02/12/2011

المسالة الطائفية في المملكة :دعونا نتجاوز الفشل


ورقة نقاش قدمت لندوة "دور التنوع المذهبي في مستقبل الخليج العربي" التي اقامها منتدى العلاقات العربية والدولية – الدوحة 30 نوفمبر – 2 ديسمبر 2011

ملخص الورقة:
تستهدف هذه الورقة وضع اطار تحليلي للمسألة الطائفية في المملكة العربية السعودية. وتبدأ بتحديد الاطراف المشاركة في هذه المشكلة من خلال التمييز بين ثلاثة انواع من النزاع يلعب الدين دورا محركا فيها: وهي الخلاف العقيدي والفقهي ، والتنازع على النفوذ الاجتماعي ، والنزاع على مطالب سياسية. 
تصنف الورقة المسألة الشيعية ضمن النوع الثالث. وتعتبرها نزاعا حول مطالب سياسية بين الشيعة كمجتمع وبين الدولة ، فيما تعتبر مشاركة الاطراف الاخرى في هذا الصراع ثانويا او ملحقا باحد الطرفين الرئيسيين. تصف الورقة موقف الدولة كتعبير عن طائفية سياسية ، تتجلى في "استعمال الاجماع الديني الخاص بشريحة من المجتمع كارضية للولاء السياسي ، يبنى عليها ايضا نظام لتوزيع المصالح والمنافع ، بدلا من البناء على ارضية المواطنة".
تشدد الورقة على ان الخلافات العقيدية والفقهية لا تمثل تحديا جديا او تهديدا داهما. ولعل الانشغال بها ناتج عن غياب الاطارات المفتوحة والقانونية للجدل السياسي الصريح . التحدي اليومي الذي يواجه كل سعودي ليس تبني مواطنيه الاخرين عقيدة مختلفة او فقها مغايرا ، بل عدم تساوي الفرص ، والانتقائية في تطبيق القانون ، وكون حرياته غير مضمونة.
عالجت الورقة بعد ذلك حدود المسالة الطائفية في المملكة ومجالها من خلال المقارنة مع التصنيف العلمي لقضايا الاقليات الاثنية  التي تعتبر قابليتها للانفكاك عن المجتمع الوطني محددا لكيفية النقاش فيها. واوضحت في هذا السياق ان مشكلة الشيعة السعوديين تتمحور في التمييز الطائفي وحرمانهم من الحقوق المدنية التي يتمتع بها او يجب ان يحصل عليها بقية السعوديين.

 وتقترح لمعالجة مشكلة التمييز ثلاثة سيناريوهات : أ) اداري – قصير المدى ، يستهدف تخفيف الكراهية ، ومنع الاستغلال المبرر طائفيا. ب) قانوني – متوسط المدى يقر المساواة دون الحريات العامة والمشاركة السياسية. ج) دستوري – طويل المدى ينهي المسألة الطائفية جذريا.
وتدعو في الختام القوى الاهلية الى نقاش جدي للمسألة واعتبارها مشكلة وطنية متصلة عضويا بمسائل حرجة مثل الوحدة الوطنية والهوية الجامعة والاصلاح السياسي والسلم الاهلي.
يهمني جدا الاشارة الى ان بعض ماورد في المقالة قد يفهم كانحياز مسبق او ربما مناف للحيادية المفترضة. لا ينفي الكاتب ان جانبا من المادة ينطوي على دفاع ذي طبيعة سياسية عن حقوق الشيعة السعوديين ، لكن ليس بالضرورة دفاعا عن مذهبهم او انحيازا مضادا لغيرهم ، كما لا ينفي الكاتب انحيازه لتيار الاصلاح في المملكة ونقده للتيار المضاد للاصلاح.
------------------------------------------------------------------------------------

المسالة الطائفية في المملكة :

دعونا نتجاوز الفشل

توفيق السيف *
اشكر في البداية صديقى د. محمد الاحمري الذي اتاح لي شرف الحضور بينكم ، واشكر القائمين على منتدى العلاقات وداعميه والمشاركين في اعماله. 
نحن اليوم ابعد ما نكون عن ظروف العام 1991 حين وجه الشيخ سفر الحوالي رسالته المشهورة الى "هيئة كبار العلماء" محذرا اياهم مما وصفه بمؤامرة عالمية لاقامة قوس شيعي - مجوسي - نصراني يمتد من باكستان الى مصر ، هدفه اقامة دولة مجوسية تعيد الاستعمار الى بلاد المسلمين[1]. ونحن بالتاكيد ابعد مما كنا عليه في 2006 يوم وصف الرئيس المصري الوضع في العراق بانه حرب اهلية بين الشيعة والسنة[2]. اليوم صرنا نعرف ان قوس الحوالي لم يكن على طاولة اي من قادة العالم ، عدا الشيخ سفر نفسه، كما لم تكن الحرب الاهلية على طاولة احد غير الرئيس مبارك.
لعلنا اليوم اسعد حالا. او ينبغي ان نكون اسعد حالا. على الاقل لاننا نشهد انتصار الانسان على اوهام الايديولوجيا المتحجرة. جمهور الناس ، العامة منهم والنخبة ، الناشطون والمتفرجون ، المحافظون والحركيون ، ساهموا جميعا  في ابراز الوجه الاخر للانسانية ، الوجه الذي لم يلتفت اليه اولئك الذين صنعوا في خيالهم مستقبلا للعالم تصنعه حروب ايديولوجية وصراعات طائفية ، ثم قدموه لنا كاستراتيجيا منجزة يزعمون ان اقوياء العالم وضعفاءه قد انخرطوا – فعليا – في وضعها وتصميمها.
لا شك اننا اليوم اسعد حالا. لا شك اننا اليوم اقدر على مناقشة مشكلاتنا باذهان اكثر صفاء واقل توترا.

(  I  )

