05/12/2018

صورتان عن الانسان والقانون


||هل يميل غالبية الناس عادة للعيش بسلام ويهتمون بصلاح حالهم ومن حولهم، ام يفضلون العيش في نزاع ويفسدون دنياهم حيثما غاب الرقيب؟||

لعل بعض القراء قد لاحظ معي مبادرة بعض الدوائر الرسمية ، بنشر أجزاء من انظمتها او لوائحها في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي. وهو عمل طيب ، يساعد في توعية الناس بالقانون ، وجوده وحدوده. لكن لفت انتباهي التركيز - العفوي غالبا - على الحدود والعقوبات ، دون الحقوق التي يبتغي النظام اقرارها ، والمصالح التي يريد حمايتها.

وقد ذكرني هذا بمناقشات سابقة ، حول مفهوم القانون والفلسفة التي يبنى على أرضيتها ، والخلفية الذهنية لواضعيه. استطيع القول بشكل مجمل ان وضع القانون (ومن بعده اللوائح التنفيذية التي تحكم تطبيقاته) يتأثر بالخلفية الذهنية والتجربة الثقافية لواضعيه ، فيأتي على احدى صورتين: أ) قانون يركز على "بيان" حقوق المواطنين وكيفية الوصول اليها. ب) قانون يركز على "حدود" المسموح للمواطنين والعقوبات التي ستطبق على المخالفين.

نعلم طبعا ان القانون لا يكتمل ما لم يشتمل على الجانبين. لكن بدا لي ان القانون في البلاد العربية ، يميل بشكل عام الى التقييد وبيان الواجبات دون الحقوق. أو لعله يركز على القيود والواجبات بدرجة أكبر من الحقوق. ويظهر أيضا ان هذا المنحى هو المفهوم والمتعارف بين عامة الناس. فتراهم يذكرون في غالب احاديثهم العقوبات والقيود ، ويغفلون الجانب الآخر. ولعل مقصودهم هو تنبيه اصدقائهم كي لا يقعوا في المحظور.

 احتمل ان التركيز على الواجبات والعقوبات ، مرجعه ذهنية متشائمة تجاه طبيعة الانسان وميوله الفطرية. وأذكر عبارة لمفكر مشهور فحواها ان أي نظرية في السياسة ، هي - بالضرورة - نظرية حول طبيعة الانسان. وأرى ان الصحيح هو القول بأن كل نظرية في السياسة (وفي القانون) مرجعها رؤية مسبقة عن طبيعة الانسان.

 ثمة من يعتقد ان الانسان بطبعه ميال للفساد ، والتملص من السلوك الاخلاقي الذي يمليه العقل السليم. وثمة من يرى المسألة على النقيض. فالانسان عنده ميال للخير والالتزام بالاخلاقيات التي يقبلها العرف أو يدعو اليها. وكلا الفريقين لا ينكر وجود استثناءات ، لكنه يقرر الحالة العامة الغالبة في المجتمع الانساني.

وكان الاتجاه العام في ثقافة العالم ، يميل للرؤية الاولى المتشائمة ، حتى أوائل القرن الثامن عشر ، حين مال مفكرو التنوير الاوروبي ، للتخلي عن تراث الفلسفة اليونانية والتعاليم الكاثوليكية. فمالت الكفة لصالح الرؤية الثانية ، التي تنظر للانسان ككائن عاقل وميال الى الخيارات الاخلاقية ، في حياته وتعاملاته مع الغير. أما الثقافة العربية والاسلامية ، فهي لازالت متأثرة بانعكاسات الرؤية القديمة. وهذا واضح في التوجيه الديني ، وفي الدراسات الفقهية ، كما في القانون والسياسة.

لا يتسع المجال هنا للمقارنة بين الرؤيتين. واظن ان كلاهما سيجد من يميل اليه. لكني سأكتفي بوضع سؤالين يوضحان المقصود. السؤال الأول حول المخاطبين بالقانون. حيث نعلم انه يطبق على كافة الناس. فهل الغالبية العظمى من الناس يميلون – عادة – الى العيش بسلام ويهتمون بصلاح حالهم ورفاه من حولهم ، ام – على العكس – يميلون الى العيش في نزاع وصراع ويفسدون دنياهم حيثما غاب الرقيب؟. السؤال الثاني: هل يميل غالبية الناس الى الالتزام بالقانون اذا وجدوا فيه عونا لهم على نيل حقوقهم وتسهيل حياتهم ، ام انهم سيذهبون – رغم ذلك – الى الطرق الصعبة التي تنتهي للاضرار بهم او بالآخرين.

اظن ان السؤالين يوضحان العلاقة بين تصورنا عن طبيعة الانسان ، وانعكاسه على فكرة القانون واغراضه. وفي هذا ما يكفي عن كثير البيان.



