28/02/2006

في انتظار الفتنة


آية الله السيستاني
في الاسبوع الماضي ، كان العراق على وشك الانزلاق الى مذبحة ، لولا المبادرة السريعة لزعمائه وعقلانية الاكثرية الساحقة من جمهوره . التطورات التي اعقبت التفجير الاثم لمرقد الامامين العسكري والهادي في سامراء كشفت عن ظواهر جديدة تخالف ما قيل سابقا. 
من ذلك مثلا ان "تيار الصدر" الذي كان يعتبر فوضويا ومتطرفا ، اظهر انضباطا متينا وحرصا استثنائيا على منع الفتنة ، وادى دورا بارزا في الحيلولة دون تعرض مساجد الشيعة والسنة في بغداد لاعمال انتقام . في المقابل فان "هيئة علماء المسلمين" لعبت على وتر الاثارة الطائفية وحاولت استغلال التوتر لتصفية حسابات صغيرة ، بدل الانخراط في جهود التهدئة وتطييب الخواطر ، كما هو المتوقع منها . 
مثل كل المصائب فقد انطوت تلك الحادثة على عبر تستحق المطالعة والتامل . واولها خطورة العبث بالمشاعر الدينية للجمهور . بالنسبة لنا في الخليج فان هذه المسألة تنطوي على حساسية خاصة ، اذ يشكل الخليج اكثر المجتمعات العربية استهلاكا لمواد الاثارة الدينية والمذهبية واكثرها انسا بالجدالات التاريخية والعقيدية العقيمة ، التي لم نكسب من ورائها حتى اليوم سوى المزيد من الفرقة والتباغض وتعطيل الاصلاح السياسي  المنشود وبالتالي اطالة عمر الاستبداد ومعه التخلف . في كل بلد من بلدان الخليج هناك اشخاص يعيشون على تجارة الفرقة والاحتراب المذهبي ، حرفتهم الوحيدة هي البحث عن نص هنا او حادثة تاريخية هناك ، او عيب حقيقي او مفتعل ، وتغليفها في عبوة دينية ثم توزيعها على الغافلين من الناس باعتبارها حقيقة الدين وجوهر ما يسأل المؤمن عنه في يوم الحساب .
اتمنى ان يقرأ هؤلاء ما حدث في العراق باعتباره احتمالا قائما في كل مجتمع آخر . العبث بالمشاعر الدينية والرموز الدينية واهانتها ، قد يطلق تيارا من الغضب يستحيل ضبطه ، وعندئذ فان الخسارة لن تقتصر على الغير ، بل تنال ايضا اولئك الذين لعبوا على وتر الاثارة الدينية والمذهبية عن قصد ومعرفة بالعواقب او عن جهل وانسياق وراء العصبية او عن رغبة في الاستثمار المؤقت كما يفعل المضاربون في سوق الاسهم .
ويتعلق الدرس الثاني بعوامل تامين المجتمع من الانزلاق في تيار الفتنة .  واشير خصوصا الى عاملين : اولهما دور الحكومة والثاني دور الاحزاب والقوى الاهلية . كي تكون الحكومة عامل تامين ضد الفتنة ، ولا سيما الفتن المنبعثة من نزاعات دينية او مذهبية ، فان عليها ان تتعالى على هذا النوع من المجادلات وان لا تكون باشخاصها او مؤسساتها او سياساتها طرفا في الجدال او داعما لاي طرف فيه . لا يتعلق الامر هنا بحق او باطل ، بل يتعلق بالسلم الاهلي واستقرار البلاد . لو اعتقد فلان من رجال الدولة بان مذهبه هو الحق وان مذهب الاخرين باطل ، فلا يجوز له ان يتخذ موقفا على هذا الاساس ، واذا كان يرى ان واجبه الديني يقتضى منه اتخاذ موقف من هذا النوع فعليه ان يتخلى اولا عن مسؤولياته في جهاز الدولة .
الدولة ليست هيئة دينية ولا دورها هو الدفاع عن فريق من المجتمع ضد آخر . بل ادارة المجتمع على نحو يبقي المصالح المتعارضة والافكار المختلفة ضمن حدود الامان ويمنع تحولها الى نزاعات مادية تهدد النظام العام . ان أسوأ الخيارات هو دخول الدولة بذاتها او من خلال بعض افرادها او مؤسساتها طرفا في النزاعات الدينية والمذهبية ، لانه يؤدي مباشرة الى تقسيم المجتمع والقضاء على ما نسميه بالارادة العامة التي تشكل جوهر الوحدة وضمان الاستقرار. وفي هذا الصدد فان على الدولة ان تكون مستعدة للعض على اصابعها احيانا او معاقبة بعض انصارها او الوقوف الى جانب معارضيها كي تحمي السلم الاهلي .
 العامل الثاني لتامين المجتمع من الانزلاق الى الفتنة هو القوى الاجتماعية القادرة على التفاهم مع بعضها ومع الدولة . وقد اشرت سلفا الى الدور الهام الذي لعبه تيار الصدر ، واشير هنا الى دور مماثل في الاهمية لمجلس عشائر الرمادي غرب العراق وبطبيعة الحال دور اية الله العظمي السيستاني . في الحقيقة فان معظم الاحزاب والمجموعات المنظمة والقوى الفاعلة العراقية لعبت في الاسبوع المنصرم دورا ايجابيا ومؤثرا . وهذا يشير الى اهمية دور المنظمات والاحزاب و – بشكل عام – قوى المجتمع المدني . لا شك ان اخطر الظروف هو الظرف الذي ينطلق فيه الغوغاء ، اي الجمهور غير المنظم ، الذي لا يعرف حدودا ولا يحترم قيودا . وفي حالة كهذه فان السياسة تتحول الى ردود فعل متعاكسة ومتواصلة ، ويتحول العنف والانتقام الى سلوك اعتيادي ، ويفلت الزمام من ايدي العقلاء وتصبح الريبة والاتهام والخوف والرغبة في الثار هي القائد . 
وعلى العكس من ذلك فان وجود قوى كبيرة ومؤثرة ، يقودها اشخاص عقلاء ، قادرون على التفاهم والمساومة مع منافسيهم ، وقادرون في الوقت نفسه على اقناع جمهورهم ، هو السبيل الوحيد لحصر النزاعات ضمن حدود مقبولة ، والحيلولة دون استغلال الحوادث المؤلمة في تفجير النظام العام . 
لا يخلو مجتمع من عدد من الافراد او القوى الصغيرة التي تتسم بالسلبية  او الجهل ، او الانتهازية ، وهي قد لا تتورع عن دفع المجتمع الى الفتنة ، عن قصد او جهالة . تتوسع هذه القوى كلما ضيقت الدولة الخناق على القوى العاقلة التي هي ضمير المجتمع ، وتنحسر كلما نجح العقلاء في تحقيق اماني جمهورهم . ربما يظن بعض الحاكمين ان وجود قوى كبيرة هو امر مزعج ، ولعله يضعف من سلطانهم . لكن عليهم ان يفهموا بان البديل الحتمي عن القوى العاقلة هو القوى السلبية . الاختيار بين الاثنين هو اختيار بين استقرار طويل الامد وبين فتنة في الانتظار.