طبيعة النزاع الطائفي

يؤسفني القول ان الحدود الضيقة للحياة السياسية والتقييد الصارم لحرية التعبير اثمر عن بقاء الثقافة السياسية في المملكة ابتدائية وفقيرة ، حتى بالمقارنة مع اقل الدول نموا. وجدت هذا جليا في المناقشات التي ادارها بعض رجال الدين والناشطين في التيار الديني حول المسألة الشيعية. ففي جميع هذه الكتابات تجد خلطا مريعا بين تصورات عن واقع الشيعة السعوديين ، وبقية الشيعة ، وبين هذا الواقع المتصور ومعتقداتهم وارائهم ، بين قضايا قديمة ومعاصرة ، بين السياسي والفقهي والاجتماعي .. الخ.  وفي كل هذه الكتابات كان الشيعة يعرفون كاتباع لمذهب مخالف ، لا كمجتمع ومواطنين ، وكان المحور الرئيس: ماهو موقفنا كاصحاب مذهب من مخالفين مذهبيا. نادرا ما سأل احد هؤلاء الكتاب نفسه: ماهي حقيقة الموضوع ، ونادرا ما ناقش الشيعة انفسهم في تصورهم عن طبيعة المشكلة. وبطبيعة الحال فانه في الغالب لم يفكر في الموضوع من زاوية حقوق الانسان وشراكة الوطن ومبدأ المواطنة الخ.
هذا يدعوني للبدء بتحديد طبيعة المسألة الطائفية في المملكة ، لعلنا نستطيع تقديم نموذج مناسب للتحليل. كل نزاع في المجال العام هو – بالضرورة – تنافس بين فاعلين سياسيين حول مصالح قائمة او متخيلة، سواء ادرك كل طرف طبيعة وضعه ودوره ام لا ، وسواء كانت المصالح قابلة للتحديد المادي ام لا. من المهم عند مناقشة اي موضوع ، لا سيما الموضوعات المثيرة للجدل ، التاكيد على اطار النقاش وهدفه ونوعية المقاربة. ولهذا السبب فسوف اعرض تعريفات للمسالة الطائفية ، تليها المقاربات المعتادة في مناقشة الموضوع الطائفي ، ثم اقترح ما اظنه الاصلح لبحثنا الحاضر.
1-النزاع الطائفي باعتباره خلافا فكريا – مذهبيا :
ينطبق هذا التعريف على جدالات المدارس الدينية ، حيث يصنف اجتهاد معين في العقيدة او الفقه كموضوع رئيس للخلاف، وتصنف المدرسة القائمة على ذلك الاجتهاد ، كمحور لعلاقة اتباعها وصيرورتهم "جماعة" متمايزة عن الجماعات الاخرى. حين تتصارع جماعات دينية حول اجتهاداتها المتباينة ، فان الدينامو المحرك لها هو دافع فكري او ايماني بحت ، يتمثل في ايمان كل منها بأنها "الفرقة الناجية" ، اي ان مذهبها هو الحق ، وأن الجماعات  الاخرى خاطئة أو منحرفة عن الطريق المستقيم. ويترتب على هذه الفرضية اعتقاد بالمسؤولية عن هداية الطرف الثاني إلى ذلك "الحق" المتصور ، اوعزله عن المحيط العام لحجب تاثيراته السلبية .  طبيعة الفعل في هذه الحالة ثقافي - دعوي. ويتحمل مسؤوليته المباشرة في الغالب رجال دين أو حركيون نشطون في المجال الديني. دور الدولة هنا ثانوي ، او ربما معدوم.
يجري الصراع في هذا الحالة على شكل سجالات لفظية تؤكد حقانية المذهب وانسجامه مع اصول يفترض انها معيارية ، اي مقبولة عند الجميع. يجري التركيز عادة على نقاط التمايز ، اي تفارق الطرف الثاني عن الاصول المعيارية. المبدأ الضابط هنا هو واحدية الفهم والتفسير وانكار التعدد في الفهم والاجتهاد. الحق واحد فمن ابى دعي اليه او قسر عليه او عزل عنه.  وبعكس ذلك فان مقاربات الاصلاح تركز على الفصل بين الاصول المعيارية والمتبنيات المدرسية ، حيث تصنف هذه كاجتهادات. اي ان المبدأ الضابط هنا هو واحدية الاصل وتعدد الفهم والتفسير والاجتهاد.
2-النزاع الطائفي باعتباره منافسة اجتماعية :
ينطبق هذا التعريف على النزاع بين الجماعات التي تشكلت على اساس تفارق كلي او جزئي مع التيار السائد او الجماعات المماثلة. وهي قد تكون حركة دينية ، او تيارا يتبع شخصية بارزة ، او تجمعا يميز نفسه عن الاخرين بفكرة او خطاب خاص. هنا يعتبر وجود وحدود "الجماعة" محور النزاع ، كما ان عناصر التمايز في خطابها الداخلي او الاجتماعي هو جوهر الرابطة التي تجمع الاتباع وتميزهم عن سائر الناس.
الصراع على النفوذ الاجتماعي هو الدينامو المحرك للنزاع في هذه الحالة. تمدد الجماعة في المجال الاجتماعي العام ، يؤدي بالضرورة الى  تزاحم مع الجماعات الاخرى. كل مذهب او جماعة دينية هي دائرة مصالح خاصة باعضائها. ولا بد – بحسب منطق الحياة – ان تتداخل شيئا ما ، او تتزاحم شيئا ما ، مع دوائر المصالح الاخرى المجاورة. وابرز امثلته اختراق أحد الطرفين للمجال الاجتماعي الخاص بالطرف الثاني، من خلال التبشير أو الاستقطاب السياسي/ الثقافي. وأبرز مصاديق هذا التعريف هو تحول الأفراد الشيعة إلى سنة أو العكس، او انحياز مسيحي الى الاسلام او العكس. مما يثير القلق باحتمال تعرض البيئة الخاصة (أي دائرة النفوذ أو المصالح) للتآكل، وفي أقل الاحتمالات إثارة الشك حول كفاءة القادة المؤثرين في هذا الطرف أو شرعية نفوذه الاجتماعي. طبيعة الفعل في هذه الحالة دفاعي - سجالي يستهدف تسوير دائرة النفوذ من خلال المبالغة في المظلومية ، وتصوير الطرف المقابل كقوة طاغية ، بهدف التنبيه الى مخاطر العلاقة القائمة ، وتصويرها كغزو يستبطن نوايا سيطرة وتحكم. وتستعمل ادوات المقاربة الاولى (اللغة الدينية البحتة) لدعم الخطاب الدفاعي. يظهر هنا التركيز على دور الاشخاص والرموز الضالعين في الصراع ، بغض النظر عن قيمتها الفعلية في الجماعة. المبدأ الضابط هنا هو واحدية الانتماء الاجتماعي واولوية الحدود الفاصلة بين الاطياف الاجتماعية.
وبالعكس من هذا فان مقاربات الاصلاح تركز غالبا على اخلاقيات العلاقة بين المختلفين ، مثل فكرة التعايش والتلاقي ونبذ الصراع والوحدة الوطنية والسلم الاهلي الخ. اي ان المقاربة تقفز على الخلاف الديني الى ضرورات السلم الاجتماعي. المبدأ الضابط هنا هو التعددية وحق الاختيار الفردي.
وفي العادة فإن قوى اجتماعية عديدة تشارك في تحمل المسؤولية في هذه الحالة، منها رجال الدين، والزعماء الحركيون وقادة المجتمع. تدخل الدولة في مثل هذه الحالة ثانوي ، وقد لا يكون استراتيجية رسمية معتمدة ، بل استغلالا للسلطة والنفوذ من جانب بعض رجال الدولة مدفوعين بميول شخصية او تحالفات تكتيكية.
3- النزاع الطائفي باعتباره صراعا سياسيا
ينطبق هذا التعريف على النزاع حول مطالب سياسية ، بين طوائف متعارضة في المجتمع ، او بين الدولة وبعض تلك الطوائف التي تصنف – سياسيا – كاقليات. الطائفية هنا ليست مسالة دينية ولا تدور حول اشكاليات دينية. دعنا نستعير تعريف د. برهان غليون الذي يرى ان الطائفية السياسية هي استعمال الاجماع الديني الخاص بجماعة او شريحة من المجتمع كخلفية وارضية للولاء السياسي ، الذي ينتج نظاما لتوزيع المصالح والمنافع ، ياخذ بعين الاعتبار تحديد احدى الطوائف كطائفة مفضلة وموالية ، تتمتع بامتيازات اكبر من غيرها. اي بعبارة اخرى تحويل العصبية الدينية الى عصبية اجتماعية- سياسية[3]. الدين هنا شعار سياسي وليس ايمانا ، وهو يشبه تماما استعمال وصف "الديمقراطي المسيحي" في اسماء الاحزاب المحافظة الاوربية. من المفهوم ان الديمقراطيين المسيحيين في اوربا علمانيون ، لكنهم يمثلون – سياسيا – الشريحة المحافظة في المجتمع ويخاطبونها في المقام الاول.
في هذا التعريف لا يصنف الطرف المضاد/العدو طبقا لخلفيته الدينية ، بل تبعا لانتمائه الاجتماعي او الاثني ، الذي قد يكون طائفة دينية او جماعة عرقية او جنسا كالنساء مثلا . عزل النساء والسعوديين من اصل افريقي في بلادنا ، والصراع  بين الشماليين والجنوبيين في السودان ، وبين العرب والاكراد في سوريا والعراق ، والنزاع الطائفي في لبنان والعراق، هي امثلة على ما نسميه بالطائفية السياسية.
طبيعة الفعل في هذه الحالة سياسي بحت. ويتحمل مسؤوليته المباشرة في الغالب حركيون ورجال سياسة. دور الدولة في هذه الحالة محوري، فهي جزء من الصراع او طرف محرك فيه او مستفيد منه . اما المجموعات الاخرى – باستثناء العدو – فدورها وفعلها ثانوي او ملحق بفعل الدولة. يؤدي هذا النوع من النزاع الى فعل سياسي نشط يتجه الى بناء تحالفات ، حيث يسعى كل من الطرفين ، الى تشكيل جبهات تضم الاصدقاء والداعمين ، لمواجهة الفريق الاخر. وتتسع موضوعات النزاع في العادة تبعا للحجم السياسي لاطرافه ، وبحسب تكوينها الاجتماعي وتنوع همومها.  وينتج عنه تعدد وسائل التعبئة والتبرير ، فالاطراف المشاركة قد تستعمل اللغة الدينية لتبرير مطالبها ، او تقتصر على اللغة السياسية – المدنية. لكن في كلا الحالتين ، يبقى العامل السياسي بوصلة التوجيه الرئيس.
مقاربات الصراع هنا تركز على واحدية الولاء السياسي والوطني والحقوق المكتسبة.  والمبدأ الضابط لها هو محورية النظام ودمج المجالين: العام والخاص. ومثل ذلك فان مقاربات الاصلاح تركز على تمييز الولاء السياسي عن الوطني واعلاء معايير الحكم الصالح ولاسيما مبدا المواطنة. اي ان المبدأ الضابط لها هو التعدد والتنوع في اطار الوحدة.

