17/10/2018

بقية من ظلال الماضين

|| هل نفهم التاريخ كسجل لتجربة جرت في الواقع ، ام كصورة ذهنية متخيلة عن الذات السابقة (السلف) التي تشكل مولدا للذات الحاضرة/الخلف ||
زميلي الافغاني كان مندهشا جدا من حديث استاذ الفلسفة عن جده الذي هرب الى استراليا ، بعدما أدين بسرقة عربات البريد. مال الزميل على كتفي وسألني بصوت خافت: هل يعني جده فعلا؟.
كان الاستاذ يقص علينا طرائف من حياة جده ، كما لو انه شخص غريب لا يعرفه. كنت وزميلي الوحيدين في الصف ، الذين اهتموا بالجانب الشخصي في القصة. هذا ما لاحظه الاستاذ أيضا ، فانتهز فرصة الغذاء ، ليخبرنا بانه لا يرى عيبا في بيان ان السارق المشهور هو جده. المسألة  ببساطة ان هذه معلومات مثبتة يعرفها كل قاريء لتاريخ البريد او تاريخ القضاء في بريطانيا.
Edward O. Wilson 
هذه المناقشة القصيرة خلفت انطباعا عميقا في نفسي ، تركز حول رؤيتي للماضي وأهله وما جرى فيه. وكنت قبلئذ أميل لتجاهل التفاصيل البغيضة التي أقرأها أحيانا عن ماضي المسلمين. لكن تلك المناقشة لفتت انتباهي الى دور التاريخ في تشكيل هوية الفرد ، وكيفية تعاملنا معه: هل ننظر اليه كسجل لتجربة جرت في الواقع ، ام هو مجرد صورة ذهنية متخيلة عما جرى فعلا ، اي – في حقيقة الامر – صورة متخيلة عن الذات السابقة (السلف) التي تشكل مولدا للذات الحاضرة (الخلف).
كل امم الارض تهتم بتاريخها. لأن صورة الماضي تضيف عمقا لصورة الحاضر ، او تمثل اداة مقارنة بين حوادث الامس واليوم. لكن يظهر اننا على المستوى العملي ، نتعامل مع التاريخ ، حتى القديم جدا منه ، كما لو أنه الصانع الحقيقي لحاضرنا.
دعنا نضرب مثلا بالجدل المزمن حول اعتبار النسب عنصرا في تشكيل معنى التكافؤ ، او في تحديد قيمة الاشخاص وأدوارهم. فالذين يرونه على هذا النحو ، يتبنون – ضمنيا على الاقل – مبدأ ان حاضر البشر محكوم بما فعله أجدادهم في غابر الزمان. بمعنى ان الانسان ليس سيدا لحياته ولا صانعا لأقداره ، بل بقية مما ترك السابقون ، او مجرد ظل لهم.
للمناسبة فهذا الاعتقاد ليس قصرا على العرب. في العام 1975 نشر عالم الاحياء الامريكي ادوارد ويلسون كتابا بعنوان "البيولوجيا الاجتماعية: التوليفة الجديدة" يدعو لنظرية جديدة ، تجمع مستخلصا من علم الوراثة الذي ينسب الى غريغور مندل ونظرية التطور التي أسسها شارلز داروين.
افترض ويلسون ان بعض الصفات السلوكية للكائن الحي ، ربما ترجع لعوامل جينية ، خلافا للتوافق العام على نسبتها لتأثير البيئة والتربية.
أثار الكتاب جدلا واسعا بين علماء الاجتماع والبيولوجيا على السواء. وحصل بسبب هذا الجدل  على رواج استثنائي. ففي العام 2014 نشرت طبعته الرابعة عشر ، وهو أمر نادر الحدوث في الكتب العلمية.
لا يجزم ويلسون بدور العوامل الجينية في تشكيل هوية الانسان. فالاختبارات المثبتة تتعلق بأنواع محددة من النباتات والحيوانات فقط. لكنه يركز على ان انقراض بعض سلالات البشر القديمة ، وكذا سلالات الحيوان ، يسمح بالنظر الى ذات الاطار التطوري ، اي القابلية للبقاء ، كاساس محتمل لبحث فرضية انتقال الصفات السلوكية بالوراثة.
أشير أيضا الى ان فقهاء المسلمين الذين عارضوا مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة ، اعتمدوا تبريرا مماثلا لفرضية العوامل الجينية. كما استعمله تيار ظهر في الولايات المتحدة واوربا بين 1912-1931 كاساس لدعوته الى تصفية العرق "الوطني الاصيل" من لوثات المهاجرين.
زبدة القول ان الجدل حول تأثير التاريخ ، يدور حول سؤال: هل أنا صانع حياتي وأقداري ، ام أنا مجرد بقية من ظلال اجدادي الماضين؟.
 الشرق الاوسط الأربعاء - 7 صفر 1440 هـ - 17 أكتوبر 2018 مـ رقم العدد [14568]
https://aawsat.com/node/1428701/