الايام 28 فبراير 2006

07/02/2006

سلاح الجبنة وسلاح الحليب



 القرار العفوي الذي توافق عليه الشارع المسلم بمقاطعة المنتجات الدانمركية هو موقف سياسي حضاري يؤكد مرة اخرى على ان الراي العام يمكن ان يغير المعادلات . والمؤكد ان كثيرا من الناس قد اكتشف اليوم ان التوقف عن استهلاك منتجات تلك البلاد لن يوقعنا في مجاعة ولن يعطل حياتنا ، فثمة على الدوام بدائل ، كما ان اقوى سلاح بيد الانسان هو قدرته على الاستغناء عما يشتهي .

بعد ايام او اسابيع سوف تنحدر موجة الغضب ويعود الناس الى حياتهم المعتادة ، وتلك طبيعة الحياة . ولهذا فقد يكون من المهم التامل في العبر التي يمكن استفادتها من تلك الحادثة ، ولا سيما ذلك النوع من الدروس التي لها اثر دائم وكبير في حياة الناس . واريد التذكير هنا بما جرى في مطلع هذا العقد حين قرر كثير من المسلمين مقاطعة المنتجات الامريكية ردا على انحيازها الاعمى للعدوان الاسرائيلي . المهم في تلك التجربة ان معظمنا قد اكتشف وجود بدائل عن تلك المنتجات في العالم الاسلامي . فيما يخص دول الخليج مثلا فقد ادت تلك المناسبة الى تبدل وجهات السياحة من الولايات المتحدة واوربا الى ماليزيا واقطار الشرق الاسيوي اضافة الى الدول العربية ، كما ادت بطبيعة الحال الى مضاعفة الاقبال على منتجات هذه الدول كبدائل عن المنتجات الامريكية والاوربية .

