10/02/2016

حول الحرية والعنف




انخراط بعض المتطرفين في اعمال العنف ، قد يكون نتيجة لندرة الخيارات التي وجدوها امامهم ، او عدم ادراكهم للخيارات البديلة القابلة للاستثمار
لطالما تصارع السياسيون ودارسو العلوم السياسية حول العلاقة بين الحرية والعنف. يعتقد الدارسون ان المزيد من الحريات الشخصية والمدنية يؤدي لتقليص احتمالات العنف السياسي والاجتماعي. بينما يحتج السياسيون بالأمثلة الواقعية التي تظهر ان التيارات المتطرفة بلغت أوج ازدهارها مع انتشار الانترنت وانظمة الاتصال الحديثة ، وهي ابرز قنوات التعبير الحر في عالم اليوم. وفي الاسبوع الماضي نقل عن شركة تويتر انها جمدت 125 الف حساب يشتبه في صلتها بتنظيم "داعش" او تشجيعها للارهاب. وتنشر الصحافة الدولية بين حين وآخر ، تقارير عن صراعات قانونية ساخنة بين مختلف الحكومات والشركات الأبرز في خدمات الانترنت ، مثل غوغل وفيسبوك وأمثالهما ، محورها هو ضغط الأولى على الثانية لكشف معلومات خاصة بمستخدميها الذين تشتبه الحكومات في صلتهم بمنظمات اجرامية او إرهابية. 
التيارات المتطرفة تستفيد من هامش الحرية المتاح ، مثلما يستفيد منها عامة الناس. هذه حقيقة لا مراء فيها. وهي – على الارجح – أقوى الحجج التي يتمسك بها دعاة الاستبداد. لكن الامر لا يقف عند هذا الحد. فقد لاحظنا عددا معتبرا من مناصري الحريات العامة يدعمون أيضا فكرة تقييد حرية التعبير ، أو تشديد الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي ، لنفس المبرر.
يعرف الباحثون هذه الحقائق المزعجة على نحو دقيق. بل ويعرفون أيضا انها أقوى الحجج في سلة الطرف الآخر. لكنهم – مع ذلك – لا يرونها كافية للتخلي عن اعتقادهم في ان الحرية علاج فعال للتطرف ، وما قد يترتب عليه من ممارسة للعنف او تسويغ للعنف. هؤلاء الباحثين ليسوا ممن يغفل الحجج ، او يغض الطرف عن الحقائق الماثلة على أرض الواقع. ومن هنا فان اصرارهم على رأيهم ، ليس مجرد رغبة في إثبات وجهة نظر أو نفي أخرى ، بل هو ثمرة لفهم دقيق ، وان كان من زاوية مختلفة ، لمشكلة التطرف وسبل علاجها.
لتوضيح الفكرة يمكن القول ان الخلاف بين السياسيين والباحثين يكمن في ترتيب الأولويات. يميل السياسيون الى علاج المشكلة بعد ظهورها. ويتعلق هذا خصوصا بالمشكلات التي يستدعي علاجها كلفة سياسية او مادية ، لا يرغبون عادة في دفعها ، طالما لم يكونوا مضطرين لذلك. بينما يوجه الباحثون اهتمامهم بالدرجة الاولى الى خطوط الانكسار في النظام الاجتماعي ، اي تلك المسارات والسياسات والتحولات ، التي يعتقدون انها ستولد أزمة أو سيترتب عليها ظهور توترات ، تؤثر – قليلا أو كثيرا – على استقرار النظام الاجتماعي. ومن هنا فهم يعتقدون مثلا ان قلة الخيارات المتاحة امام الناس ، سيما الاجيال الجديدة ، تشكل عاملا مهما في توليد التوتر ، على المستوى الفردي والجمعي.
قلة الخيارات هي احدى تجليات انعدام الحرية ، او ضيق مساحات الحرية في المجال العام. بعبارة اخرى فهم يرون ان التوتر الداخلي يأتي أحيانا مما اسميته في مقال الاسبوع الماضي بالمنغلقات ، او نقطة اصطدام الارادة بالعجز. واشير هنا خصوصا الى العجز الناتج عن كثرة القيود الرسمية او الاجتماعية على مبادرات الافراد ، الامر الذي يقلص الخيارات المتاحة في المجال العام. أظن ان انخراط بعض المتطرفين في اعمال العنف ، كان سببه الرئيس ندرة الخيارات التي وجدوها امامهم ، او عدم ادراكهم للخيارات البديلة القابلة للاستثمار. ربما كان بوسعنا الحيلولة دون انزلاق هؤلاء الشباب الى  العنف ، لو فتحنا الكثير من الابواب ، اي الكثير من الخيارات امامهم ، كي لايصبح ذهنهم مشدودا الى طريق واحد هو الانتحار.
الشرق الاوسط 10 فبراير 2016

03/02/2016

حول التعليم والتطرف



بعد سنوات من القراءة والتأمل في العلاقة بين الثقافة والعنف ، استطيع القول ان احد المفاتيح الرئيسية لفهم المشكلة يكمن في "المنغلقات" او الطرق المسدودة.