ما الذي نسعى اليه وراء البحث في المسألة الطائفية:

التعريفات السابقة تكشف عن تنوع موارد النقاش في الموضوع. كل تعريف يكشف عن بعد خاص ويستدعي مسار نقاش خاص. تحديد غرض النقاش هو الذي يرجح واحدة من المقاربات الثلاث .
سوف ناخذ بالتعريف الاول لو كان همنا التقارب المذهبي او البحث العلمي المجرد في المذاهب وتطورها الفكري او الفقهي . وسوف نهتم بالتعريف الثاني لو كان غرضنا تعزيز السلم الاهلي او دراسة التيارات السياسية في مجتمع محدد او على المستوى الاسلامي العام. اما اذا كان الغرض هو المساهمة في الاصلاح السياسي فسوف ناخذ بالتعريف الثالث.
لماذا ناخذ بالتعريف الثالث وما الذي يترتب عليه
حين افكر في المسألة كشيعي سعودي. فما هو التحدي الثابت الذي يواجهني في حياتي اليومية العادية؟.
-          هل يواجهني الخلاف بين الشيعة والسنة حول مسألة الامامة والعصمة ، او الاشهاد في الزواج والطلاق؟ (عناصرالتعريف الاول).
-          ام يواجهني قلق تناقص عدد الشيعة بتحولهم الى سنة ، او احتلال السني لمسجدي وحسينيتي؟ (عناصر التعريف الثاني).
-     ام يواجهني العرف الذي يصنفني كمواطن من الدرجة الثانية ، والقانون الذي يحرمني من صوغ حياتي على النحو الذي اريد ، وغياب القانون الذي يحمي حقي في التعبير عن ذاتي ورايي ووجودي كفرد مستقل لديه القدرة وله الحق في ان يتوافق او يختلف مع غيره ، ويسمح لي باستثمار الفرص المتاحة في  المجال العام بالتساوي مع الاخرين. (عناصر التعريف الثالث).
انا كفرد ، او كصاحب راي ، او كفاعل في المجال العام ، لا اشعر بان اتخاذ الفقيه السني رايا مختلفا في العقيدة او الفقه يمثل تهديدا لقناعاتي ، لانني ببساطة اؤمن بحقه في ان يتخذ تلك الاراء مثلما آمنت بحقي في مخالفته ، ولأن رايه لا يؤثر على حياتي اليومية.
وبنفس القدر فاني لا اشعر بالقلق لان عدد الشيعة سيزيد او ينقص اذا تحول احدهم الى سني او انضم اليهم احد السنة. كما لا اشعر ان وجود او توسع الجماعات المنافسة يمثل خطرا داهما. لا اخشى ان يحتل احد مسجدي او حسينيتي ، لان كافة الجماعات الاهلية تفتقر الى القوة اللازمة لذلك حتى لو فكرت فيه. وحتى لو تصاعدت الاصوات المخالفة لي في الفضاء الاعلامي ، فسيبقى هذا الفضاء اوسع وارحب من ان يمتليء بعشرات الاصوات او حتى ملايين الاصوات. او لانني استطيع بسهولة اتقاء المخاطر المترتبة على تلك التهديدات المحتملة.
بعبارة اخرى فالذي يضيق خياراتي ويمنعني من اكون كما اريد ، هو ذلك الذي يملك قوة فعلية قادرة على السماح والمنع ، التسهيل او التقييد. اي الدولة التي تحتكر وسائل الجبر وتحتكر مصادر القوة (عناصر التعريف  الثالث).
لو جلس في مكاني سني سلفي او صوفي  او لامنتمي ، ونظر فيما يواجه من تحديات ومصادر تهديد، فهو على الاغلب سيصل الى نفس الاستنتاج. اراء الشيعة الفقهية والعقيدية لا تمثل ضغطا  يوميا عليه ، وهم – كجماعة او كافراد – لا يمثلون تهديدا جديا لمكانته او مكتسباته. لكنه - مثلي – يواجه اشكاليات يومية مثل عدم تساوي الفرص ، والانتقائية في تطبيق القانون ، وكون حرياته غير مضمونة او محمية ، وانه غير قادر على المشاركة في صوغ حياته ومستقبله.

الصراع الطائفي كموضوع للتجييش السياسي والاجتماعي

عند النظر في المسألة الطائفية في الخليج، سيما السعودية ، نجدها شاملة لجميع الاعتبارات الثلاثة السابقة، اي ان التعريفات الثلاثة تشكل تمظهرات مختلفة لنفس المشكلة . ثمة جدل عقيدي يغذي التصارع بين القوى الاهلية ، كما يبرر تعطيل الاصلاح السياسي. وثمة سياسات رسمية تتحكم – الى حد ما - في مستوى واتجاهات الصراع بين الاطراف الاهلية،  وتستدعي بعث التراث التاريخي للنزاع الطائفي. والى ذلك ، ثمة جماعات اهلية تحاول توسيع نفوذها او تخشى على وجودها ، فتسعى لاستدراج الدولة واستثمار مواردها ، او استثمار التراث التاريخي الذي يؤكد الفرقة.
هذه حقيقة واقعة ، لكن هناك ايضا حقيقة موازية فحواها اننا لسنا مضطرين الى الانخراط في كل بعد من ابعادها. انخراطي في الصراع هو قرار ارادي. لا يستطيع احد جبري على صراع لا ارى نفسي فيه او لا يعبر عن قناعاتي واولوياتي. لكننا مع ذلك نواجه ما يمكن وصفه بقهر العامة ، اي التفاعل الاجتماعي مع اثارات يستثمرها بعض القوى للتعبئة والتجييش ، فنجد انفسنا – قصدا او غفلة او اضطرارا – في غمرة موج يتجاوز تصورنا الاولى عن المشكلة.
سوف اضرب هنا ثلاثة مثالين متقابلين عن التصوير السياسي الكاذب للواقع ، وكيف يستثمره اشخاص او جماعات للتعبئة والتجييش ، وكيف يضطر الناس لاتخاذ موقف طائفي تحت ضغط الشارع:
 في اوائل التسعينات ثارت زوبعة هائلة بين شيعة المملكة بعدما نشر المرحوم عبد الله بن جبرين فتوى تدعو لمعالنة عامة الشيعة بالكراهية والاحتقار[4]. بعض التقليديين الشيعة اعتبر كلام بن جبرين تمثيلا دقيقا وكاملا للموقف السني في المملكة ، وشن حملة هائلة ضد السنة. نحن نعلم ان الامر ليس كذلك. الواقع السني ليس كذلك ، حتى لو تصوروه. وفي اوائل العقد الجاري نشر ياسر الحبيب كلاما مماثلا عن السنة ، صوره بعض السلفيين كتمثيل للراي العام الشيعي. وشنوا حملة مماثلة، لا تزال اصداؤها تتردد الى اليوم. يعلم كثير من اخوتنا ان الحبيب لا يمثل الواقع الشيعي ولا مواقفه الفعلية. نعلم ايضا ان ثمة اغراضا تعبوية - سياسية وراء تصوير هذا الراي او ذاك كتعبير عن التيار العام في الطرف الاخر.
من ناحية اخرى ، فاني – حين انظر الى مهماتي واولوياتي – اجد ان حريتي وقدرتي على المساهمة في صناعة مستقبل بلدي ، رهن بكوني حرا مشاركا وفاعلا في المجال العام ، قادرا على الاستفادة من الموارد العامة التي يشترك فيها جميع المواطنين. فما الذي احتاج لتحقيق هذا المطلب.. دعم "المايسترو" الذي يتحكم في حركتي وحركة غيري ويستعملني واياه لاغراضه السياسية؟ ، ام  تحرير المجال العام وجعله حرا ليتنافس فيه الجميع ويرتقون بحسب كفاءتهم واجتهادهم؟.
(   I I   )

حدود المسالة الطائفية في المملكة ومجالها:

مما يثير الدهشة، ان كلا من الشيعة والسنة في المملكة ، يعتبر الاخر مشكلة. لكن – باستثناء مساهمات ضئيلة جدا – فان ايا منهما لم يكلف نفسه عناء دراسة الموضوع ، لفهم اشكالياته الاساسية وفرص حلها او التخفيف من كلفها. هذا مثال واحد على اهمال السعوديين للبحث العلمي وعدم التعويل عليه في فهم واقعهم. كان الشيخ سفر الحوالي بين قلة من رجال الدين السعوديين الذين طرقوا الجانب السياسي للمسالة[5]. وتبعه الشيخ ناصر العمر[6] ، واخرون في السنوات التالية. واظن ان طروحات الرجلين قد ساهمت في تشكيل "الفهم السلفي" للمسألة الشيعية في المملكة. ولعل تاثير هذه الطروحات قد انعكس في مساحات اوسع ، نظرا لانها كانت - ربما - الوحيدة المتوفرة للسعوديين حول الموضوع في وقتها.
كلا الرجلين صنف الشيعة السعوديين كاقلية ينطبق عليها نمط عام فحواه ان الاقليات وسيط او راس جسر للتدخل الاجنبي: طبقا للحوالي فان "التحالف بين الأقليات وبين أعداء الأمة سنة متبعة ، فتاريخ الدروز مع الإنجليز ، والنصيرية مع الفرنسيين ، لا يختلف أبداً عن تاريخ الموارنة مع اليهود في لبنان ، أو اليهود مع الحلفاء في تركية ، والنتيجة في كل الأحوال تدمير عقيدة الأكثرية وكيانها ووجودها"[7]. وخلال السنوات القليلة الماضية ، ركز العديد من كتاب الصحف ورجال الدين في المملكة على ما يصفونه بولاء الشيعة لايران ، واجتهد بعضهم في تقسيم الشيعة الى فريقين ، صفوي يجوز اتهامه بالعمالة او هو عميل فعلا ، ومعتدل ، يمكن احتمال ان يكون وطنيا او مواليا لوطنه.
لن اناقش هذه الاراء. سأذهب بدل ذلك الى تحديد طبيعة المشكل الطائفي في المملكة ، على ضوء الابحاث العلمية حول الاقليات في العالم. هذا سيجيب على السؤال المحوري حول حدود المشكلة الطائفية ومطالب الشيعة السعوديين.
معظم الابحاث التي ناقشت قضايا الاقليات في العالم ، اهتمت بقابليتها للانفكاك عن المجتمع الوطني ، بالنظر الى العوامل الثابتة – الجيوبوليتيكية - في تشكيل هوية الاقلية ووجودها كجماعة منفصلة شعوريا وثقافيا. وفي هذا السياق ركز معظم تلك الدراسات على واحدة من ثلاث مقاربات:
أ‌)        الاثنية- الدينية ethno-religiousness :
وهي تعتبر الدين او المذهب جوهر الرابطة الاجتماعية ، وربما يدعمه وحدة الاصل العرقي والثقافة واللغة. فحوى العلاقة بين الدين والاثنية ، هي ان الاختلاف الديني يولد حاجة لاستقلال الجماعة ، كي تعبر حياتها عن ضميرها الديني دون مزاحمة. غالبا ما يقتصر هذا النوع من الاقليات على المطالبة بالحكم الذاتي (كما هو الحال في جنوب الفلبين مثلا)، لكنه قد يصل الى المطالبة بالانفصال كما حدث في الهند (1947) والبلقان (1992).
ب‌)    الاثنية – الاقليمية  ethno-regionalism :
وهي تعتبر الارض المشتركة "المملوكة للجماعة" العنصر المحوري في تكوين هوية الجماعة. وحدة الارض تتطابق هنا مع العوامل الاخرى مثل الثقافة واللغة والتاريخ المشترك ونظام المعيشة. وابرز الامثلة على هذا هو المسألة الكردية التي اثمرت في 2003 عن قيام اقليم فدرالي خاص بالكرد شمال العراق. التصور العام للجماعة الاثنية هنا انها تشكل امة فرعية ، او جماعة متمايزة في اطار امة اكبر. وتدور دعوتها غالبا حول فكرة حكم ذاتي او اتحاد فيدرالي.
ت‌)    الاثنية – الوطنية ethno-nationalism :
 وهي تشبه الاثنية الاقليمية، لكنها اوسع مدى. الجماعة هنا ليست فريقا في بلد، بل هي كل البلد. ويمثل الحيز الاقليمي ارضا للجماعة تطابق هويتها القومية. وابرز امثلة هذا الصنف الحركة الانفصالية في جنوب السودان، التي نجحت في اقامة دولتها المستقلة في يوليو2011. وقبلها جمهوريات اسيا الوسطى التي استقلت اثر تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991. التصور العام للجماعة هنا يرتبط بتشكيل دولة قومية خاصة ضمن الاقليم الارضي الذي تعتبره موطنها الطبيعي.
مقارنة مع المقاربات الثلاث ، لا نجد المسألة الشيعية في المملكة قريبة من اي منها. رغم حيوية العامل الديني في تشكيل الهوية الخاصة للشيعة السعوديين ، ورغم تركزهم النسبي في اقاليم محددة، الا ان فكرة الاستقلال او الحكم الذاتي لم تظهر بينهم في الماضي او الحاضر. اي ان هويتهم السياسية لا تحوي فكرة عن مكان منفصل او وضع سياسي متمايز عن باقي السعوديين. انها اذن ليست مشكلة "اثنية" بالمعنى العلمي ، بقدر ما هي "حركة حقوق مدنية" في المعنى السياسي.
تعرف حركات الحقوق المدنية بانها مجموع الجهود الرامية لالغاء العزل او التمييز المفروض على جماعة محددة ، ومساواتها مع سائر المواطنين ، وفق قواعد قانونية عادلة تطبق على الجميع بصورة متساوية. يبرهن تاريخ الشيعة السعوديين ، منذ تاسيس الدولة قبل 80 عاما ، على ان همومهم ومطالبهم تمحورت دائما حول الدعوة للمساواة والغاء التمييز ، والاقرار بوجودهم كجماعة ذات تجربة ثقافية خاصة. هذا يجعل الحراك المطلبي "الشيعي" حركة حقوق مدنية ، متصلة بالضرورة بالحراك السياسي العام ، والاطياف الوطنية المختلفة التي تدعو للاصلاح السياسي والدستوري في المملكة. كما يجعل احتمالات نجاحها مرتبطة الى حد كبير بمسارات الاصلاح السياسي على المستوى الوطني.

(   I I I   )

اسئلة الفشل المجتمعي

فشل المجتمع السعودي في معالجة اشكالات الوحدة والهوية الوطنية ، يجعل الاستبداد قدرا وملاذا للجميع . لا اود العودة الى تواريخ بعيدة ، قد لا يتذكرها كثير من الناس. لكن الجميع يتذكر بالتاكيد ان الدعوة الى التظاهر في مارس 2011 رافقتها حملة واسعة في الصحف ومواقع الانترنت وخطب الجمعة واحاديث المشايخ تندد بالشيعة السعوديين وتتهمهم بالولاء لايران. هذا المثال تكرر بصورة اكثر تركيزا وسعة حين احتل الامريكيون بغداد في ربيع 2003 وحين سيطر انصار حزب الله على وسط بيروت في 2008 ، وحين قامت انتفاضة البحرين في العام 2011. وتكررت اخيرا بعد الصدامات التي جرت في مدينة العوامية في (اكتوبر 2011). بعبارة اخرى فانه كلما جرى صراع في خارج المملكة او داخلها، انتفضت المشاعر الطائفية داخل المملكة. اعني هنا بالتحديد الاهالي ، رجال الدين ، الكتاب ، وعامة الناس ، وليس الدولة. هذا يثير سؤالا جديا ، يولد – بدوره – العديد من الاسئلة ، السؤال المحوري: لماذا نجد انفسنا شركاء في صراعات الخارج او معنيين بها الى حد مصارعة اهل بلدنا؟. ولماذا – حين نحدد موقفنا مما يجري في بلدنا - نغفل كل العوامل المحركة للصراعات الداخلية سوى الاختلاف المذهبي ؟.
-     هل سببه غلبة الهوية الدينية- المذهبية على الهوية الوطنية في فهمنا لذواتنا؟. بعبارة اخرى: هل نفهم انفسنا كاتباع مذاهب قبل ان نكون مواطنين في بلد واحد؟.
-           ام لاننا نشعر – في اعماقنا – بان وحدتنا الوطنية حالة مؤقتة ، يمكن ان يجرحها او ينهيها اي تطور في المحيط؟.
-          ام لاننا لا نثق حقيقة في قدرتنا كمجتمع سياسي على التسالم والتعايش ، مع اختلافنا في المعتقدات والافكار ومصادر القوة؟.
-     ام لاننا نظن ان الصراعات القائمة في العالم هي حروب دينية. اي ان التحدي الرئيس لوجودنا هو الحرب الدينية وليس التخلف ولا الفساد ولا الاستبداد ولا هيمنة الاجنبي؟.
اذا صحت هذه الاسئلة ، فانها تشير الى فشلنا كمجتمع وطني ، في الانتقال من صورة الدولة الابتدائية ، التي قامت على الغلبة والغزو ، الى الدولة المستقرة ، التي يضمن سلامها ودوامها توافق اهلها وقبولهم بقانونها العام ، او دولة الامة ، التي يشعر جميع ابنائها بانهم أمة واحدة ، شركاء في وطن واحد ومستقبل واحد. اني لأشعر بالاسف لان السياسيين وقادة الفكر والراي في المملكة لا يجدون انفسهم معنيين بعلاج اشكالية الهوية الوطنية والوحدة والمواطنة ، على النحو الذي يكفل لبلادنا السلام والاستقرار والنمو على المدى البعيد. نحن حقا عاجزون ، وقد فشلنا في واحدة من اعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقنا. فشل القوى الاهلية في هذا الامر المهم هو الذي جعل الاستبداد خيارا مرجحا. واذكر للمناسبة ما نقل عن الملك السابق فيصل حين جادلهم احدهم حول مجلس شورى منتخب ، فاجابه – كما تنقل الرواية – بانه لو اجريت الانتخابات فسياتي الى الحكم المطاوعة وشيوخ القبائل. لا ادري ان كانت هذه رواية صحيحة او مختلقة ، لكن كثيرا من الناس يشعر في داخله بان من العقل ان يتحمل الرمضاء ولا يستجير بعمرو عند كربته. هذه عاقبة الفشل المجتمعي: صيرورة الاستبداد ضرورة وملاذا للجميع.

