22/03/2017

حول طبيعة السؤال الديني


اواخر 1989 تحدث الداعية المعروف د. عايض القرني عن رحلته الى الولايات المتحدة ، فوصفها بانها "مجتمع خبيث ، فيه المجرمون ، فيه السكارى ، فيه أهل الدعارة ، فيه الزنوج الذين تغلي قلوبهم ، فيه فرق مبتدعة ، فيه أهل الغارات ، فيه أهل الأحقاد ، فأنت تتوقع كل يوم متى يعتدى عليك".
بعد عقدين ، في فبراير 2008 ، كتب عن رحلته الى فرنسا ، فقدم انطباعا مغايرا عن الغرب: "أقمت في باريس أراجع الأطباء وأدخل المكتبات وأشاهد الناس وأنظر إلى تعاملهم ، فأجد رقة الحضارة وتهذيب الطباع ، ولطف المشاعر وحفاوة اللقاء ، حسن التأدب مع الآخر ، أصوات هادئة ، حياة منظمة ، التزام بالمواعيد ، ترتيب في شؤون الحياة. أما نحن العرب فقد سبقني ابن خلدون لوصفنا بالتوحش والغلظة".
كلا الحديثين يجيب على سؤال افتراضي واحد: "ما هي حقيقة الغرب". لكن السنوات العشرين الفاصلة بين النصين تشهد على تحول جوهري في هموم المتحدث أو ظرف السؤال ، أو تطلعات المتلقين. هذا مايسميه الفيلسوف المعاصر غادامر بالافق التاريخي للفكرة. يتكرر السؤال على امتداد الزمن. لكنه في كل حقبة يحكي حاجة مختلفة ، ويطلب إجابة مختلفة.
مضمون السؤال في 1989 انصرف في ذهن المتحدث الى اشكالية الهوية. فهو لم يفهم كطلب لوصف واقع الغرب ، بل تحديد قيمته مقابل قيمتنا. اي ان سؤال "ما هي حقيقة الغرب" تحول الى "من نحن". فأجاب عليه بوصف متقابل محوره التهوين من قيمة الغرب ومدنيته. اختيار هذا المنحى بالخصوص مرجعه أن التعريف بهوية المسلم خلال "مرحلة الصحوة"  انصرف الى تعريف الضد وليس تعريف الذات. سؤال "من نحن" في تلك الأيام ، جوابه "نحن نقيض اولئك". وهذا ما يجري عادة في ظروف الصراع ، سواء كان حقيقيا او متوهما. وصف الآخر في ظرف الصراع يلعب دورين متوازيين: التأكيد على الموقع الحركي للذات ، وتحديد مبررات المفارقة.
النص الثاني الذي جاء بعد عقدين يجيب على السؤال نفسه "ماهي حقيقة الغرب". لكن ظرفه مختلف. مرحلة الصحوة انتهت ، المتحدث انتقل الى طبقة اجتماعية أعلى  ، وهموم الناس تحولت الى اكتشاف الغرب وليس مصارعته. لذا غلب على الحديث الطابع التصالحي ، الذي تضمن ايضا تعريفا بفضائل الغرب ونقد الذات. الواضح اذن انه ليس مهموما بمسألة الهوية او الصراع مع الغرب ، بل التواصل معه.
كلا الحديثين وضع في قالب ديني ودعم بنصوص دينية. فهل يمكن اعتبارهما "جواب الدين" ، وهل يمكن اعتبار السؤال الضمني السابق لهما سؤالا دينيا؟.
نظريا ، يصنف الفقه التقليدي العلاقة بين الناس كموضوع ديني. ويحدد المسافة بينهم تبعا للفارق بين نوعية ومستوى التدين عند هؤلاء وأولئك. اما في الممارسة الواقعية فان غالبية رجال الدين ، التقليديين وغيرهم ، يتبعون منهجا عقليا بحتا يركز على المصلحة المنظورة في العلاقة. عدو الامس قد يتحول اليوم الى صديق ، أو العكس. وفي التاريخ القديم والمعاصر شواهد لاتحصى على هذا المنهج.
اذا صح هذا التحليل ، فان السؤال التالي سيتناول الهوية وما يترتب عليها من علاقة مع المختلفين ، اي سؤال "من أنا" و "كيف اتعامل مع المختلف". ترى هل سنجيب عليه بالتعريف الفقهي الموروث ، أم سنجيب عليه وفقا للمصلحة العقلائية القائمة؟. وهل نصنف التشخيص العقلي للمصلحة كعنصر من داخل الدين ام خارجه؟.
الشرق الاوسط 22 مارس 2017
http://aawsat.com/node/883501

