21/04/2021

في تمجيد الحرية


احتمل ان غالب القراء الاعزاء قد اطلع على كتاب جون ستيوارت ميل "حول الحرية" او ربما سمع به وعرف محتواه. ولذا لا انوي تكرار الكلام عنه وعن كاتبه ، سوى الإشارة الى ان جانبا مهما من الكتاب ، استهدف الرد على إشكالات كانت مثارة في منتصف القرن التاسع عشر ، حول مفهوم الحرية وتطبيقاتها ، وأبرزها اثنان:

*     ان اطلاق الحرية لغير الناضجين او غير المهذبين ، قد يحولها الى مبرر للفساد الأخلاقي وتخريب المجتمع ، او العدوان على الأعراف والقيم الناظمة لحياة الجماعة.

*   الحرية تتعارض مع مفهوم المسؤولية المشتركة ، حيث كل شخص مسؤول عن المجتمع ، ويتحمل جزء من عبء الحياة المشتركة. اذا بات الناس أحرارا ، فان كثيرا منهم لن يلتزموا بالقانون ، ولن يحترموا الأعراف ، وستصبح الحياة عسيرة على أولئك الذين يودون الالتزام بما ورثوه ، من قيم وعادات وطرق معيشة.

 اذا تأملت في هذه الاعتراضات ، فقد ترى انها ذاتها التي يكررها معارضو الحرية ، في المجتمع العربي في هذا الزمان. تذكر ان الكتاب الذي نتحدث عنه طبع في 1859 ، أي قبل 162 سنة بالتمام والكمال.

لعل قارئا يعترض قائلا: ان تكرار النقاش بعد مرور هذه المدة الطويلة ، دليل على ان المشكلة ما تزال عصية على الحل. أي بعبارة أخرى: ان الامر لا يستدعي تبكيت قومنا ، لانهم يناقشون قضايا ، طرقها غيرهم قبل قرن ونصف.

اني اتفق تماما مع هذا القول. فالانصاف يقتضي الإقرار بأن القضايا المرتبطة بالحرية وتطبيقاتها ، لاتزال مورد جدل بين الفلاسفة والاكاديميين في العالم الغربي ، وبين السياسيين وأهل الثقافة والناشطين في المجال الديني ، فضلا عن عامة الناس في المجتمعات الشرقية.

لكن من ناحية ثانية ، لا بد من القول بان مستويات الموضوع مختلفة تماما. فنقاشات العرب في مسألة الحرية مازالت عند مستوياتها الابتدائية ، من قبيل: هل الحرية ضرورة للحياة الإنسانية ام لا ، وهل هي حق أصلي ام هي هبة المجتمع للفرد ، وهل يجوز للدولة تقييدها مطلقا ام لا ، وهل تتعارض مع احكام الشريعة الإسلامية .. الخ.

أقول ان هذا المستوى الابتدائي من النقاش ، قد انتهى منه العالم الغربي قبل قرن او يزيد. لكنه في مجتمعاتنا مازال على هذا الحال. وكلما طرحت المسألة نهض احدهم قائلا: الحرية تؤدي الى خراب الدين وخراب الدولة ، فسكت الجميع خائفا من الرد. 

دعنا نستمع الان الى ما يقوله جون ستيوارت ميل عن مكانة الحرية ، بالقياس الى بقية القيم: "لو اجتمع البشر كلهم على رأي ، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد ، لما كان من حقهم أن يسكتوه. وبنفس القدر فانه ليس لهذا الفرد ان يسكت الناس ، حتى لو امتلك القوة والسلطة او اعتقد ان ما يراه هو الحق الكامل".

-        ما الذي يحمل الفيلسوف على منح الحرية في التعبير ، هذا المقام الرفيع؟

دعنا نستمع اليه مرة ثانية ، حين يقول "إذا أسكتنا صوتا ، فربما نكون قد حجبنا الحقيقة. لعل الرأي الذي نراه خاطئا  ، يحمل في طياته بذور فكرة صائبة او حقيقة خفيت علينا... انفراد شخص برأي لا يجعله خطأ ، واتفاق الناس على رأي لا يجعله صحيحا... ان الرأي المتفق عليه مثل الرأي الفردي ، لا يصح ولا يقبل عند العقلاء ، الا اذا خضع للتجربة والتمحيص".

الشرق الأوسط الأربعاء - 9 شهر رمضان 1442 هـ - 21 أبريل 2021 مـ رقم العدد [15485]

https://aawsat.com/node/2930401

مقالات ذات صلة

ان تكون عبدا لغيرك

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بين مفهومين

الحرية عند أهل الفقه

 الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

العلاقة الجدلية بين الحرية ورضا العامة

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

 

 

14/04/2021

التدريب على السعادة

 

يذكرني رمضان بصديقي نجيب الزامل ، الكاتب والرائد الاجتماعي ، الذي رحل عنا في مطلع العام المنصرم. لطالما شعرت – حين القاه في مثل هذا الشهر - بأني محظوظ بصداقة هذا الرجل العميق التفكير ، المتوقد العاطفة ، البشوش الوجه ، الذي أجمع الناس على محبته.