ثلاثة سيناريوهات لمعالجة المشكل الطائفي

قلنا فيما سبق ان المسألة الشيعية في المملكة لا تشابه – في وقتها الحاضر - قضايا الاقليات الاثنية. وارى ان الفضل في هذا يرجع الى العائلة المالكة السعودية من جهة ، والى زعماء الشيعة التقليديين من جهة اخرى. فقد حافظ الطرفان على الصراعات البينية ضمن حدود معقولة ، حالت دون تبلور مشاعر انفصالية. انها حكمة الكبار التي لا تستطيع شرحها لكنك تشعر بها وترى اثارها. لا شك ان لاولئك فضل في جعلنا اليوم نناقش هذه المسألة في اطار المشكل الوطني العام وليس خارجه.
جوهر المسألة الشيعية في المملكة هو غياب الحقوق المدنية. الحراك القائم في هذا الاطار هو حركة حقوق مدنية.
-          لكن: هل يمكن انجاز او ضمان حقوق مدنية لطائفة او منطقة، بينما هي مغيبة على المستوى الوطني؟.
-           الجواب البديهي : لا .
-     حسنا . اذا كان الامر كذلك فلماذا كان وصف "الشيعي" سمة للحراك المطلبي في الاطار الشيعي؟. بعبارة اخرى: لماذا لم يركز الشيعة على المطالب الوطنية ، ويغفلوا – ولو مؤقتا – مطالبهم الخاصة؟.
 اود ان يوجه هذا السؤال الى جميع المطالبين بالاصلاح السياسي في المملكة . اني واثق ان لديهم ، او لدى بعضهم ، تفسير مناسب. مرة اخرى .. لا اريد العودة الى الماضي البعيد ، لكن هل نستطيع العثورعلى تفسيرات محتملة في حوادث الاعوام الاخيرة؟. وهل تشكل اسئلة الفشل المجتمعي ، التي عرضناها فيما سبق ، تفسيرا مناسبا؟.
دعنا نتجاوز هذه النقطة ، كي نعود الى النقطة الرئيسية ، وهي حل المشكل الطائفي. المطلب الجوهري للشيعة هو الغاء التمييز على اساس طائفي. وهو قابل للتحقيق ضمن سيناريوهات ثلاثة:
السيناريو الاول (اداري- قصير الامد): تحجيم التمييز الطائفي ضمن المساحات غير الحساسة سياسيا، او غير المشروطة باصلاحات سياسية في النظام. هذا يساعد على تنقية الاجواء العامة وتخفيف الكراهية ، ومنع اتخاذ الفوارق الطائفية وسيلة للاستغلال. يمكن ان يتحقق هذا بوضع قانون يجرم اثارة الكراهية الدينية ، ويعاقب على التمييز فيما دون المستوى السياسي. اظن ان هذا السيناريو قابل للتنفيذ فورا وضمن المعطيات الحالية.
السيناريو الثاني (قانوني- متوسط الامد): اقرار مبدأ سيادة القانون – من دون تغيير جوهري في فلسفة الحكم. سيادة القانون تجعل الناس سواسية في الفرص والمسؤوليات. هذا سيجعل الشيعة متساوين مع بقية السعوديين ، لكنه لن يعطيهم الحرية ، ولن يجعلهم شركاء كاملين. بعبارة اخرى سيتحول الشيعي من وضع مواطن الدرجة الثانية الى وضع المواطن العادي ، ضمن المعطيات الراهنة. هذا قابل للتحقق اذا وافقت النخبة السياسية على تطوير النظام من ملكية مطلقة الى ملكية مقيدة ، حتى مع بقاء النظام غير ديمقراطي.
السيناريو الثالث (دستوري- طويل الامد): تغيير جوهري في فلسفة الحكم ، يعيد صوغ النظام السياسي بما يجعل علاقة المجتمع والدولة تعاقدية منظمة في اطار دستور. حينها سيكون رضا الجمهور مصدرا للشرعية السياسية ، ويتساوى المواطنون في الحقوق والاعباء. ولا يعود للمسألة الطائفية اي وجود سياسي ، ولا للمطالب الخاصة اي مبرر.
الفرضية المسبقة في هذه السيناريوهات جميعا ، هي ان علاج المسألة الطائفية يبدأ بقرار رسمي ، ويطبق اولا ضمن الاطار الرسمي.  لكني اظن ان قرارا كهذا هو بداية العلاج فقط . اما العلاج الكامل فينبغي ان يجري ضمن مفهوم "الاندماج الوطني" ، وهو المبدأ الذي يقترحه علماء السياسة لبناء الدولة الوطنية او دولة الامة.

الاندماج الوطني

 "الاندماج الوطني" مفهوم سياسي – فلسفي فحواه ان المجتمع السياسي نظام تعاقدي بين اعضائه . فهو مبني اذن على ثلاثة اركان: شراكة التراب ، نظام تعددي ، مواطنة متساوية.
الركن الاول (الفلسفة): شراكة التراب: وخلاصته ان حقوق المواطنين والتزاماتهم منبثقة من كونهم ملاكا لارض الوطن، ما فوقها وماتحتها وماينتج عنها او فيها. هذه الملكية مادية حقيقية ، لكنها صلبة ، فهي غير قابلة للنقل او العزل او التحوير الا باتفاق الجميع. يعالج هذا المفهوم اشكالية جدية مصدرها قناعات دينية او ايديولوجية او تقاليد ، تسمح بالتمييز في الحقوق والاعباء على اساس الدين او المذهب او النسب او الجنس او سواه. كل المواطنين في بلد واحد يملكون كل البلد ، ملكا مشاعا متساويا. ولا يستطيع احدهم او بعضهم اقصاء الاخرين لانه يعتبر عدوانا على ملك غيره.
الركن الثاني (الواقع): التعددية : لا توجد اليوم مجتمعات احادية او صافية من حيث العرق او اللغة او غيرها. ولذا فان الميل السائد في العالم كله ينحو الى الفصل بين الهوية الوطنية التي تجمع كل المواطنين ، ومادونها من هويات فرعيات تضم شريحة او شرائح محددة ، سواء كان مصدرها عرقيا او ثقافيا او غيره ، موروثا او مستحدثا. الرابطة الوطنية – وفق هذا المفهوم – ليست اللغة او الدين او العرق ، بل التراب الوطني+القانون. وبناء عليه فان مجموع المواطنين في هذه الارض يعتبرون امة واحدة ، ويحملون هوية واحدة ، هي الهوية الوطنية.  يعالج هذا المفهوم اشكالية التفارق بين مطالب الاكثرية والاقلية واحتمالات اسئثار طرف او استقوائه على بقية الاطراف.
الركن الثالث (القانون): المواطنة المتساوية : المواطنة مبدأ دستوري فوق السياسات والقوانين. وهو عنوان لمنظومة من الحقوق والامتيازات والمسؤوليات التي يتمتع بها ويحمل عبئها كل مواطن، فهي نظام لعلاقته مع مواطنيه الاخرين، وعلاقته بمؤسسة الحكم. ويعالج هذا المبدأ مشكلة التباين بين الزامات السياسة والنظام وحقوق الافراد. ومنها الالزامات الناشئة عن ندرة  الموارد ، مثل تبنيها لمعتقد خاص ، او تحالفاتها الداخلية والدولية، وتباين حجم الفرص وحجم الطلب عليها. ومقتضاها انه لا يجوز للدولة تبني سياسة او قانون او السكوت عن ممارسة، تخرق مبدأ المواطنة المتساوية ، بما فيها ضمان الحريات الاساسية ، الطبيعية والمدنية ، وحق التمتع بالموارد والفرص المتاحة في المجال العام.