الشرق الاوسط الأربعاء - 27 شهر ربيع الأول 1440 هـ - 05 ديسمبر 2018 مـ رقم العدد [14617]

28/11/2018

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا



فكرة تعريب العلوم وتعليمها باللغة العربية تنطوي على العديد من الجوانب الاشكالية. وقد اطلعت الاسبوع المنصرم على مداخلات حول الفكرة ، تستدعي تفصيح النقاش. وابدأ هنا بتحديد جوهر الموضوع ، اي حاجتنا لتوطين العلم وما يترتب عليه من تقنيات ، من اجل تطوير اقتصادنا الوطني والارتقاء بمستوى المعيشة وتوفير الوظائف.
يتفق المختصون على ان المعرفة (اي النظريات والتقنيات التي تبنى على اساسها المنتجات المادية وغير المادية) تساهم بحصة مؤثرة في تشكيل كلفة وارداتنا. في العام 2015  بلغت واردات المملكة من السلع والخدمات ، المصنفة تحت عنوان "تقنية المعلومات" نحو  43 مليار ريال. والمقدر انها زادت خلال العامين التاليين بنسبة 15 بالمائة. ونعلم ان المعرفة البحتة (غير المادية) تشكل 60-75 بالمائة من هذه القيمة.
هذا مجال واحد فقط. وثمة مجالات كثيرة أخرى ، تسهم المعرفة بنصيب مماثل في تكوين كلفتها النهائية. خذ مثلا كلف التعليم والتدريب في الخارج ، وكذلك الخدمات الاستشارية. فهذه وأمثالها تستنزف قدرا معتبرا من ثروة البلد. عشرات المليارات التي تذهب للخارج كقيمة للواردات ، تأخذ معها أيضا آلاف الفرص الوظيفية ، وفرص تكوين الثروات الفردية والعامة على المستوى الوطني. فماذا لو كانت تلك التقنيات ، او بعضها ، ينتج محليا؟.
لعل بعض القراء مطلع على مبررات المشككين في امكانات النهوض بالصناعة في العالم العربي ، لا سيما كلفة الايدي العاملة وقلة الخبرات المتخصصة. ولعل ابسط رد على هذا هو مقارنة الكلف المماثلة في اليابان واوربا الغربية ، وهي اضعاف كلفة العمل عندنا. لكن ما يميز تلك البلاد هو امتلاكها لتقنيات التصنيع والانتاج.
الوصول الى مستوى تلك البلدان او قريبا منه ، رهن بسلوكنا للطريق الوحيد الذي يعرفه كل المختصين ، وهو "توطين التقنية". توطين التقنية شيء مختلف عن شرائها او استقدام ذوي الخبرة فيها. انه يعني على وجه الدقة جعل العلم والتقنية شيئا متناغما مع الثقافة المحلية ، ومألوفا في المجتمع المحلي ، بحيث تجد المئات من الناس القادرين على القيام بالاعمال التي تنطوي على جوانب ابتكار تقني او علمي. 
دعنا نفترض ان شركة اعلنت عن حاجتها لاشخاص يصممون جهاز روبوت ، او يبنون خط انتاج لدواء معين. ترى كم عدد الاشخاص الذين سيتقدمون لهذه الوظيفة؟ خمسة ، عشرة ، عشرين شخصا؟. ماذا لو اعلنت الشركة عن نفس الوظيفة في ايطاليا او بولندا او ليتوانيا؟ كم مؤهلا سيعرض خدماته؟. ربما مئات.
الفارق بين مجتمعنا وتلك المجتمعات ، هو الفارق بين مجتمع تعامل مع التقنية كموضوع للبحث والانتاج ، ومجتمع اعتاد استهلاك منتجات التقنية فحسب. هذا احد الاسباب التي جعلت العالم العربي مستوردا صرفا للتقنية وليس شريكا في تطويرها على المستوى العالمي.
لا اظن احدا يماري في ان توطين العلم والتقنية رهن باندماجها في النسيج الثقافي المحلي. ولا اظن احدا يشك في حقيقة ان اللغة العربية ، بما فيها من تعبيرات ورموز ومعان ، تشكل جزء من ذهنية الانسان العربي ، وهي – من هذه الزاوية - اداة تفكير ، او جزء من عملية التفكير في العالم العربي.
لعل عددا قليلا من الذين درسوا بلغة اجنبية ، يفكرون ايضا بهذه اللغة. فماذا عن الغالبية الساحقة من العرب؟.
ان تعريب العلم ، ولا سيما تعليم العلوم باللغة العربية ، ضرورة ، ليس لضمان وظيفة اليوم ، بل من اجل الارتقاء بالاقتصاد والمعيشة على المدى الطويل.

