23/09/2015

الصنم الخامس



لطالما أثار فضولي وصف "الاصنام الاربعة" الذي وضعه فرانسيس بيكون (1561-1626). وتعتبر اعمال هذا الفيلسوف الانكليزي من المساهمات المبكرة في نظرية المعرفة الحديثة ، التي قادت الى تهميش المنطق اليوناني القديم.
لاحظ بيكون ان سنن الحياة وحقائق الكون واضحة وقابلة للادراك ، الى درجة يصعب اغفالها. ورغم وضوحها فان الناس لا يستوعبونها فلا يستثمرونها. بعض اصدقائه فسر المفارقة بأن الناس لا يستعملون عقولهم. لكن بيكون تساءل دائما: هل يمكن لاي شخص ان يوقف عقله؟. ليس العقل من الاعضاء التي تتحرك اراديا. العقل لا يتوقف ابدا.
فرانسيس بيكون
المشكلة حسبما رأى بيكون تكمن في احتجاب العقل وراء المسبقات الذهنية ، التي تحصر نشاطه في مسارات محددة. في حالة كهذه فان العقل يلاحظ أشياء كثيرة ، لكنه لا يراها ذاتها ، بل يراها أجساما مغلفة في ثوب يحجب حقيقتها. هذه خلاصة رؤية بيكون عن الاصنام الاربعة.
تراءى لي احيانا ان فرانسيس بيكون اغفل صنما خامسا. ولعل هذا الصنم خاص بنا نحن العرب والمسلمين ومن يمر بمثل ظرفنا التاريخي. دعني أسمي هذا الصنم "الزفة". وهو يشبه من حيث الوظيفة "صنم السوق" ، وهو الثالث من اصنام بيكون. لكنه يتمايز عنه من حيث الأثر.  صنم بيكون يعيق العقل عن رؤية الحقيقة. اما صنمنا فهو يحول تلك الحقيقة الى "كلام جرايد" كما يقول اخواننا المصريون. اي شيئا لا قيمة له.
لو بحثنا في صحافتنا وكلام أهل الرأي منا ، لوجدنا تحليلات قيمة وحلولا ذكية لمختلف القضايا التي برزت على السطح في السنوات الماضية. قد نتعجب اذا علمنا مثلا ان حلولا لمشكلة البطالة قد طرحت منذ عقد ونصف ، لكنا لم نطبق ايا منها ، وان المعالجات الضرورية للخلاص من الاتكال الكلي على اسواق البترول مدروسة ومعلنة منذ اربعين عاما ، وبعضها تم تبنيه رسميا في خطط التنمية الاقتصادية. لكن ايا من تلك الحلول لم ير النور.
الذي حدث اننا تحدثنا فيها كثيرا ، ثم جاءت قضايا أخرى فانتقلنا للكلام فيها وتوصلنا الى حلول ، ثم جاءت قضايا بعدها ، فانصرفنا الى السجال حولها. وهكذا. كل قضايانا اشبعناها بحثا ، لكن ايا منها لم يجد من يعلق الجرس او يسعى لتطبيق الحلول.  فكأن النقاش كان مجرد "زفة" تبدأ ، وتصل الى ذروتها ، ثم ينصرف الناس الى اعمالهم الاخرى وينسون ما جرى فيها وما قيل.
كل الناس سمعوا بالمشكلة ، وكل الناس سمعوا بالحلول المقترحة ، وكلهم نسوها او تناسوها. ليس لانهم اغبياء. بل لان زفة اخرى قد بدأت فانشغلوا بها. وهكذا تستمر حياتنا: زفة تتبعها زفة ، لكنا لا نخرج من اي زفة باي ناتج حقيقي.
اذا اردتم الاثبات فاسألوا المصريين عن التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل ، واسألوا الجزائريين عن توطين صناعة البترول ، واسألوا اللبنانيين عن اتفاق الطائف ، واسألوا السعوديين عن مشروع ال 200 مدرسة. كأن كلا من هذه القضايا الكبرى كان مجرد زفة ، انتهت عند منتصف الليل ، فأوى الناس الى فراشهم ، وفي الصباح عادوا الى حياتهم المعتادة وكأن شيئا لم يكن.
زبدة القول ان كثرة الكلام حول القضايا الكبرى اصبحت بديلا عن تعليق الجرس والانتقال من السجال حولها الى تطبيق الحلول. هذا ليس صنما يمنعنا من رؤية الواقع ، بل صنم يمنعنا من تغيير الواقع المليء بالعقد والمشكلات.
الشرق الاوسط 23-9-2015
http://aawsat.com/node/458816