دور القوى الاهلية:

حين استعرض تاريخ الحراك السياسي الاهلي خلال العقدين الماضيين ، لا أجد القوى الاهلية ، التقليدية منها والاصلاحية ، قدمت مساهمة واضحة في مسألة بمثل اهمية الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي. أشعر بالامتنان للعديد من كتاب الراي في الصحافة المحلية ، وللقليل من رجال الدين ، وبالطبع دعاة الاصلاح السياسي ، الذين رفضوا المواقف الطائفية والتنميط السلبي للشيعة ، ولا سيما في الفترات التي تصاعدت فيها امواج الكراهية الطائفية والتهجم المهين. هذه مواقف مشكورة ومحمودة. لكنها اقرب الى عمل الاطفائي الذي يقاوم الحريق. نحن اليوم اقل اهتماما بمثل تلك الموجات واكثر قدرة على العبور فوقها. لكننا ما نزال بحاجة الى تقديم حلول لقضايانا الحرجة والاساسية.
اشرت في مقالات سابقة الى تحاشي الاصلاحيين في التيار الديني الاشارة الى مشكلة التمييز الطائفي ، توقيا لنقد التقليديين والطائفيين في هذا التيار ، وتحاشي الاصلاحيين الاخرين للمسالة تلافيا لتحفظات الفريق الاول. هذا يذكرني بما اسمعه من كبار مسؤولي الدولة ، الذين يؤكدون في اجتماعاتنا الخاصة معهم ، على انهم ضد التمييز وانهم لا يفرقون بين مواطن وآخر. لكنهم جميعا ، من اعلى الهرم حتى ادناه ، تحاشوا طوال سنوات ان يذكروا اسم الشيعة علنا ، او يشيروا الى وجودهم في البلد او الى احترام الحكومة لحقوقهم.
لقد حان الوقت كي يتحمل السعوديون جميعا مسؤولية الخلاص من التمييز الطائفي. صحيح ان اجتثاثه ينتظر اصلاحا على المستوى الوطني ، وصحيح ان التحولات الاساسية في هذا الملف متوقفة على قرار النخبة الحاكمة. لكننا نستطيع المساهمة في درء الاستقطاب والانقسام والكراهية ، ونستطيع الحيلولة دون استخدام العامل الطائفي في اعاقة الاصلاح ، او استخدامه كسلاح ضد الاصلاحيين.

خلاصة وتوصيات

1- دارت المناقشة حول المسالة الطائفية في  المملكة العربية السعودية ، وركزت على المسألة الشيعية باعتبارها اكثر قضايا الاقليات والصراعات الطائفية بروزا. وتستهدف المقالة تقديم نموذج تحليل يراه الكاتب ادق تعبيرا عن الواقع القائم. من هنا فهي تدعو لمقاربات سوسيولوجية – سياسية ، وتستبعد المقاربات الايديولوجية التي تنظر للمسألة الطائفية كصراع حتمي مرتبط بوجود المذاهب.
2- يعتقد الكاتب ان المسألة الشيعية في المملكة لا تقع ضمن التصنيف العلمي لقضايا الاثنيات الذي يضع فكرة الانفصال كمؤشر ثابت لتقييم علاقة الاقلية بالاكثرية. بل هي – تحديدا- قضية حقوق مدنية تدورحول المساواة والغاء التمييز على اساس المذهب والطائفة. وهي في هذا تسير بالتوازي مع تيار الاصلاح السياسي على المستوى الوطني.
3- في هذا السياق لا تغفل الورقة حقيقة ان المملكة تنطوي على نزاع مذهبي-طائفي متعدد التعبيرات. لكنها تميل الى اعتبار ان العامل السياسي وخصوصا موقف الدولة هو الجوهري في المشكلة. بقية التعبيرات لا تمثل تهديدا فعليا او داهما ، او انها ملحقة بالوضع السياسي العام وليست جزء اساسيا من تكوينه.
4- لاحظت المقالة ان مساهمة السعوديين في النقاش حول المسألة الطائفية ، وفي قضايا الوحدة والهوية الوطنية ، محدودة جدا ، رغم اهمية الموضوع وخطورته. كما لاحظت شدة انعكاس النزاعات الاقليمية على علاقات المواطنين داخل البلد ، الامر الذي يشير – ربما – الى ضمور الجامع الوطني وبروز العامل المذهبي في تحديد المواقف. هذا سيؤدي بالطبع الى استقطاب داخلي على اساس طائفي لا وطني.
5- تقترح المقالة ثلاثة سيناريوهات لمعالجة المشكل الطائفي ، أ) اداري – على المدى القصير، يستهدف تنقية الاجواء العامة وتخفيف الكراهية ، ومنع الاستغلال المبرر طائفيا. ب) قانوني – على المدى المتوسط ، يقر المساواة دون الحريات العامة والمشاركة السياسية. ج) دستوري – على المدى البعيد ينهي المسألة الطائفية جذريا.
6- بالنظر للتحفظات وموارد النقد التي ذكرتها المقالة، فاني ادعو لمناقشة المسألة بجميع ابعادها وتفصيح المخاوف والاشكالات لدى جميع الاطراف الوطنية. ادعو لمناقشتها نقاشا علميا ، وعدم الاكتفاء بالنصائح الاخلاقية او الجمود على الهواجس المذهبية والايديولوجية. اذا وضعنا كل شيء في اطار العلم ، فسيكون قابلا للنقاش بلا حدود.





[1] سفر الحوالي : كشف الغمة عن علماء الامة، ونشرت الرسالة في كتاب تحت اسم "وعد كيسنجر والاهداف الامريكية في الخليج". ن.إ: http://saaid.net/book/open.php?cat=84&book=540
[2] قناة العربية www.alarabiya.net/articles/2006/04/08/22686.html

[3] برهان غليون : نظام الطائفية ، المركز الثقافي العربي (بيروت 1995)، ص 21
[4]  عبد الله بن جبرين ، جواب على سؤال في درس العدة في جامع الراجحي 23/8/1421 هــ. موقع الدفاع عن السنة  http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=1925
[5] سفر الحوالي : المصدر السابق. ويلاحظ ان الحوالي لم يذكر الاقليات المسلمة ضمن هذا التنميط ، اما لانه لايراها داخلة فيه ، او لانه  لايعتبر الشيعة بين الاقليات المسلمة.
[6] النص الكامل للرسالة على موقع شبكة الدفاع عن السنة http://www.dd-sunnah.net/forum/showthread.php?t=3834. جدير بالذكر ان الرسالة غير منشورة في الموقع الخاص للعمر (http://almoslim.net) رغم انه يذكرها في خطبه بين حين واخر ، كما ان مواقع الانترنت الحليفة حذفت التوصيات من النص المنشور. وهي جميعا غريبة ومثيرة.
[7] سفر الحوالي : الأقلية حين تتحكم في الأكثرية (جواب عما قدمته الطائفة الشيعية من مطالب لولي العهد) 13/4/1424هـ.  موقع صيد الفوائد http://www.saaid.net/Warathah/safar/6.htm





* مقالات اخرى للكاتب في نفس السياق :
الشيعة السعوديون : مشكلات المواطنة في ظروف التحول (2010) http://talsaif.blogspot.com/2011/04/blog-post_22.html
الهوية السياسية للشيعة: من الانكفاء الى البراغماتية (2008) http://talsaif.blogspot.com/2011/09/blog-post_25.html
الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات (2011)    http://talsaif.blogspot.com/2011/07/blog-post_290.html
الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني (2011)
دور الدولة في اطلاق او تثبيط التوتر الطائفي (2011) http://talsaif.blogspot.com/2011/08/blog-post.html
المسألة الطائفية: بحثاً عن تفسير خارج الصندوق المذهبي (2007) http://talsaif.blogspot.com/2011/04/blog-post_15.html

17/11/2011

ما بعد انكشاف السحر: معالم المرحلة التالية


في هذا العام انكشف السحر وافتضح كهنة السياسة وسحرتها فلم تعد ألاعيبهم مصدر قوة وحيد. كل شاب، فقيرا كان أو غنيا، في أعلى الطبقات أو في الهامش، أضحى قادرا على استنباط القوة وتوليدها، بمجرد اغتنام فرصة التدفق التي أتاحها تطور نظم الاتصالات الشبكية. هذا ما توصل إليه الزميل العزيز عبدالمجيد البلوي في مقاله الرائع “ثورات نجم البحر العربية”. لحظة انكشاف السحر هي اللحظة التالية للمعرفة الأولى أو ما نسميه الوعي.

ماذا عن المرحلة التالية، وسؤالي يتجه خصوصا لأصحاب الرأي والطامحين من شبابنا بنين وبنات. ثمة آلاف من شبيبة بلدنا ينظرون اليكم كرواد، كناصحين، كعلامات في طريق المستقبل، فما الذي تريدونهم أن يفعلوا؟ لقد أصبح بيدهم أن يختاروا بين الآراء والطرق والاتجاهات. فما هي الخيارات التي تقترحونها عليهم؟.

إذا كان الواقع الذي نعيش مريرا وغير مقنع، وإذا كنا نستحق أفضل مما هو قائم، وإذا زعمنا أن تغيير هذا الواقع ضروري وممكن، فما هي الطرق البديلة التي ربما تحملنا إلى واقع أكثر انسجاما مع إنسانيتنا، أكثر تجاوبا مع همومنا وانشغالاتنا، وأكثر تعبيرا عن ذاتنا الحرة المتحررة. هذا باب من النقاش ينبغي أن يفتح على مصراعيه. كل واحد منا، بل كل واحد من أهل بلدنا، يجب أن يسأل نفسه: ما هي طريق الإصلاح وما هي أهداف الإصلاح؟

  معالم الطريق
نحن شعب لم يتذوق طعم الحرية إلا عابرا، ولم يعرف المشاركة في الشأن العام إلا سماعا عن فعل آخرين. لم نقرر يوما طريقنا ولا شاركنا في صوغ حياتنا الجمعية، ولم يسألنا أحد: أي مستقبل نريد؟. كنا وما نزال رعية تقاد راضية أو راغمة، حاملة أو محمولة، واعية لما يراد بها أو غافلة. ولذا فإن الكثير من النقاشات السابقة حول الحرية والمشاركة، كانت أقرب إلى التمني والرغبة منها إلى التبني بعد التمحيص. لا يستطيع فهم الحرية ولا يدرك قيمتها من لم يجربها في حياته اليومية. ولا يستوعب أهمية المشاركة الشعبية في السياسة من يشاهدها من مدرجات المتفرجين.