10/10/2018

الدين والهوية ، خيار التواصل والافتراق




 اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى ظاهرة واسعة الانتشار ، فحواها ان الناس أميل للانفتاح على المختلفين معهم ، بل  ومشاركتهم ، حين يتعلق الامر بمصالح دنيوية. بعكس العلاقات التي تنطوي على مضمون ديني. وشهدنا في حالات كثيرة ، تفككا للعلاقات الطيبة ، حين ذكر الدين أو المذهب. فتحول الصفاء الى ارتياب والمحبة الى خصام. وفي سنوات سابقة كنت ارى في الاماكن العامة لافتات صغيرة ، تطالب الحضور بتجنب النقاش في أمور الدين والسياسة. كما قرأت نصائح مماثلة في منشورات ارشادية ، تقدمها شركات اوربية لموظفيها العاملين في الشرق الاوسط. ولعل بعض القراء قد رأى هذا أيضا. 
من حيث المبدأ ، لا تنحصر التأزمات المرتبطة بالهوية في الدين أو السياسة. كل هوية متمايزة ، قابلة للتأزم في حالات معينة. بينما تبقى محايدة او عديمة التأثير في حالات أخرى. لا تتمظهر الهوية كعامل نشط ، الا في ظرف التواصل مع الآخرين. ومن هنا فان طبيعة هذا التواصل وهويات المشاركين فيه ، تعمل كمحدد وموجه لدور الهوية ، من حيث القوة او الضعف ، ومن حيث الاتجاه للتوافق او التناقض.
في المجتمع الامريكي مثلا ، تشكل الهوية العرقية عامل التأزم الرئيس. خطوط الانقسام الاجتماعي تدور حول لون البشرة (اسود ، أبيض ، ملون) وبقدر أقل حول الاصول القومية (نوردي ، هيسبانك ، صيني.. الخ). المثال الاخر من الحرب الاهلية في باكستان عام 1971 التي ادت لانفصال قسمها الشرقي وقيام جمهورية بنغلادش.  كانت الهوية القومية محور التأزم بين الطرفين. ولم تلعب الهوية الدينية دورا يذكر. ويقدم العراق المعاصر مثالا عن التأزم المتعدد الابعاد ، فالصراع في المنطقة الشمالية يدور حول الهوية ا لقومية. بينما صراعات الوسط والجنوب محورها الهوية المذهبية.
يقول الناس عادة ان السياسة هي محرك التأزمات جميعا. وهي تستثمر الهوية الدينية في مكان ، والهوية القومية في مكان آخر ، والاقليمية او القبلية او الجندرية في مكان ثالث.. وهكذا.
هذا وصف صحيح ، لكنه لا يصلح تفسيرا للمشكلة. لأن جوهر المشكلة يندرج في أحد سؤالين:
الأول: لماذا تكون بعض الهويات اكثر قابلية للتأزم من غيرها. بمعنى هل تنطوي بعض الهويات على عوامل تأزم ذاتي؟.
الثاني: ماهي الظروف التي تسمح بتحول التنوع في الهوية الى خطوط افتراق. وبالتالي يسهل استثمارها في توليد أو تأجيج التأزمات المرتبطة بعوامل أخرى ، مختلفة عنها؟.
اهمية النقاش في الموضوع ، ترجع الى موقع الدين في النظام الاجتماعي: متى يكون عامل تواصل بين خلق الله ، ومتى يكون مبررا للخصام. بديهي ان كل انسان يود ان يكون الدين محركا للتعارف والتفاهم بين خلق الله. لكن هذا يبقى مجرد أمل ، ما لم نفهم على نحو كامل وعميق ، الاسباب التي تحول دون قيام الدين بهذا الدور.
وهنا يهمني الاشارة الى ضرورة التمييز بين مقاربتين للمسألة: مقاربة تستهدف فهم العوامل التي تجعل الدين عامل جمع او عامل تفريق ، بغض النظر عن راينا في صحة هذا المسار او ذاك. ومقاربة تنطلق من حكم مسبق على النتائج بانها مرغوبة او مرفوضة.
انا ممن يرى امكانية تقديم قراءة للدين تدعم دور التجسير والتواصل. بل أرى ان التواصل جزء من جوهر الايمان. لكني اعلم أيضا ان بعض الناس ، يرى استحالة التدين الحق ، دون حدود واضحة تميزه عن مخالفيه.
الشرق الاوسط الأربعاء - 30 محرم 1440 هـ - 10 أكتوبر 2018 مـ رقم العدد [14561]
https://aawsat.com/node/1421411

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...