14/09/2009

كي لا نصبح لقمة في فم الغول


سواء كنت يمنيا أو كنت عراقيا، سواء كنت مسلما أو مسيحيا، سواء كنت عسكريا يشارك في حماية أمن الناس أو عاملا يكدح من أجل قوت عياله، وسواء أكنت ممن يقاوم العنف أو كنت عابر سبيل. أيا كنت، في أي مكان كنت، أي مذهب اتبعت، وأي طريقة من الحياة اخترت، فأنت مستهدف بالعنف الأعمى الذي يحصد الأرواح ويدمر الممتلكات.

 في زمان الجاهلية كانت العرب تمتنع عن الحرب في الأشهر الحرم، وفي كل أزمان المسلمين كان المتحاربون يتقون القتل في المساجد. وفي كل أنحاء العالم ثمة اتفاق ضمني على عدم استهداف القادة والشخصيات العامة التي لها قيمة رمزية أو وطنية. عرب الجاهلية ويهود ونصارى هذا العصر التزموا - بدافع أخلاقي بحت - باحترام كرامة عدوهم لأنه، مهما كان سبب عداوته، إنسان مثلهم. وقد نهى الشرع الإسلامي قبل قرون من معاهدة جنيف التي تحمي حقوق المتقاتلين عن التمثيل بالقتيل وتدمير مصادر الحياة ووسائلها، والعفو عن الضعيف والعاجز. تلك هي تجربة الإنسان وتراث الإنسانية الذي ميزه عن الحيوان حتى في العدوان والحرب.

أما وقد وصلنا إلى «زمن القاعدة» فإن تراث الأديان وتراث الإنسانية لا يعني شيئا، فحربهم قائمة في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل إنسان. القتل عندهم مثل الصلاة ومثل شرب الشاي. الكلام في القتل مثل السؤال عن الصحة والأحوال. المسدس مثل سكين الفاكهة والقنبلة مثل التفاحة والبشر الذين يموتون في الانفجارات مثل أضاحي العيد، تذبح ثم تروى القصص ويتبارى المتحدثون في استذكار الطرائف التي حدثت أثناءها. لا شيء في القتل يبعث على الرهبة ولا مشهد الدم الحرام يثير الأسئلة ولا صرخات الجرحى والمكلومين تحث على التعوذ والاسترجاع. كل شيء مباح ما دام طريقه متاحا.

لم تعد القاعدة وأخواتها وتيارها مجرد تنظيم سياسي يسعى لأغراض محددة معلومة. منشوراتهم لا تذكر أهدافا وأنصارهم لا يعرضون غايات محددة كي يناقشهم الآخرون في سلامة الوسائل التي يتوسلون بها. فكأن القتل أصبح غاية بذاته، وكأن إرهاب الناس وتخويفهم أصبح مقصدا بذاته.

ما الذي أوصل جماعة انطلقت من دوافع دينية إلى هذا التفريط المريع في قيم الإنسانية وحدود الدين؟. أهو الدين نفسه، القهر، أم الشحن الإيديولوجي المبالغ فيه، أم الإحباط المطلق واليأس من كل وسيلة إنسانية؟.

ربما يحتاج الأمر إلى دراسات معمقة ونقاشات طويلة حتى نتبين السبب الذي أوصلنا إلى هذه الحال. لكن دعونا نتأمل في أقوال المتراجعين من أنصار القاعدة والسائرين على خطها الذين أصدروا ما وصف بمراجعات، وقد رأينا أمثلة عن هؤلاء بين من عادوا من أفغانستان وبين الجهاديين المصريين والجزائريين والليبيين. هؤلاء جميعا يتحدثون عن الطريق الذي قادهم إلى طريق العنف. ذلك الطريق هو التطرف الديني أو الغلو في الدين أو ما شئت فسمه. أي بعبارة اخرى الشحن الايديولوجي الذي يساوي بين الصفاء الديني وبين الخروج على المجتمع واستهدافه بالحرب.

