07/03/2006

طريق الحزب الى السلطة



يعتبر الحزب ضرروة للتنمية السياسية لانه الاطار الاكثر فعالية لتدريب واعداد النخبة التي ينتظر ان تساهم في ادارة الشأن العام . تتمايز الانظمة الديمقراطية عن غيرها بالتجديد الدائم لبنيتها الادارية والسياسية. ومع التجديد تتعزز شرعية النظام وتتسع قاعدته الاجتماعية ويتعزز استقراره .

 والحزب السياسي ضرورة لترسيخ التعامل السلمي بين اطياف المجتمع المختلفة من جهة وبينها وبين الدولة من جهة اخرى . لا يخلو مجتمع من دواع للتوتر ومبررات للازمة . وتنشأ معظم التوترات بسبب قصور الموارد البشرية او المادية – واحيانا المعرفية – التي تملكها الدولة عن استيعاب الحاجات والمطالب الاجتماعية . من نافل القول ان الحاجات وبالتالي المطالب لا تتناهى ، بينما الموارد بطبيعتها محدودة مهما عظمت . ولهذا فهناك دائما ضغط من المجتمع على الدولة ، صارخ او مكتوم . يمثل الحزب قناة حوار ممكنة بين المجتمع والدولة ، تعمل على عقلنة وتركيز مطالب المجتمع والكشف عن الخطوط التي تربطها الى المصلحة الوطنية العامة ، ومن ثم تحويلها من اسباب توتر الى مشروعات عمل اعتيادية.

ولد الحزب السياسي بصيغته الحديثة في اوربا ، اما اكثر الصيغ انتشارا في العالم العربي فهي تقليد على النسخة التي تطورت في امريكا اللاتينية في ستينات القرن الماضي وانتقلت الينا من خلال التفاعل بين تيارات اليسار العربي ونظيرتها الاجنبية . وخلال العقدين الماضيين بذل بعض المفكرين والاحزاب العربية جهدا طيبا لاعادة انتاج هذه الصيغة القديمة في اطار احدث واكثر استجابة للمعطيات الرهنة في المجتمع العربي . ونتيجة لهذا فان اكثرية التنظيمات السياسية العربية تميل الان الى عمل سياسي سلمي ، علني ، يعتمد في المقام الاول على تفعيل طاقات الجمهور وكسب دعمه .

لكن هذه الاحزاب ما تزال بحاجة الى التخلص من احدى العلل الكبرى الموروثة عن النموذج اللاتيني ، تلك العلة هي الانشغال بالتكتيك السياسي بدل المشروع السياسي . يضع كل حزب في بيان تاسيسه قائمة من الاهداف ، تبدأ من الدفاع عن الحريات العامة وتعزيز المشاركة الشعبية ، الى حماية البيئة ، مرورا بتطوير الاقتصاد والتعليم والامن الوطني .. الخ . لكنك لا تجد الى جوار هذه الاهداف بيانا باستراتيجيات العمل ، اي الوسائل التي سيعتمدها الحزب في الوصول الى هذه الاهداف . بديهي ان الوصول الى السلطة يوفر امكانية كبيرة لتحقيق تلك الاهداف . لكن من المبالغة بمكان الادعاء بان مجرد امتلاك الادوات التنفيذية ، اي المال والقوة السياسية ، كاف لتحقيقها . والدليل على ذلك ان الحكومات القائمة نفسها تدعي سعيها لنفس الاهداف او بعضها على الاقل . واذا لم تكن مخلصة في كل ادعاءاتها فلا شك انها صادقة في بعضها ولو بنسبة معينة . لكنها مع ذلك لم تحقق نجاحا يتوازى مع الفرص التي اتيحت لها من حيث المورد والوقت . كما ان الاحزاب التي شاركت في السلطة لم تحقق نسبة كبيرة من تلك الاهداف .

يشير هذا الى حقيقة ان المشكلة تكمن في مكان آخر ، وفي ظني انها تكمن في الانشغال المكثف بالتكتيك ، اي اعتبار الوصول الى السلطة ، سواء الحكومة او المجلس النيابي هو الهدف الاول وربما الاخير للحزب . في ظل هذا الانشغال ، يتمحور العمل اليومي للحزب حول تعبئة الشارع وراء اهداف بعضها ثانوي او على الاقل غير استراتيجي  ، فائدتها الوحيدة هي التاكيد على خطوط الانفصال – واحيانا الصراع – بين الدولة والمجتمع . حين ينحصر جهد الحزب في هذا النوع من النشاط ، فان اعضاءه وانصاره لا يتعلمون السياسة ولا يتعلمون فن ادارة الدولة ، بل يتعلمون فنون الصراع والتعبئة فقط  ، ويتخرجون كخطباء مؤثرين لا كقادة سياسيين.