15/03/2017

في معنى الوصف الديني


النقاش حول خط فاصل بين ما نعتبره موضوعا دينيا وما نعتبره خارج الدين ، يثير بالتاكيد بعض المخاوف. ثمة من ينظر لكل اشارة عن "خارج الدين" كدعوة مستترة الى العلمانية. ولذا فقد يفيدنا ان نتعرض باختصار لمعنى الوصف الديني للأشياء.
حين تصف شيئا بأنه إسلامي او ديني ، فانت تشير على الأغلب الى واحد من أربعة معان. أولها نسبة الموصوف الى الدين بشكل مباشر ، مثل وصف للصلاة بانها واجب ديني. المعنى الثاني يتعلق بالافعال المكرسة للدين دون غيره ، فهي متصلة بالدين بشكل غير مباشر ، مثل المؤسسات الدعوية ومدارس العلم الشرعي. أما المعنى الثالث فيشير فقط الى التزام الموصوف بالمعايير الدينية ، ويتعلق عادة بالافعال التي لا تتصل مباشرة او مداورة بالدين ، لكنها تلتزم بقواعده ، مثل وصف قوانين الدولة بانها اسلامية ، ووصف التعاملات المالية الخالية من الفائدة المشروطة بالمعاملات الاسلامية. ويشير المعنى الرابع الى الاشياء أو الافعال القائمة ضمن المجال الديني ، او المنتمية ثقافيا او موضوعيا الى جماعة المسلمين ، لكن من دون علاقة عضوية او وظيفية بالدين. مثل وصفنا لبعض انماط العمارة بانها اسلامية ، ومثلها المجتمع الاسلامي والتاريخ الاسلامي.. الخ. فهذه المعاني تنسب الموصوف الى البشر والفضاء الاجتماعي وليس المنظومة النظرية للدين. 
تمثال ابن رشد في قرطبة - اسبانيا
الفارق بين المعاني الأربعة يكمن في طبيعة الوصف وما يترتب عليه من قيمة. واضح ان المعنى الأول يشير الى قيمة ذاتية لاتصاله عضويا بالدين. بينما يحمل الثاني والثالث قيمة مدعاة من قبل اصحابه ، ولذا فهو مشروط بمدى تحقيق تلك الافعال للأغراض المضافة الى المعنى الاول وليست جزء منه. اما المعنى الرابع فهو الأكثر شيوعا ، وهو – كما سلف – مجرد وصف اجرائي لا يحمل قيمة محددة.
واضح عندي قول بعض القائلين بأن الدين شامل ، لانه يتدخل في كل شيء من خلال توجيهه لسلوك البشر. وهذا يغطي كافة مناحي الحياة دون استثناء. لكن هذه مغالطة واضحة. فالسلوكيات الفاضلة مثلا ، لا تعد أفعالا دينية ولا تتطلب معرفة بالدين ولا نية التقرب الى الله. لأن الاخلاقيات تنتمي لمنظومة القيم العليا السابقة للدين ، والتي أجمع عليها عقلاء البشر في كل الازمنة والأمصار. وقد أطلق عليها الاصوليون المسلمون اسم "المستقلات العقلية" الذي يشير الى مصدرها البشري.
ليس من العسير ان تجد انواعا من الصفات والسلوكيات الفاضلة عند الملحدين الذين لا يؤمنون بأي دين. صفات مثل الصدق في المعاملة والاخلاص في العمل والتضحية بالمال والجهد لاعانة الضعفاء. ومثله طلب العلم والانفاق عليه وعمارة الارض وصيانة البيئة الكونية. فهذه كلها من الفضائل التي يأمر بها العقل منفردا. ويؤيدها الدين من باب تكميل مكارم الاخلاق ، لا من باب تأسيسها.
المؤكد ان الدعوة الى تمييز "داخل الدين" عن "خارج الدين" لا تخلو من لمسة علمانية. لكن غرضها ليس اقصاء الدين عن الحياة ، بل تصحيح العلاقة بين الشرع والعقل ، او الحكمة والشريعة ، بحسب تعبير الفيلسوف ابن رشد. تصحيح هذه العلاقة ضروري لتعزيز فاعلية الدين في مجاله ، وتخفيف ما أثقله من كلف الافعال التي تقع خارجا عنه ، لا سيما كلف النزاعات الأهلية وتأزمات الهوية. وهو ضروري لتحرير عقل المسلم من قلق الهوية والحدود ، الذي نعتقد انه ساهم في ابعاد المسلمين عن ثورة العلم والتكنولوجيا التي صنعت حضارة هذا العصر.
الشرق الاوسط 15 مارس 2017

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...