بغض النظر عن المجادلات الفنية والسياسية والثقافية حول قدرتنا على الاستغناء الكامل عن منتجات الدول الغربية ، وحول فائدة موقف مثل هذا. اقول بغض النظر عن هذا ، فان الامر الذي يستحق الاهتمام هنا هو استثمار هذه المناسبة لتشكيل موقف شعبي داعم للاهداف المباشرة والفورية للمجتمعات المسلمة نفسها واشير خصوصا الى هدف النمو الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة .

لا يزال من المبكر تقديم ارقام دقيقة عن الخسائر التي سوف تتحملها الشركات الدانمركية بسبب المقاطعة ، فثمة تقديرات توصل الرقم الى مئة مليون دولار خلال هذا العام ، بينما تضعها تقديرات اخرى في حدود الاربعين مليونا ، وكلا التقديرين لا يمكن الاعتماد عليه ، لاننا  لا نعرف على وجه الدقة المدى الزمني الذي سوف تستغرقه المقاطعة ونوعية المنتجات التي ستكون هدفا لها . لكن اذا اردنا ان تكون هذه عملية كاملة ومفيدة ، فان علينا استثمار الفرصة التي اتاحتها هذه النهضة الشعبية بالدعوة الى استبدال المنتجات الغربية بمنتجات الدول النامية والدول الاسلامية  حيثما كان ذلك ممكنا .
بالنسبة للدانمرك مثلا فان الاغذية تمثل الجزء الاكثر ظهورا من صادراتها الى الاسواق العربية ، ولا شك ان في الامكان استبدالها بالاغذية التي تنتجها المجتمعات المسلمة نفسها . بكلمة اخرى : فبدلا من شراء الحليب الدانمركي او الجبنة الدانمركية ، دعونا نجرب الحليب السعودي او الجبنة السورية .

تمثل المواد الغذائية والاثاث والاجهزة غير المعمرة الجزء الاكبر من استهلاكنا الاعتيادي ، ومعظم هذه المواد تنتج محليا او في دول اسلامية او دول صديقة ، وما نحتاجه فقط هو التفاتة الى مصدر تلك المواد قبل شرائها . ان مبادرات بسيطة مثل هذه يمكن ان تحدث تغييرا كبيرا . وكمثل على ذلك فلو ان الاربعين مليون دولار التي ننفقها على المنتجات الدانمركية تحولت الى شراء المنتجات السورية ، فانها ستوفر اربعة الاف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة في الريف السوري ، ونعلم ان كل فرصة عمل جديدة تنقذ عائلة كاملة من الفقر .

يمكن للناس العاديين ان يساعدوا بعضهم ، ويمكن لهم ان يوجدوا تغييرا جديا ، ولا شك ان مبادرات من هذا النوع يمكن ان تكون مؤثرة وفعالة . وقد جربناها في اوائل هذا العقد واثمرت عن نمو كبير للصناعات المحلية من جهة وللعلاقات الاقتصادية بين الدول الاسلامية من جهة اخرى ، كما جربها الامريكيون في اوائل الثمانينات حين اوشكت صناعة السيارات الامريكية ان تنهار تحت ضغط الواردات اليابانية . وجربها الايرانيون في مواجهة الحصار الاقتصادي في الثمانينات واثمرت عن تطور هائل في صناعاتهم ، بما فيها الصناعات الثقيلة .

لنقل ان كل دولار ننفقه يمكن ان يوفر حياة افضل لمسلم واحد على الاقل في دولة اسلامية ما ، فلنجعل من حياتنا العادية وسيلة للاحسان والتكافل ، وعندئذ فسوف نكون اوفياء لاهدافنا وعرضة لعون الله ولطفه ، وكما ورد في الاثر فان الله في عون العبد مادام  العبد في عون اخيه .

الايام – الاسبوع الاول من فبراير 2006

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...