تبدأ المسالة بنقاط بسيطة حيث يقوم دعاة مؤدلجون بتصوير الصراع بين التيار الديني وتيارات المجتمع الأخرى على أنها حرب وجود بين الإسلام والكفر: إذا أردت للإسلام أن يبقى فيجب أن تستأصل جميع معارضي التيار الديني. وهم لا يقصدون بالتيار الديني الملتزمين بالشعائر الدينية ولا يقصدون الدعاة ولا يقصدون النشطين في الحقل العام العاملين لرفعة مجتمع المسلمين، بل يقصدون على وجه التحديد أعضاء الجماعة الخاصة التي تتبع منهجا معينا منفردا في لغته واستهدافاته وهمومه.

يجري إقناع الأفراد بأن جميع الناس - خارج الجماعة - منحرفون أو مبتدعون أو جاهلون أو ضالون، وإن الدولة وأجهزتها ومؤسساتها والعاملين فيها أعوان للضلال أو متسامحون فيه أو ساكتون عنه. يؤدي اقتناع الفرد بهذه الرؤية إلى جعله يائسا من كل وسيلة للإصلاح تتوسل بالقانون أو أعراف المجتمع أو العلاقات الإنسانية. ويأتي بعد ذلك التصوير الإيديولوجي للدعوة الدينية التي قامت - حسب تلك الرؤية - وانتشرت وغلبت بقوة السلاح لا بقوة الحجة والمنطق. ويقال للفرد حينئذ: إذا أردت طريق الجاهلية فالقانون والمجتمع يقودانك إليها، وإذا أردت طريق الرسول فالبندقية أول الطريق.

إذا كان التطرف هو أحد مداخل العنف، فدعونا نفكر في صور التطرف المنتشرة في مجتمعنا، دعونا نفكر في انعكاساتها على هذه المسألة بالذات. لقد سكتنا طويلا عن مشكلة العنف وقد حان الوقت الآن كي نتكلم أو على الأقل كي نفكر بصوت عال.