الشرق الاوسط الأربعاء - 20 شهر ربيع الأول 1440 هـ - 28 نوفمبر 2018 مـ رقم العدد [14610]

21/11/2018

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

|| تعزيز العلم في اي بلد ، يتوقف الى حد كبير على كون الثقافة العامة منفتحة على العلم. ونعلم ان هذا مستحيل مالم تكن لغة الثقافة ولغة العلم واحدة ||


أعلم ان الباحثين عن وظائف في هذه الايام ، معظمهم على الاقل ، سيواجهون ابوابا مغلقة ، ان لم يكونوا ممن يجيد اللغة الانكليزية. وأعلم ان الذين يجهلون هذه اللغة ، يعانون عسرا دائما في أسفارهم ، بل وحتى في بعض تعاملاتهم المحلية.
أعلم أيضا اننا نحتاج لمعرفة اللغات الاجنبية ، كي نتعامل مع التقنيات التي تعيد صياغة حياتنا ومعيشتنا ، والا تخلفنا عن قطار العصر.
ابدأ بهذه المقدمة ، كي لا تذهب الظنون ببعض القراء الى الابراج العاجية ، التي يظنون كتابهم منعزلين بين جدرانها.
خلاصة ما تزعمه هذه المقالة ، هو ان البلدان العربية بحاجة لتعليم العلوم باللغة العربية ، كي ترسي الأساس الضروري لما نسميه البيئة المنتجة للعلم. وكنت قد ركزت في الاسابيع الماضية على البيئة المحفزة للابتكار ، والحاجة لتهيئة الظروف المناسبة ، لتمكين الاذكياء والمبدعين من التعبير عن انفسهم وقابلياتهم. أما مقال اليوم فيزعم ان البيئة الاجتماعية المساعدة في انتاج العلم ، هي تلك التي ينتشر فيها العلم بين عامة الناس ولايقتصر على النخبة. اي حين ينسجم العلم مع الثقافة العامة ويتفاعل.

كي لا أسهب في الانشاء ، سوف انقل باختصار تجربتين ، ذكرتا في كتاب "اللغة والتعليم" الذي شارك فيه عدة باحثين ، وحرره د. قاسم شعبان ، وهو عميد سابق ورئيس لقسم اللغة الانكليزية بجامعة بيروت الامريكية.
تدور التجربة الاولى حول سؤال: هل سيكون تحصيل الطلاب اقل مستوى لو تعلموا العلوم بلغتهم؟
في هذه الدراسة قام ثلاثة باحثين ، بمقارنة استيعاب الطلبة لمفاهيم علمية تتعلق بطبيعة المادة. فوجهوا اسئلة متماثلة لمجموعتين كبيرتين من طلبة المدارس الثانوية الاسترااليين والهنود. وطلبوا منهم الاجابة عن الاسئلة ، كلا بلغته الأم. وقد اظهرت نتيجة الاختبار عدم وجود فارق يذكر بين تحصيل المجموعتين ، وهو الامر الذي اعتبره الباحثون الثلاثة دليلا ، على ان اللغة لا علاقة لها باستيعاب المفاهيم العلمية. وقد نشرت نتائج الدراسة في العدد 22 (1985) من مجلة ابحاث تدريس العلوم.
اما التجربة الثانية فكان غرضها هو التحقق من قدرة الطلبة على اكتشاف العلائق التي تربط بين المفاهيم العلمية المستخدمة في المنهج ، والتي تدرس ضمن موضوعات مختلفة.
شارك في التجربة مجموعتان من طلبة المدارس الثانوية ايضا من ماليزيا وسكوتلندا ، الذين يدرسون مناهج متشابهة في المحتوى ، لكن كل فئة تتعلم بلغتها الأم. وقد اظهرت التجربة ان الطلبة الماليزيين استطاعوا اكتشاف عدد أكبر من العلائق الصحيحة. واستنتج الباحثون تبعا لذلك ، ان استخدام اللغة الانكليزية ، التي تعتبر لغة العلم في عالم اليوم ، لم يعط الطلبة الذين يستخدمونها افضلية علمية على غيرهم.
ووفقا لباحث لبناني هو الاستاذ يعقوب نامق ، فان الطالب اللبناني الذي يتقن اللغة الانكليزية ، يحتاج اربعة اضعاف المجهود اللغوي الذي يبذله زميله الامريكي ، كي يستوعب نفس المادة.
أظن هذا كافيا لايضاح فكرة ان تعزيز العلم في اي بلد ، يتوقف الى حد كبير على كون الثقافة العامة منفتحة على العلم. ونعلم ان هذا مستحيل مالم تكن لغة الثقافة ولغة العلم واحدة. نحن هنا لا نتحدث عن حاجات سوق العمل الحالية ، كما في النقاشات السائدة ، بل عن الحاجة الكبرى لصناعة مستقبل البلد. 
ولهذا نقاش آخر ربما نعود اليه في قادم الايام.
الشرق الاوسط الأربعاء - 13 شهر ربيع الأول 1440 هـ - 21 نوفمبر 2018 مـ رقم العدد [14603]

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...