أولئك الذين أنعم الله عليهم - في هذا العام خصوصا - بنعمة الحرية، وانفتحت لهم أبواب المشاركة، يدركون اليوم قيمتها وضرورتها، ولهذا يحرصون أشد الحرص على أن يكونوا لاعبين في الميدان لا متفرجين. انظروا كيف تغير الناس في ظرف أسابيع، من متشككين في الحرية والديمقراطية، إلى مشاركين في ميدانها.

تلك النقاشات لا طائل وراءها لانها تتجاوز البداية الصحيحة. الإشكالية الكبرى في السياسة ليست تطبيق الشريعة أو عدمه، بل إقامة العدل بين الناس. والمزاحم الأهم للحاكم ليس القانون الشرعي أو العلماني، بل سيادة القانون، وأولى حاجات الناس ليس لقمة العيش بل الحرية المضمونة بالقانون.
بعبارة أخرى فان البداية الصحيحة لأي نقاش في السياسة هي تحديد القيم الكبرى التي تمثل معايير لصلاح الحكم أو فساده. وأبرزها العدل، الحريات الفردية والمدنية، المساواة، سيادة القانون.

لا يكون الحكم صالحا رشيدا إلا إذا اقام العدل واستهدف - من خلال سياساته وعمله اليومي - إرساء العدل وتعميمه. وأول تجليات العدل هو ضمان الحريات الفردية والمدنية لكل مواطن. الحرية في التفكير والاعتقاد والتعبير والانتقال والعمل والتملك، ليست اعتبارات تحسينية، بل هي شرط لكمال إنسانية الإنسان.

 لا تكتمل مروءة الإنسان ولا كرامته ما لم يكن حرا. الحرية تعني أن تعيش على النحو الذي تختاره وأنت مطمئن، لأن القانون يحمي حريتك. هذا ما يسميه القرآن الكريم - في سورة قريش - بالأمن.
ولا يتحقق العدل دون المساواة في الفرص والمساواة أمام القانون، لا يحتاج الناس إلى مال الدولة ولا عونها، فهم قادرون على بناء حياتهم إذا كانت الفرص والموارد العامة متاحة للجميع بالتساوي.

لكن بلوغ المساواة أمر عسير فالسلطة تغري بالفساد، والقوة تغري بالعدوان، ولذا فإن تحقيق المساواة لا يتيسر إلا إذا قام الحكم، ونظمت العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفق مبدأ سيادة القانون. سيادة القانون تعني أنني أخضع للقانون وليس لشخص الحاكم، وتعني أنني والحاكم، الوزير والفقير، الصغير والكبير، جميعهم يخضعون لذات المباديء وذات الحدود.
هذا ما أظنه أبرز المعالم في طريق الإصلاح الذي يستحق أن نسعى إليه. وقد عرضتها مختصرة، وأطمع في أن أرى أصدقائي يشاركون في مجادلتها أو اقتراح بدائل عنها، لقد حان الوقت كي نطرح ما نريد وما نسعى إليه.

-« موقع المقال » - 17 / 11 / 2011م 

24/10/2011

الديمقراطية في بلد مسلم - المقدمة





د. توفيق السيف (محرر)

الديمقراطية في بلد مسلم

د. محمد مجتهد شبستري
د. عبد الكريم سروش
د. محسن كديور
د. علي رضا علوي تبار
د. علي بايا


فهرس

تقــــــــــــــــــــــــــــــــديم
1)  الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية                                                         محمد مجتهد شبستري
2) الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية                                 محسن كديور
3) الديمقراطية الدينية: حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان                           عبد الكريم سروش
5) في معنى الوصف الديني للديمقراطية                                                  علي بايا
6) جدل فقهي حول الدولة الحديثة                                                          توفيق السيف
      