07/09/2009

تفكيك التطرف لتفكيك الإرهاب-1


أتفق تماما مع الأستاذ مشاري الذايدي بأننا لم نفعل ما يكفي لتحييد التطرف الذي يوفر المدد البشري والفكري لشبكات الإرهاب. المحاولة الفاشلة لاغتيال سمو الأمير محمد بن نايف أعادت التذكير بأن المملكة لا زالت هدفا لشبكات العنف الذي ظننا أنه قد تراجع في العامين الماضيين. المؤكد أن معظم السعوديين متفقون على إدانة التوسل بالعنف المسلح لأي غرض سياسي أو ديني أو اجتماعي.
الحوادث الأخيرة كشفت عن حقيقة مؤلمة ربما أغفلناها طوال الأشهر الماضية، وهي أن هناك من يعمل بقصد أو بجهالة على تغذية اتجاهات العنف في المجتمع، من خلال تصوير المنافسين كأعداء للدين أو تصوير الصراع الفكري والسياسي الطبيعي كمعركة حياة أو موت بين الاتجاه الديني التقليدي والاتجاهات المنافسة. ذلك الشخص الذي يقول على شاشات التلفزيون إنه لو التقى بالدكتور تركي الحمد لبصق في وجهه، وذلك الذي يتحدث عن القتل والقتال والردة كما لو كان الأمر يتعلق بعنز في سوق المواشي، وذلك الذي يدعو الشباب إلى التصدي بأيديهم لكل من خالف تقاليده أو متبنياته الدينية، وذلك الذي يبرر قتل الناس في دول أخرى لأن مذهبهم باطل أو لأن دينهم محرف.
كل هؤلاء ينفخون في شراع الإرهاب عن وعي أو عن جهالة. فهم يصورون العنف كتعبير وحيد عن صفاء العقيدة، وهم يهونون من قيمة الدم الحرام حتى تتحول إراقة الدم إلى حلم يلح على ذهن الشاب البسيط الذي يريد إن يكتشف ذاته إو يجسد رجولته إو يفي بدينه تجاه ربه إو تجاه شيخه. 
نحن لا نتحدث عن حالات فردية. لقد تحول التطرف الديني إلى غول يأخذ بخناق البلاد، وتراه أمامك في كل يوم، في المساجد والمدارس والتلفزيون والصحف والإنترنت. هذا الغول أدرك اللعبة السياسية وأجادها، في مثل هذه الأيام تراه ساكتا خامدا، حتى إذا تراخى اهتمام الناس بحوادث العنف السياسي، نهض من بياته محاربا هذا وشاتما ذاك. يعمل هذا الغول السياسي على استغلال كل قضية لتجنيد الناس ونفخ ثقافة العدوان فيهم وتعزيز الكراهية بينهم وبث اليأس والارتياب في نفوسهم. وهو يضع كل عمل من هذه الأعمال في قالب ديني، فكأنه صاحب الشريعة أو ممثلها الوحيد، وكأنه الناطق بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يحرص الشباب جميعا على دينهم وسلامة مجتمعهم. هذه المشاعر النبيلة تمثل مدخلا لتعزيز شعورهم بالمسؤولية وحماستهم لتنمية ذواتهم والمساهمة في إنماء مجتمعهم. لكن دعاة التطرف يستثمرونها في زرع الإحباط والشعور بالمهانة عند الشباب. وهم يوجهون هذه المشاعر السلبية نحو منافسيهم السياسيين أو الاجتماعيين، أي جميع شرائح المجتمع عدا الفئة التي تدور حولهم وتردد أقوالهم. ينظر أولئك المتطرفون إلى كل إنسان باعتباره عدوا فعليا أو عدوا محتملا. أما لأنه يتبع منهجا دينيا منفتحا، أو لأنه يركز على قضايا الإصلاح الاجتماعي والثقافي، أو لأنه يتطلع إلى أسلوب حياة مختلف، أو لأنه يعبر عن آراء غير تلك التي تحمل ختم «الفرقة الناجية»، أو لعشرات الأسباب غير هذه وتلك. في كل الأحوال فإن يوميات دعاة التطرف هؤلاء مكرسة للبحث عن أعداء أو اصطناع أعداء أو وصف أعداء . كتاباتهم وخطاباتهم ومجالسهم مكرسة في معظمها للحديث عن «الآخرين» أي الأعداء الفعليين أو الأعداء المحتملين.
الشاب الذي ساقته أقداره إلى حلقات هؤلاء المتطرفين سوف ينزلق بالتدريج إلى حمأة العداوة، سوف ينشغل ذهنه بالتخلص من الأعداء الواقعيين والمتخيلين بدل انشغاله بتطوير كفاءاته وبناء حياته. نموذج الحياة الفاضلة الذي يرنو إليه سوف يتجسد في الانتصار على أولئك الأعداء المفترضين، بدل الانعتاق من الجهل والخرافة والفقر.
التطرف والتطرف الاجتماعي والثقافي هو الذي يبرر العنف ويجعله اعتياديا، مقبولا، بل ومحبذا. ولهذا فإن تجفيف منابع الإرهاب ، يتطلب إيضا كسر شوكة التطرف وإعادة المتطرفين إلى مكانهم الطبيعي، بعدما تحولوا إلى غول يسعى للهيمنة على حياة البلاد الثقافية والفكرية والاجتماعية.

صحيفة عكاظ   7 سبتمبر 2009م - 
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20090907/Con20090907303172.htm

مقالات ذات علاقة

جرائم امن الدولة : وجهة نظر اخرى

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

إشارات على انهيار النفوذ الاجتماعي للقاعدة

اعلام القاعدة في تظاهرات عربية

تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

خديعة الثقافة وحفلات الموت

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

اتجاهات في تحليل التطرف

ابعد من تماثيل بوذا

ثقافة الكراهية

تجريم الكراهية

تجارة الخوف

في انتظار الفتنة

كي لا نصبح لقمة في فم الغول

تفكيك التطرف لتفكيك الإرهاب-1

تفكيك التطرف لتفكيك الارهاب-2

العامل السعودي

غلو .. ام بحث عن هوية

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...