اواخر 1989 تحدث الداعية المعروف د.
عايض القرني عن رحلته الى الولايات المتحدة ، فوصفها بانها "مجتمع خبيث ، فيه
المجرمون ، فيه السكارى ، فيه أهل الدعارة ، فيه الزنوج الذين تغلي قلوبهم ، فيه
فرق مبتدعة ، فيه أهل الغارات ، فيه أهل الأحقاد ، فأنت تتوقع كل يوم متى يعتدى
عليك".
بعد عقدين ، في فبراير 2008 ،
كتب عن رحلته الى فرنسا ، فقدم انطباعا مغايرا عن الغرب: "أقمت في باريس
أراجع الأطباء وأدخل المكتبات وأشاهد الناس وأنظر إلى تعاملهم ، فأجد رقة الحضارة وتهذيب
الطباع ، ولطف المشاعر وحفاوة اللقاء ، حسن التأدب مع الآخر ، أصوات هادئة ، حياة
منظمة ، التزام بالمواعيد ، ترتيب في شؤون الحياة. أما نحن العرب فقد سبقني ابن
خلدون لوصفنا بالتوحش والغلظة".
كلا الحديثين يجيب على سؤال افتراضي
واحد: "ما هي حقيقة الغرب". لكن السنوات العشرين الفاصلة بين النصين تشهد
على تحول جوهري في هموم المتحدث أو ظرف السؤال ، أو تطلعات المتلقين. هذا مايسميه
الفيلسوف المعاصر غادامر بالافق التاريخي للفكرة. يتكرر السؤال على امتداد الزمن.
لكنه في كل حقبة يحكي حاجة مختلفة ، ويطلب إجابة مختلفة.
مضمون السؤال في 1989 انصرف في ذهن
المتحدث الى اشكالية الهوية. فهو لم يفهم كطلب لوصف واقع الغرب ، بل تحديد قيمته
مقابل قيمتنا. اي ان سؤال "ما هي حقيقة الغرب" تحول الى "من
نحن". فأجاب عليه بوصف متقابل محوره التهوين من قيمة الغرب ومدنيته. اختيار هذا
المنحى بالخصوص مرجعه أن التعريف بهوية المسلم خلال "مرحلة الصحوة" انصرف الى تعريف الضد وليس تعريف الذات. سؤال
"من نحن" في تلك الأيام ، جوابه "نحن نقيض اولئك". وهذا ما
يجري عادة في ظروف الصراع ، سواء كان حقيقيا او متوهما. وصف الآخر في ظرف الصراع
يلعب دورين متوازيين: التأكيد على الموقع الحركي للذات ، وتحديد مبررات المفارقة.
النص الثاني الذي جاء بعد عقدين يجيب على السؤال نفسه "ماهي حقيقة الغرب". لكن ظرفه مختلف. مرحلة الصحوة
انتهت ، المتحدث انتقل الى طبقة اجتماعية أعلى ، وهموم الناس تحولت الى اكتشاف الغرب وليس
مصارعته. لذا غلب على الحديث الطابع التصالحي ، الذي تضمن ايضا تعريفا بفضائل
الغرب ونقد الذات. الواضح اذن انه ليس مهموما بمسألة الهوية او الصراع مع الغرب ،
بل التواصل معه.
كلا الحديثين وضع في قالب ديني ودعم
بنصوص دينية. فهل يمكن اعتبارهما "جواب الدين" ، وهل يمكن اعتبار السؤال
الضمني السابق لهما سؤالا دينيا؟.
نظريا ، يصنف الفقه التقليدي العلاقة
بين الناس كموضوع ديني. ويحدد المسافة بينهم تبعا للفارق بين نوعية ومستوى التدين
عند هؤلاء وأولئك. اما في الممارسة الواقعية فان غالبية رجال الدين ، التقليديين
وغيرهم ، يتبعون منهجا عقليا بحتا يركز على المصلحة المنظورة في العلاقة. عدو
الامس قد يتحول اليوم الى صديق ، أو العكس. وفي التاريخ القديم والمعاصر شواهد
لاتحصى على هذا المنهج.
اذا صح هذا التحليل ، فان السؤال
التالي سيتناول الهوية وما يترتب عليها من علاقة مع المختلفين ، اي سؤال "من أنا"
و "كيف اتعامل مع المختلف". ترى هل سنجيب عليه بالتعريف الفقهي الموروث
، أم سنجيب عليه وفقا للمصلحة العقلائية القائمة؟. وهل نصنف التشخيص العقلي
للمصلحة كعنصر من داخل الدين ام خارجه؟.
الشرق الاوسط 22 مارس 2017
http://aawsat.com/node/883501
مقالات ذات علاقة