قبل بضعة أيام أعادت وزراة التعليم السعودية التأكيد على تصفية المكتبات المدرسية من الكتب الداعية للتطرف. وهذا جزء من سياسة أقرت قبل سنوات ، هدفها تجفيف مصادر التشدد في التعليم العام.

ومثل كل الاخبار الجديدة ، حظي القرار بتأييد بعض الناس وعارضه آخرون. لكن في المجمل فقد أعاد القرار احياء نقاش قديم حول مصادر التطرف في الثقافة العامة ، سيما ثقافة الشباب.

يجب القول ابتداء ان هذه ليست مهمة يسيرة ولا يمكن انجازها في بضع سنين. كما لا ينبغي المبالغة في تحميل المدرسة عبء المهمة بمجملها. الميول المتطرفة ليست ثمرة عامل واحد ، وعلاجها ليس سهلا كي يلقى على طرف واحد. يعرف الاجتماعيون ان تشكيل الذهن الجمعي ، او ما نسميه هنا بالثقافة العامة ، يتأثر بعوامل عديدة ، بعضها ثقافي بالمعنى الخاص مثل التعليم والاعلام والتربية الدينية ، وبعضها بعيد تماما عن هذا الاطار ، كالاقتصاد والسياسة والتقاليد الاجتماعية والموقع الطبقى الخ.

من هنا فان تفكيك الميول المتطرفة يحتاج لاستراتيجية وطنية شاملة ، تتعامل مع الثقافة في معناها الموسع ، اي مجموع المصادر التي تشكل الذهن الجمعي.

بعد سنوات من القراءة والتأمل في العلاقة بين الثقافة والعنف ، استطيع القول ان احد المفاتيح الرئيسية لفهم المشكلة يكمن في "المنغلقات" او الطرق المسدودة. يمكنني تعريف المنغلقات بالصدام بين الارادة والعجز. ثمة مثال معروف يضرب عادة لادانة السلوك الهروبي من المشكلات ، لكني اراه صالحا لتوضيح مسألة الصدام تلك. فحوى المثال ان تلميذا فشل في الاختبار وحين سأله زملاؤه عن السبب أجاب بأن معلمه حاقد عليه فاسقطه عمدا. يضرب اخرون مثلا بابن الشيخ الذي عانى من عنف ابيه فاتجه الى الالحاد. وحين سئل الاب عن السبب وضع اللوم على المدرسة والتلفزيون ورفاق السوء.. الخ.

يكثر سرد هذين المثالين وأشباههما لتأكيد العلاقة بين الفعل ورد الفعل. وينظر اليهما عادة كدليل على خط مستقيم يشبه القاعدة المعروفة في الفيزياء: كل فعل يولد رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه.

وأرى ان استعمال هذه القاعدة لتفسير الفعل والانفعال الاجتماعي غير سليم ، او انه – على أقل التقادير – قاصر عن ايضاح الطبيعة المركبة للفعل الانساني وما يترتب عليه من تموجات في المحيط الاجتماعي. ان تبرير التلميذ لفشله في الامتحان بحقد معلمه قد لا يكون – بالضرورة - تعبيرا عن رغبته في تبرئة نفسه من المسؤولية ، بل ربما ينم عن جهله بالاسباب الاخرى المحتملة. تماما مثل لوم الشيخ للتلفزيون والمدرسة ورفاق السوء ، الذي قد يخفي عدم ادراكه لمجموع العوامل التي قادت الى هذه النتيجة.

كان المفكر الامريكي دانييل ليرنر قد ناقش بالتفصيل مسألة "التكيف=empathy" بل اعتبرها محور نظريته حول التحديث والتنمية. تعرف القابلية للتكيف بالقدرة على اكتشاف وتبني بدائل/تفسيرات او حلول بديلة عن المألوف والمعروف مسبقا. وبهذا فهو المقابل لما أسميته "المنغلقات" او الطرق المسدودة والاحادية. اعتقد أن اي استراتيجة وطنية لمعالجة التطرف ينبغي ان تركز على كشف ومعالجة المنغلقات ، اي نقاط التصادم بين الارادة والعجز. هذه النقاط منتشرة في حياتنا الخاصة والعامة. وكثير منها يتحول الى توترات ثقافية/ذهنية ، تشكل ارضية خصبة لاستقبال دواعي التطرف ودعواته. المدرسة قد تلعب دورا مهما في تسكين او اعادة توجيه ميول الشاب. لكن من المبالغة اعتبار هذا الدور حلا كاملا.

الشرق الاوسط  3 فبراير 2016

http://aawsat.com/node/559146

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...