من الهوية الثقافية للمجتمع ، والذي يجري فعلا هو اختلاق خيط يربط المنتج الثقافي إلى واحدة من القيم الدينية ، بغرض استثمار خصوصيات القيمة الدينية في تعزيز مكانة القيمة الثقافية الجديدة ، وتحويلها من منتج علمي إلى منظور ايديولوجي . ونجد المثال الواضح على هذا الربط المتكلف في التقاليد وبعض الخرافات ، التي تحولت إلى عناصر ثابتة في ثقافة المجتمع ، بعد ان جرى وصلها بقيمة ما من القيم الدينية في أزمان مختلفة ، وهو الأمر الذي أثار غضب الاصلاحيين والمجددين في مختلف الاوقات .

مثل هذا الربط المفتعل يجري في كل المجتمعات ، ويشعر الذين يقومون به انه مبرر تماما ، ولعل الامر كذلك فعلا ، لكن الذي لا يمكن تبريره هو استيراد خصوصية التعالي وعبور الحدود من القيمة الدينية وضخها في خزان المنتج الثقافي ، هذه العملية قد تؤدي ، وهي قد أدت بالفعل إلى تفريغ القيمة الدينية من مخزونها المعنوي الخاص ، وحولته إلى المنتج البشري في بعض الاحيان ، ولدينا في العالم الإسلامي كثير من الناس حرفتهم الوحيدة هي بيع الخرافة والتفريع عليها وتمديدها في كل اتجاه ، بعد ان ملأ خزانها بوقود ، يوهم الناظر من بعد ، بأن ما ينظر اليه دين أو جزء من الدين ، وبالنسبة لهؤلاء فان ما يهمهم حقا هو تسويق منتجهم الخاص وليس القيم الدينية كما هي في الاصل .

وفي المجتمعات المسيحية كان أحد الاسباب للصراع بين العلماء والكنيسة ، هو محاولة رجال الكنيسة منع العلماء من الاعلان عن نظريات علمية تخالف ما سبق تثبيته من جانبهم ، نحن نعلم ان الانجيل لم يتضمن نصوصا حول كروية الارض ودورانها على سبيل المثال ، لكن اناسا قرروا ان الارض مسطحة وثابتة ، وربطوا هذه النظرية بالانجيل ، فامتصت الوقود الايديولوجي والميزات المعنوية للكتاب المقدس ، فأصبح المنتج البشري متمتعا بنفس خصوصياته ،  فهو محمي ، مقدس ، متعال ، وعابر للزمان والمكان .
عكاظ 2 يونيو 1999


مقالات  ذات علاقة
-------------------


18/05/1999

سر الاســرار



يقول المؤرخون ان الانسان القديم كان أسيرا للطبيعة ، ويحدثنا القرآن عن حالات أصبح فيها الانسان عبدا لهذه الطبيعة ، وهو ما ثبت لاحقا مع تقدم الكشوف الأثرية ، وتحول دراسة الاثار إلى علم قائم بذاته ، وفي قصة النبي إبراهيم عليه السلام ، ايحاء واضح بأن انسان العصور السابقة ، كان مجذوبا إلى القوى الهائلة التي يتوهم الحاجة اليها ، استجلابا للخير أو اتقاء للشر ، وفي قصة النبي يونس عليه السلام إشارات إلى طقوس التضحية بأحد ركاب السفينة ، إرضاء لما يظنونه إله البحر الغاضب ، وفي قصة موسى عليه السلام ، إشارة إلى علاقة العبادة والعبودية بحاجة البشر إلى الماء والخصب والنماء ، يقول القرآن حكاية عن فرعون (اليس لي ملك مصر وهذه الانهار) .
ومنذ ان وجد الانسان على هذه الارض ، وحتى فترات متأخرة ، كان نهبا لعاملي جذب متعاكسين في الاتجاه ، عامل يدفعه لتسخير الطبيعة والسيطرة عليها ، من أجل الارتقاء بحياته ، وعامل يدفعه إلى الخضوع لقوى غير مرئية ومتوهمة ، باعتباره جزء من كون خاضع لتلك القوى ، فهو مجبور لها ، مضطر إلى مسايرتها وارضائها ، وقد ابتكر  الانسان فكرة اظهار الاحترام وتقديم القرابين ، وهي طريقة تجاري ما يتبع في ارضاء اقوياء البشر ، فهؤلاء أيضا يريدون الاحترام والقرابين ، لكي يرضوا على ضعفاء الناس فيكفوا الأذى عنهم .

ومع مرور الزمن وتشكل المجتمعات الحضرية أو شبه الحضرية ، دخل مفهوم العبادة وممارسة الطقوس الخاصة ، التي تستهدف ارضاء القوى الخفية (التي اصبحت في وقت لاحق تعتبر آلهة) كجزء من تشكيلة النظام الاجتماعي وجرى تنظيرها وتنسيجها في شبكة العلاقات الداخلية للمجتمع ومكونات هويته .