نجيب الزامل 

آمن المرحوم نجيب بأن السعادة ليست أمرا مكلفا ، ولا ينبغي ان تكون كذلك. ستنال السعادة اذا تسببت في إسعاد الآخرين. جرب الاعتياد على التبسم في وجه من تراه ، من الاقرباء لك والغرباء عنك. فكيف تظنهم سيردون؟.

الاحتمال الأقوى انهم سيبادلونك التبسم. تخيل الآن انك دخلت مجلسا او دائرة او سوقا فوجدت الوجوه جميعا باسمة... الن تشعر بالحبور والتفاؤل؟. تخيل انك تواجه هذا المشهد كل يوم ، في موقع العمل وفي السوق وفي البيت ، ألن تكون الحياة أجمل؟. هذا قدر من السعادة لايكلف اي شيء ، وهو ممكن لكل انسان ، صغيرا أو كبيرا.

ان اردت ان ترى وجوها باسمة ، في كل ساعة من ساعات اليوم ، فليكن وجهك باسما ، في كل ساعة من ساعات اليوم.

الذين يحملون وجوها حزينة او مكفهرة ، لديهم مبررات كثيرة ، بعضها معقول وبعضها مضحك او على الاقل ضعيف. سألت صديقا من اهل الوجوه الخشبية الخالية من اي تعبير: لماذا لا تبتسم حين تواجه الناس ، فأجابني ان هذا يقلل من هيبة الانسان. ولاحظت يوما ان صديقا لي استدار مبتعدا  ،كي لا يضطر للسلام على شخص حضر لتهنئته بزواج ابنه ، فعاتبته ، فقال ان هذا من نوع التكبر على المتكبر. ثم وجدته يبذل جهدا كي يبرر صنيعه ، ولو تلطف وقابل ذلك الشخص بوجه بشوش ، فسيكون اقرب الى السعادة ، وسيمكنه ان يروي لابنائه يوما ان جميع الناس جاؤوه مهنئين  ، لكنه الان لن يستطيع ذكر هذه الحادثة ، لان تصرفه لم يكن مدعاة للفخر.

الحياة ملأى بالمرارات. ونحن لا نستطيع اصلاح العالم. لكننا نستطيع التحكم في أجسامنا وانفعالاتنا. نحن من يجعل وجوهنا مكفهرة او مشرقة. ولنحمد الله ان لدينا وجوها وقلوبا ، واننا نستطيع ان نرى الناس كما يرونا.

لا تحول مجلسك الى مأتم ، فقد تخسر محبيك. رأيت مريضا في المستشفى يتأوه لانقطاع أهله عن زيارته. فكلمت قريبا له ، فاخبرني ان أهله كانوا ملتزمين بزيارته ، ثم انقطعوا عنه لكثرة عتابه لهم وسيء ما يقول عن آبائهم. وحسب تعبير هذا الصديق فان بيت ابنته كان يتحول الى مجلس عزاء ، بعدما يعودون من زيارة ابيها. واخيرا تعبوا منه وتركوه يتألم وحيدا. فايهم المذنب ياترى ، وايهم الظالم لنفسه؟.

اذا رأيت الناس يتعاطفون مع حزنك ، فاعلم انهم سيحبونك أيضا لو رأوك مبتسما. واذا رأيت الناس يظهرون الاحترام اذا قابلتهم بوجه غاضب ، فاعلم انهم ، لا يحترمون مقامك بل يتقون شرك.

لم يعلم اكثر الناس (وانا واحد منهم) ان نجيب الزامل كان مريضا منذ شبابه (وقد توفي بسبب ذلك المرض) لكنهم رأوه مبتسما على الدوام ، يدعو الناس الى المحبة والفرح ، فأحبوه لانهم وجدوه سببا لسعادتهم. اعرف وتعرفون كثيرا من الناس ، كان بوسعهم ان يكونوا مبتسمين دائما مثل نجيب ، لكنهم فضلوا مقابلة الناس بوجوه خشبية او مكفهرة ، فمن يذكرهم اليوم مثلما نذكر نجيب ، ومن يتحدث عنهم مثلما نتحدث عن داعية المحبة هذا؟.

الشرق الأوسط  الأربعاء - 2 شهر رمضان 1442 هـ - 14 أبريل 2021 مـ رقم العدد [15478]

https://aawsat.com/node/2917241

مقالات ذات علاقة

عن مكارم الاخـــــلاق

وصايا رمضانية

مفهوم العدالة الاجتماعية

في تفسير التنازع بين الدعاة والمصلحين

 

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...