بدلا من ذلك فان الاحزاب العربية مدعوة الى وضع ثقلها وراء المشروع السياسي الذي تظهر معالمه في قائمة اهدافها . وهذا يستدعي وضع استراتيجيات متوسطة وطويلة المدى لتحقيقه ، ويشمل ذلك :

 1- وضع تصور تفصيلي عن معاني وحدود وتطبيقات كل واحد من اهداف الحزب ، وكيفية انزاله في الواقع المحلي ، بالاعتماد على موارد الدولة او بجهد اهلي ، والمعوقات التي سوف تواجهه ، سواء الثقافية او السياسية او غيرها ، والبدائل الممكنة للتغلب عليها .

2- تقسيم نشاطات الحزب وموارده المادية والبشرية على النشاطات الرامية الى تحقيق كل واحد من تلك الاهداف . يجب ان تركز شريحة من الاعضاء اهتمامها على قضايا التنمية السياسية بما فيها الحريات العامة وتعزيز المشاركة الشعبية ، ويركز فريق آخر على نقد السياسات الاقتصادية المتبعة وتطوير بدائل افضل وعقد نقاشات تخصصية او توعوية وتشجيع البحث حول هذه البدائل . ويركز فريق ثالث على قضايا البيئة ورابع على التعليم والصحة والامن.. الخ . سوف يكتشف اعضاء الحزب من وراء هذه النشاطات حقيقة الدولة كجهاز عمل شامل ، وسيتعرفون على السياسة كمفهوم يربط بين حاجات البلاد ومواردها ، وليس مجرد شعارات او مناصب او امتيازات . كما ستوفر للحزب ككل منصة للتعبير عن راي ناضج في مختلف قضايا البلاد في كل الاوقات وليس في المواسم الانتخابية وحسب .

3- اذا نجح الحزب في تحويل مشروعه السياسي الى موضوع عمل يومي ، فانه سيكون بمثابة حكومة ظل ، وسوف يفرض مواقفه واراءه على الحكومة حتى لو لم يكن شريكا فيها . ان وجود بدائل انضج عن السياسات الحكومية ، ووجود دعاة لهذه البدائل يمارسون النقد المتخصص ، هو اقوى وسيلة ضغط من اجل الاصلاح  . في حقيقة الامر سيظهر الحزب امام الراي العام باعتباره البديل الطبيعي عن الحكومة القائمة ، وهذا يرفع مكانة الحزب الى صف المنافس الرئيس ، بدل ان يكون واحدا من عشرات المتنافسين . 