في المقابل تجلى العامل الاول في اجتهاد الانسان لتنظيم حياته والارتقاء بها ، وحظي بعض المجتمعات بنصيب وافر من التقدم المادي ، تدل عليه الكشوف الاثرية لشبكات الري المنظمة وهندسة البناء ، التي تستجيب لحاجات البيئة دون ان تضحي بالمتانة والجمال ، فضلا عن الطرق المدهشة لخزن الغذاء ، واستخراج الدواء من أعشاب الارض القليلة القيمة .
لكن رغم تقدم هذه المجتمعات ، فان انسانها بقي أسيرا لوهم القوى الخفية ، باختياره وقبوله في غالب الاحيان ، ولمسايرة النظام الاجتماعي في أحيان أخرى ، وفي حالات معينة كان هذا الاسر قسريا تحميه الانظمة السائدة والسلطان ، وقام فراعنة مصر ـ مثلا ـ بتطوير مفهوم العبودية ، بتحديده وصرفه إلى انفسهم ، فأصبح الانسان مضطرا إلى عبودية الآلهة المجهولة ، والتعبير عنها بالخضوع للفرعون المعلوم ، وهكذا تحول السلطان المادي البشري إلى تجسد للآلهة الخفية المتوهمة .

ومع ان الانسان قد ضرب أشواطا بعيدا في التقدم وتحرر العقل ، إلا ان أقواما كثيرة لا زالت تتعامل مع مفاهيم من هذه النوع باعتبارها مقبولة وطبيعية ، بل محبذة ، في اليابان مثلا كان الامبراطور يعتبر ابنا للاله الشمس ، وبقي هذا الاعتبار سائدا حتى نهاية الحرب الكونية الثانية ، وكان محرما على أي مواطن لمس الامبراطور باعتباره الها أو ابنا للاله ، وثمة أقوام لا زالت تنظر إلى الفيل والبقر والبركان وحتى الرموز الجنسية باعتبارها آلهة أو متعلقات للآلهة ، وهذا يشير إلى ان المسألة لا ترتبط بتقويم عقلي أو تحديد حسابي للفوائد والخسائر ، قدر ما ترتبط بحاجة هذه المجتمعات إلى رموز أو عناوين للحاجات ، بكلمة أخرى فان البقرة التي يعبدها الهندوس ، أو الفيل الذي يقدسه بعض البوذيين ، ليس عالما مفهوميا مستقلا ، بل هو عنوان أو رمز لعالم مفهومي آخر ، يتضمن معادلة للحاجات التي تولدها البيئة ، والحلول التي يقترحها المجتمع لسد تلك الحاجات ، ربما تكون هذه الحلول فعالة دائما ، وربما تكون فعالة في بعض الأحيان فحسب ، لكن وجودها يعالج القلق الانساني تجاه العجز عن الاستجابة الصحيحة لتحديات البيئة والزامات الحياة .

لو سالت اليوم هندوسيا عن فائدة البقرة له ، أو خطرها عليه  بشكل خاص ، ولو سالت يابانيا عن فائدة الشمس أو خطرها عليه ، فلعله لا يجد جوابا مقنعا ، لكن المسألة ليست محصورة في العلاقة الفردية ، والبقرة أو الشمس ليسا عالما مستقلا ، فاذا جردتهما عما يرمزان اليه ، فلن تكون الشمس سوى قطعة ملتهبة تنشر الضوء والدفء ، وهذا ما يمكن الحصول عليه من النار ، أو من مصابيح الزيت على سبيل المثال . البقرة والفيل والشمس ، هي رموز لعالم آخر ، غير العالم المادي .

البقرة والفيل والشمس من حيث هي كيانات مادية مستقلة ، تقابل حاجات الانسان المادية المستقلة ،  أي حاجته للدفء والركوب والطعام ، لكن من حيث هي رموز لعالم خفي ، فهي تقابل حاجات الانسان غير المادية وغير المحددة ، من قبيل الشعور بالضعف والضآلة  في عالم هائل العظمة والقوة ، والشعور بالعجز عن مسايرة هذا العالم وحل المشكلات الفردية ، والخوف من انعكاسات هذا العجز على سيرورة الحياة الخاصة ، انه قلق الوجود الذي رافق الانسان منذ أقدم الازمنة ، ولا زال ملتصقا به وان تحولت مصادره وأشكاله وسبل التعبير عنه ، نحن اليوم نتكلم عن السحر والجن واستحضار الارواح والمخلوقات الفضائية ، وهي كلها تعبيرات عن ذلك العالم نفسه ، ومحاولات للتوصل إلى حلول من خلال رموزه الخاصة ، بعيدا عن الحدود الصعبة لعناصر الحياة المادية .

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...