في الاسابيع
الماضية انتقد عدد من الكتاب توسع بعض اهل الفقه في اصدار فتاوى التحريم ، ووجدوا
انهم لا يستندون الى أدلة متينة بل الى اعادة تفسير لتلك الادلة او اغراق في
السماح بتسلسل الحكم الى موضوعات تتجاوز – واحيانا تختلف ذاتيا وعلائقيا – عن
موضوع الحكم الاول . وقد وجدت ان كثيرا من تلك الفتاوى تستند الى قاعدة ثانوية من
القواعد المعمول بها في اصول الفقه هي قاعدة "سد الذرائع" . والمقصود
بسد الذرائع هو منع الافعال التي يظن ان الاخذ بها مؤد في الغالب الى الفساد حتى
لو لم يكن الفعل بذاته ممنوعا في الشريعة . وعلى هذا الاساس صدرت الفتوى في سياقة
المرأة للسيارة وكثير من الفتاوى المماثلة.
في قديم الايام كان خطيب المنبر
يعلمنا قولا من المأثورات "اذا حسن الزمان فظن بالناس خيرا واذا فسد الزمان
فظن بهم شرا" وكانت الاشارة الى ان الزمان يتجه الى الفساد . وكبر الولد
الصغير وتحولت محفوظاته الى اسئلة: متى يحسن الزمان ومتى يفسد؟ ، وما هي حدود
الفساد وما هي حدود الظن؟. حين شب الولد ودرس اصول الفقه ، تعلم ان من القواعد
الراسخة في منهج الاجتهاد هي قاعدة "بناء العقلاء" ، وهو ما يساوي في
لغة اليوم الرجوع الى العرف العام باعتباره توافقا ضمنيا بين العقلاء ، وقاعدة
"حمل عمل المسلم على الصحة" وهي تساوي اعتبار قصد الاحسان في عمل الغير
حتى لو لم تعرف دوافعه . ثم تقادمت الايام فتعلم الولد التفريق بين الصور الذهنية
عن الاشياء والحقيقة الواقعية لتلك الاشياء ، وفي التطبيق وجد ان الصورة الذهنية
لعامة الناس في الادب المدرسي هي اعادة انتاج للفكر اليوناني القديم.
طبقا لراي افلاطون فان الانسان لو
ترك وشانه لكان اميل الى الفساد منه الى الصلاح ، وان اجتماع الناس بذاته مولد
للفساد ، ولهذا فانه نظر الى السلطة باعتبارها اداة ردع للفساد في المقام الاول .
وقد تأثر بهذا الاتجاه معظم العلماء المؤسسين للتراث الاسلامي الذين حفظ الزمان
نتاجاتهم ، ولا سيما علماء القرن العاشر الميلادي ، وتاثر بها الطوسي والغزالي
والماوردي وابن سينا وغيرهم . وانتقل منهم الينا عبر قراء التراث المعاصرين.
والحقيقة انه قد اثر ايضا على مساحة واسعة من الفكر الاوربي فانتج ما يعرف اليوم
بالتيار المحافظ الذي تجده في السياسة والفلسفة والسوق وفي كل مجال.
من ابرز سمات التيار المحافظ السياسي
هو تعظيمه من شأن النخبة وتهوينه من شأن عامة الناس وتركيزه على فكرة الردع
باعتبارها مضمونا بارزا للسلطة . فكرة الحاكم المطلق التي دعا اليها المفكر
المعروف توماس هوبز هي نتاج للوهم الانثروبولوجي الذي اسماه بمجتمع الحالة
الطبيعية الذي يتقاتل فيه الافراد على المصالح والرغبات حتى يصل الى حالة الحرب الاهلية
بين الافراد. الصورة التي يقدمها هوبز لمجتمع الانسان ، هي ذاتها التي عول عليها
افلاطون ومن تاثر به .
التساهل في التحريم والميل الى
اساليب الردع قد يكون ثمرة لتلك الخلفية الثقافية التي تنظر الى الناس كمادة
للفساد ، ولا سيما في الازمان الفاسدة . والمشكلة انه لا توجد اي وسيلة معيارية
لقياس ما يوصف بالفساد او الصلاح ، كما ان السائرين على منهج التجريم لا يظهرون
عناية كبيرة بالقواعد الاصولية الراسخة ، مثل "حمل عمل المسلم على
الصحة" و"بناء العقلاء" وما يماثلها من الامارات المعتبرة من قبيل
الرجوع الى العرف العام في تقرير المصالح والمفاسد. وفي ظني ان المدارس الدينية هي
الان اكثر ميلا الى اعتبار الزمان الحاضر زمان فساد ، ويرجح عندي ان هذا التصور هو
احد انعكاسات ما يسميه الاجتماعيون المعاصرون بالصدمة الثفافية التي نجمت عن
الانفتاح على المدنية الغربية ، وما اثمر عنه ذلك من تفكيك واسع لبنى المجتمع
التقليدي ، الثقافية والاقتصادية والعلائقية ، الامر الذي ادى الى انهيار منظومات
القيم ومعايير السلوك المتعارفة في المجتمع القديم او انكماشها الى نطاقات ضيقة
تنكمش بالتدريج.
ضمن هذا الاطار الموسع نسبيا ، فاننا
نفهم الميل الى تجريم العامة والتساهل في تحريم الافعال ، باعتباره نوعا من الرفض
الذهني للتغيير القسري في الحياة الاجتماعية . وهو رفض يقف عند حدود التمرد على
هذا الواقع لكنه لا يقدم بديلا افضل منه ، ولهذا فانه سرعان ما يتلاشى ويصبح مجرد
خبر . هذا هو المصير الذي آلت اليه
محاولات مماثلة في اوقات سابقة ، مثل تحريم تعليم البنات ، وتحريم بعض العلوم مثل
الجغرافيا واللغات الاجنبية ، وتحريم العمل في بعض القطاعات مثل البنوك والجمارك ،
وتحريم السفر الى بلاد الاجانب ، ووو.. الخ
يناير 2005