الايام 7 مارس 2006

28/02/2006

في انتظار الفتنة


آية الله السيستاني
في الاسبوع الماضي ، كان العراق على وشك الانزلاق الى مذبحة ، لولا المبادرة السريعة لزعمائه وعقلانية الاكثرية الساحقة من جمهوره . التطورات التي اعقبت التفجير الاثم لمرقد الامامين العسكري والهادي في سامراء كشفت عن ظواهر جديدة تخالف ما قيل سابقا. 
من ذلك مثلا ان "تيار الصدر" الذي كان يعتبر فوضويا ومتطرفا ، اظهر انضباطا متينا وحرصا استثنائيا على منع الفتنة ، وادى دورا بارزا في الحيلولة دون تعرض مساجد الشيعة والسنة في بغداد لاعمال انتقام . في المقابل فان "هيئة علماء المسلمين" لعبت على وتر الاثارة الطائفية وحاولت استغلال التوتر لتصفية حسابات صغيرة ، بدل الانخراط في جهود التهدئة وتطييب الخواطر ، كما هو المتوقع منها . 
مثل كل المصائب فقد انطوت تلك الحادثة على عبر تستحق المطالعة والتامل . واولها خطورة العبث بالمشاعر الدينية للجمهور . بالنسبة لنا في الخليج فان هذه المسألة تنطوي على حساسية خاصة ، اذ يشكل الخليج اكثر المجتمعات العربية استهلاكا لمواد الاثارة الدينية والمذهبية واكثرها انسا بالجدالات التاريخية والعقيدية العقيمة ، التي لم نكسب من ورائها حتى اليوم سوى المزيد من الفرقة والتباغض وتعطيل الاصلاح السياسي  المنشود وبالتالي اطالة عمر الاستبداد ومعه التخلف . في كل بلد من بلدان الخليج هناك اشخاص يعيشون على تجارة الفرقة والاحتراب المذهبي ، حرفتهم الوحيدة هي البحث عن نص هنا او حادثة تاريخية هناك ، او عيب حقيقي او مفتعل ، وتغليفها في عبوة دينية ثم توزيعها على الغافلين من الناس باعتبارها حقيقة الدين وجوهر ما يسأل المؤمن عنه في يوم الحساب .
اتمنى ان يقرأ هؤلاء ما حدث في العراق باعتباره احتمالا قائما في كل مجتمع آخر . العبث بالمشاعر الدينية والرموز الدينية واهانتها ، قد يطلق تيارا من الغضب يستحيل ضبطه ، وعندئذ فان الخسارة لن تقتصر على الغير ، بل تنال ايضا اولئك الذين لعبوا على وتر الاثارة الدينية والمذهبية عن قصد ومعرفة بالعواقب او عن جهل وانسياق وراء العصبية او عن رغبة في الاستثمار المؤقت كما يفعل المضاربون في سوق الاسهم .
ويتعلق الدرس الثاني بعوامل تامين المجتمع من الانزلاق في تيار الفتنة .  واشير خصوصا الى عاملين : اولهما دور الحكومة والثاني دور الاحزاب والقوى الاهلية . كي تكون الحكومة عامل تامين ضد الفتنة ، ولا سيما الفتن المنبعثة من نزاعات دينية او مذهبية ، فان عليها ان تتعالى على هذا النوع من المجادلات وان لا تكون باشخاصها او مؤسساتها او سياساتها طرفا في الجدال او داعما لاي طرف فيه . لا يتعلق الامر هنا بحق او باطل ، بل يتعلق بالسلم الاهلي واستقرار البلاد . لو اعتقد فلان من رجال الدولة بان مذهبه هو الحق وان مذهب الاخرين باطل ، فلا يجوز له ان يتخذ موقفا على هذا الاساس ، واذا كان يرى ان واجبه الديني يقتضى منه اتخاذ موقف من هذا النوع فعليه ان يتخلى اولا عن مسؤولياته في جهاز الدولة .
الدولة ليست هيئة دينية ولا دورها هو الدفاع عن فريق من المجتمع ضد آخر . بل ادارة المجتمع على نحو يبقي المصالح المتعارضة والافكار المختلفة ضمن حدود الامان ويمنع تحولها الى نزاعات مادية تهدد النظام العام . ان أسوأ الخيارات هو دخول الدولة بذاتها او من خلال بعض افرادها او مؤسساتها طرفا في النزاعات الدينية والمذهبية ، لانه يؤدي مباشرة الى تقسيم المجتمع والقضاء على ما نسميه بالارادة العامة التي تشكل جوهر الوحدة وضمان الاستقرار. وفي هذا الصدد فان على الدولة ان تكون مستعدة للعض على اصابعها احيانا او معاقبة بعض انصارها او الوقوف الى جانب معارضيها كي تحمي السلم الاهلي .
 العامل الثاني لتامين المجتمع من الانزلاق الى الفتنة هو القوى الاجتماعية القادرة على التفاهم مع بعضها ومع الدولة . وقد اشرت سلفا الى الدور الهام الذي لعبه تيار الصدر ، واشير هنا الى دور مماثل في الاهمية لمجلس عشائر الرمادي غرب العراق وبطبيعة الحال دور اية الله العظمي السيستاني . في الحقيقة فان معظم الاحزاب والمجموعات المنظمة والقوى الفاعلة العراقية لعبت في الاسبوع المنصرم دورا ايجابيا ومؤثرا . وهذا يشير الى اهمية دور المنظمات والاحزاب و – بشكل عام – قوى المجتمع المدني . لا شك ان اخطر الظروف هو الظرف الذي ينطلق فيه الغوغاء ، اي الجمهور غير المنظم ، الذي لا يعرف حدودا ولا يحترم قيودا . وفي حالة كهذه فان السياسة تتحول الى ردود فعل متعاكسة ومتواصلة ، ويتحول العنف والانتقام الى سلوك اعتيادي ، ويفلت الزمام من ايدي العقلاء وتصبح الريبة والاتهام والخوف والرغبة في الثار هي القائد . 
وعلى العكس من ذلك فان وجود قوى كبيرة ومؤثرة ، يقودها اشخاص عقلاء ، قادرون على التفاهم والمساومة مع منافسيهم ، وقادرون في الوقت نفسه على اقناع جمهورهم ، هو السبيل الوحيد لحصر النزاعات ضمن حدود مقبولة ، والحيلولة دون استغلال الحوادث المؤلمة في تفجير النظام العام . 
لا يخلو مجتمع من عدد من الافراد او القوى الصغيرة التي تتسم بالسلبية  او الجهل ، او الانتهازية ، وهي قد لا تتورع عن دفع المجتمع الى الفتنة ، عن قصد او جهالة . تتوسع هذه القوى كلما ضيقت الدولة الخناق على القوى العاقلة التي هي ضمير المجتمع ، وتنحسر كلما نجح العقلاء في تحقيق اماني جمهورهم . ربما يظن بعض الحاكمين ان وجود قوى كبيرة هو امر مزعج ، ولعله يضعف من سلطانهم . لكن عليهم ان يفهموا بان البديل الحتمي عن القوى العاقلة هو القوى السلبية . الاختيار بين الاثنين هو اختيار بين استقرار طويل الامد وبين فتنة في الانتظار.

الايام 28 فبراير 2006

الدين والايديولوجيا: من يزاحم الاخر؟

  الواضح ان مفهوم الأيديولوجيا وتطبيقاته ، يثير حساسية ملحوظة عند الجمهور ، فضلا عن السياسيين والمفكرين. سيبقى هذا الراي انطباعيا ، نظرا لشك...