انظر ايضا: فكرة المجتمع الملول/الضجر: نحو نماذج محلية للتنمية



20/09/2015

التسامح وفتح المجال العام كعلاج للتطرف

يمكن للدين ان يبرر الكراهية مثلما يبرر المحبة. لكن خطاب الكراهية بذاته خطاب مستقل ، يظهر في هذا الظرف او ذاك ، فيحتاج الى تبرير ايديولوجي كي يمسي مقبولا بين الناس. في العراق مثلا لم يرجع حزب البعث الى مبررات دينية قبل قصف القرى الكردية بالسلاح الكيمياوي خلال حملة الانفال. وفي المانيا استند خطاب الكراهية النازي على ايديولوجيا قومية وليس مبررات دينية. مثلما استند خطاب الكراهية في مجموعات الكوكلوكس كلان الامريكية الى دعاوى عنصرية ، اعتبرها اصحابها ايديولوجيا قائمة بذاتها. وجرى مثل هذا في جنوب افريقيا وغيرها.
الكراهية كسلوك او كمشاعر تشكل منظومة مستقلة ، تستعين بالمبرر المناسب في كل ظرف. نعلم ان اتجاهات الرأي العام تتباين من ظرف لآخر. لكن ما يهم دعاة الكراهية ومستثمروها هو اقناع عامة الناس بان هذا السلوك غير المقبول ، طبيعي او ربما ضروري.
على اي حال فان المشكلة التي نواجهها اليوم هي الجماعات التي تربط بين الكراهية والدين. ولهذا نحتاج الى التركيز على العوامل الدينية التي يمكن ان تبرر او تغذي مشاعر الكراهية او تحمي المصالح المرتبطة بنشر الكراهية.
في هذه المساحة الصغيرة سوف اقترح نوعين من العلاج ، هما تعزيز قيمة التسامح وفتح المجال الديني:
أ) نقصد بقيمة التسامح معناها الفلسفي ، اي اعتبار تعددية الحق ، وحق الانسان في اختيار المعتقد ونمط الحياة الذي يريد. ومحاربة الفكرة القائلة بان طريق الحق واحد ، او ان احدا من البشر مخول بجبر الآخرين على هذا الطريق. يجب تحويل هذا المفهوم الى عنصر رئيس في التربية المدرسية ، وفي التوجيه العام. هذا لا يعالج – بالضرورة – المشكلة الراهنة ، لكنه يساعد على تفكيك الذهنية التي تسمح بولادة خطاب الكراهية او تفاقمه. نحن – بعبارة اخرى – نوفر وقاية للاجيال الجديدة التي نخشى ان يجرفها تيار الكراهية والعنف.
ب) شهدت العقود الثلاثة الماضية ما يمكن اعتباره افراطا في توحيد المجال الديني ، ادى الى انقسامات مركزية. نحن اليوم نتحدث عن خمسة او ستة تيارات دينية تقتسم معظم الساحات. وجميع هذه التيارات تستثمر الموروث التاريخي في تعزيز مشروعيتها. ولهذا فهي تزداد انغلاقا مع مرور الزمن. وزاد في الوضع سوءا ان هذا العدد القليل من التيارات ، نجح – لاسباب مختلفة – في الاستيلاء على المجال السياسي الأهلي ، فاختلط الديني الذي طبيعته الثبات والاستمرار بالسياسي الذي طبيعته التحول والتنوع. ونتيجة لهذا اصبح الفضاء السياسي العام في اكثر من دولة عربية ، مغلقا او ضيقا على كل من يبحث عن خيارات بديلة او مختلفة.
في معظم الدول العربية ، ثمة صراع ظاهر او مكتوم بين فريقين: الدولة والتيار الديني ، الذي يتبنى في الغالب المقولات التقليدية الموروثة. هذا تعارض لا يمكن حله بادماج المجالين ، الرسمي والاهلي ، ولا بتحالف الدولة مع التيار الديني التقليدي، فهما عالمان متناقضان جوهريا.

الحل الصحيح هو فتح المجال امام حياة سياسية اعتيادية ، تساعد على ظهور خيارات بديلة للجمهور ، ومن بينها خصوصا خيارات دينية بديلة. اعتقد ان التعددية السياسية الحرة (اي غير التوافقية او المضبوطة بضوابط حكومية او دينية) يمكن ان تشكل أداة فعالة لاحتواء الطامحين والباحثين عن أدوار ، وهو المقدمة الضرورية لاصلاح خطوط الانكسار الاجتماعي والسياسي ، او على الاقل تلافي انعكاساتها الخطرة ، سيما تفاقم حالات الاحباط بين الاجيال الجديدة ، وهي الارضية التي تسمح بظهور الاتجاهات الراديكالية او تبرير الكراهية والعنف.

"القبس" الكويتية 20/09/2015 
http://www.alqabas.com.kw/Articles.aspx?ArticleID=1091015&CatID=323

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...