تقـــــــــديم

يستهدف هذا الكتاب استعراض جانب من الصعوبات التي يواجهها التحول الديمقراطي في الشرق الاوسط . ويركز على تلك الصعوبات المتعلقة بالهوية والثقافة . محور النقاش هنا هو العلاقة الاشكالية بين الدين والديمقراطية والامكانات المتوفرة لاستنباط حلول تسمح بتطوير نظام سياسي يجمع بين قيم الدين الحنيف وفضائل الديمقراطية. عدا عن الاهمية النظرية لمثل هذه البحوث ، فان اهميتها العملية كبيرة هي الاخرى. يعتقد الكاتب ان التخلف المزمن في العالم الاسلامي هو في المقام الاول نتيجة لتحجر النظام السياسي ، الذي من تجسيداته انعدام الاجماع الوطني وتنافر الدولة والمجتمع ، وضمور الارادة العامة ، وانعدام الحريات الفردية ، وتعطيل المشاركة السياسية ، وبالتالي عجز المجتمع عن توليد حلول لمشكلاته. يمكن للديمقراطية ان تعالج هذا المعضل التاريخي من خلال اعادة توليد الطاقة الشعبية الخلاقة وتوجيهها في المسار الصحيح الذي يقود الى التقدم الحضاري وحل المشكلات المزمنة. مشاركة الشعب في ابتكار الحلول يتوقف على وجود نظام سياسي – اجتماعي يوفر الفرص والاطارات الضرورية كي يعبر الشعب عن ذاته وتطلعاته وامكاناته . هذا النظام هو بالضرورة نظام ديمقراطي .
فكرة الديمقراطية ليست جديدة في العالم الاسلامي فقد جربها عدد من المجتمعات المسلمة ونجح قليل منها وأخفق اكثرها . وفي اعتقادنا ان تكرار تعثر التجارب الديمقراطية في البلدان الاسلامية هو – في احد الوجوه على الاقل - ثمرة لغربة النموذج الديمقراطي وتباعده عن النسيج الثقافي الخاص بهذه المجتمعات ، اي التباين الثقافي بين الذهنية العامة للمسلمين والارضية الفلسفية التي تقوم عليها فكرة الديمقراطية . من هنا فثمة ضرورة لتصميم نموذج ديمقراطي محلي قابل للتفاعل مع ثقافتنا الخاصة كشرط اولي لتحقيق مشاركة شعبية ذات معنى ، وتبلور ذهنية تسمح بالتفاعل الايجابي بين الفرد ومحيطه ، اي ذهنية تسمح بالنقد والتبادل المعرفي الحر والتنافس السلمي على الادوار والمصالح المشتركة. تعثر الديمقراطية او فشلها يعني بالضرورة استمرار الخضوع الذليل لنماذج من الحكم مستبدة وعاجزة. الديمقراطية ليست وعدا بالمدينة الفاضلة ، ولا هي الحل السحري لجميع المشكلات ، بل هي ببساطة وسيلة لتنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة ، ثبت بالتجارب المكررة ولمدة طويلة من الزمن ، انها الانجح والاكثر قابلية للتطور والتكامل بين جميع نماذج الحكم الاخرى. الديمقراطية مفيدة لانها توفر الفرصة للناس العاديين كي يعيشوا بسلام ، ويسعوا في الارتقاء بحياتهم في ظل قانون واحد يتعامل معهم كمواطنين اكفاء لبعضهم ، متساوين في الحقوق والواجبات. هذا الامان (وهو التجسيد الاول للحريات الفردية) هو احد العوامل الحاسمة التي ساعدت على تطور العلوم والفنون في المجتمعات الصناعية ونيلها اسباب القوة.
ان طريقنا الى المدنية يحتاج الى تمهيد يتناول جملة من المسائل من اهمها خلق الذهنية القابلة للتفاعل مع العناصر الثقافية والمادية للحداثة ، ووضع نهاية للتازم السياسي الذي يتوارثه المسلمون جيلا بعد جيل.
لماذا نثير هذا النقاش اليوم ؟
لو اخترنا الديمقراطية قبل قرن ، فلربما كنا الان ننافس الامم المتقدمة التي استراحت من هموم السياسة وانصرفت الى هموم العلم والحضارة ، ولربما كان عالم اليوم مختلفا جدا عما هو عليه . لكن الامور مرهونة بأوقاتها ، وليس من المفيد النوح على ما مضى. وعلى اي حال فان زمن السؤال جزء اساسي من محتواه وشرط لفهمه . فكرة "الديمقراطية" مثلا كانت متداولة في الفلسفة اليونانية منذ القرن الرابع قبل الميلاد كوصف لاحد انماط الحكومة . لكنها لم تتحول الى سؤال جدي تتداوله النخبة وتفكر فيه العامة ويطرحه السياسيون على انفسهم الا في القرن السابع عشر الميلادي . زمن السؤال يعنى الظروف الخاصة الاجتماعية او الاقتصادية او السياسية التي تؤدي الى ازاحة بعض الانشغالات الثقافية من التداول اليومي وادراج قضايا اخرى تتحول بالتدريج الى محور للتفكير او جواب محتمل على لغز او مخرج محتمل من ازمة . من هذه الزاوية فقد كانت الديمقراطية جواب المجتمعات الاوربية على ازماتها السياسية – الاجتماعية التي تولدت عن النزاعات بين الملوك من جهة والتطور الاقتصادي – الثقافي وما اثمر عنه من تغير النظام الاجتماعي ، من جهة اخرى .
حين انتصرت الثورة الاسلامية في 1979 لم تكن "الديمقراطية" مطروحة كنموذج محتمل لنظام الحكم المراد اقامته . كان الجميع متفقا على ان حكومة اسلامية سوف تكون البديل الافضل عن كل ما سواها . مثل كل المفاهيم الجديدة ، لم يكن مفهوم "الحكومة الاسلامية" الذي طرح يومئذ واضحا ومحددا . كان الميل في اول الامر الى نظام يقوم بشكل كامل على سيادة الشعب مع دور اشرافي للفقهاء ، ودعا بعض زعماء الثورة الى ما يشبه الديمقراطية الاجتماعية التي كانت قائمة يومئذ في الدول الاشتراكية ، بينما رأى اخرون ان الاسلام لا يحتمل غير نظام شديد التمركز على راسه فقيه يجمع بين يديه كل خيوط السلطة . في نهاية المطاف جرى وضع دستور يتسع لجميع هذه الخيارات ، فثمة دور محوري للنخبة الدينية اي الفقهاء وثمة تاكيد على سيادة الشعب وكونه مصدر السلطة[1].
هذا النموذج مختلف تماما عن معظم ما فكر فيه الاسلاميون قبل ذلك . بالنسبة للشيعة كان النظام السياسي الديني يتمثل حصرا في حكومة يراسها امام معصوم . وقال بعضهم بامكانية حلول الفقيه الجامع لشرائط الاجتهاد والعدالة في مكانه . وقال آخرون بامكانية ترك الحكم للسياسيين ومنح الفقهاء دورا رقابيا[2]. في كلا التصورين لم يكن ثمة نقاش حول دور الشعب الذي هو موضوع السلطة وجوهر الجدل حول الدولة والسياسة . مال قليل من المفكرين السنة الى نموذج الخلافة التي كانت قائمة حتى الربع الاول من القرن العشرين ، ومال اكثرهم الى نموذج حكم النخبة التي توصف باهل الحل والعقد . في هذين النموذجين ايضا كان دور الشعب مغفلا ومنسيا . يمكن القول اذن ان فكرة الدولة الدينية كانت حتى نهاية العقد السابع من القرن العشرين محصورة في "الحاكم" . ولهذا فقد تركزت النقاشات على مؤهلات الحاكم وسلطاته وكيف يصل الى منصبه .. الخ . وكان الاعتقاد السائد ان شرعية الحكم مستمدة من السماء ، وان على الناس اطاعة الحاكم لان الله امر بذلك ، لا لأن الناس اختاروه او رضوا به .
اختيار الايرانيين لنظام يقوم على مصدر شرعية ثنائي ، الشعب من جهة والتفويض الالهي من جهة اخرى ، هو ثمرة لعاملين : الاول هو التطور التاريخي الخاص بالمجتمع الايراني ولا سيما انعكاسات الثورة الدستورية (1905-1906) التي شهدت للمرة الاولى في تاريخ المسلمين تنظيرا فقهيا لسيادة الشعب وكونه صاحب السلطة ومصدر شرعيتها . اما العامل الثاني فهو التركيب المزدوج للنخبة التي قادت الثورة ، من فقهاء يميلون الى نمط الحكم المتعارف في التراث الديني ، ومفكرين يميلون الى الديمقراطية الليبرالية او الاجتماعية . بسبب هذين العاملين فقد شهد النقاش حول دستور الجمهورية الاسلامية الذي اقر في العام 1980 طرح مفاهيم جديدة لم تكن متداولة قبلئذ في المجتمع الديني او على الاقل لم تكن من موضوعات انشغاله . من بين تلك المفاهيم على سبيل المثال الارادة العامة ، الجمهورية ، تقسيم السلطات ، حاكمية القانون ، المواطنة والحقوق الدستورية .. الخ[3].
بدا للوهلة الاولى ان التوليف بين المفاهيم الدينية التقليدية والمفاهيم الديمقراطية الحديثة قد آتى ثماره ، وان نموذجا جديدا للحكم الديني يجمع حسنات التراث والحداثة قد ولد . لكن التطورات السياسية والتحولات البنيوية التي شهدتها ايران خلال العقد الاول من عمر الجمهورية الاسلامية ، كشفت عن العديد من مواطن الغموض والاشكاليات التي تركها هذا النموذج دون حل . ابرز تلك الاشكاليات هو حدود سلطة الفقيه الحاكم ، ما اذا كانت ضمن الدستور او فوقه ، وحقيقة دور الشعب : هل هو صانع للسلطة ومصدر تام لشرعيتها ام هو تكميل وتزيين لها؟. وهل تضمن الدولة الدينية حريات الانسان الطبيعية ، اي الحريم الخاص الذي لا سلطة فيه لاي طرف عليه ام لا ؟ . وهل يتمتع المواطنون بحقوق مدنية ودستورية ام لا ؟. كل هذه القضايا كما هو واضح هي نقاط تماس بين مفهوم الدولة الذي انتقل الينا من الاسلاف ، وذلك الذي تطور في سياق الحداثة الغربية .
بعض هذه الاشكالات تحول الى معضلات بسبب افتقار قادة النظام الاسلامي الى التجربة السياسية ، وبسبب اختلاط المفاهيم والنماذج ، الناتج بدوره عن تباطؤ الفكر الاسلامي في التصدي للاشكالات والمسائل الجوهرية المتعلقة بالدولة والسياسة . لو بقيت تلك المشكلات في حدود الجدل النظري لهان الامر ، لكن الامر لم يكن على هذا النحو ، فقد جرى استعمال السلطة وموارد الدولة بصورة متكررة في التنافس السياسي وقهر المعارضين . وفي كل الحالات كانت هذه المواقف غير المنصفة تبرر بتفسيرات متعسفة لنصوص القانون والدستور والقيم الدينية والوحدة الوطنية وسلامة النظام العام ، وغير ذلك من التبريرات التي تبدو في ظاهرها سليمة .
منذ اواخر الثمانينات توصل العديد من المفكرين الايرانيين الى ان ارقى فكر وافضل دستور في العالم لا يمكنه منفردا ان يضمن حقوق الافراد وحرياتهم . في كل الاحوال سيجد الحاكمون تبريرا من نوع ما للالتفاف على القانون . ويحدث هذا في كثير من الاحيان بحسن نية ، اذ يظن هؤلاء الحاكمون انهم يفعلون خيرا لشعبهم ونظامهم . ثمة وسائل عديدة توصلت اليها مجتمعات العالم لاعاقة تغول الدولة واستخدامها المتعسف للقانون والدستور ، من بينها وجود ثقافة عامة تأبى التسلط وتمانع من نمو النزعات الاستبدادية والاقصائية ، وتبلور مجتمع مدني منظم ونشط يحول دون تمركز مصادر القوة في يد الدولة او نخبة محددة .. الخ . هذه المفاهيم تنتمي جميعا الى نموذج الحكم المسمى بالديمقراطية الليبرالية .
تبعا لتلك القناعة بذل اولئك المفكرون جهودا حثيثة لاقناع مواطنيهم بالحاجة الى تطوير نظامهم السياسي كي يتخلص من العيوب التي ظهرت اثناء الممارسة العملية خلال العقد الاول من عمره . وركزوا خصوصا على مفاهيم مثل حاكمية القانون والمساواة وحقوق الانسان والمواطنة وما يماثلها . لكنهم واجهوا على الدوام من يعارض هذه الدعوة بحجة انها تتنافى مع المباديء الاسلامية . في حقيقة الامر فان بعض الفقهاء والمفكرين المحافظين لم يتردد ابدا في القول صراحة ومن دون اي مواربة ان الاسلام يجيز اقامة حكم استبدادي اذا كان مفيدا لضمان التزام المجتمع بتعاليم الدين[4] . وصرح آخرون بان لا حدود لسلطة وصلاحيات الفقيه الحاكم ولا رقابة لاحد عليه وهو غير مسؤول امام احد سوى الله . كما انكر فريق ثالث اي دور للشعب في تقرير سياسات البلد او اختيار حكامها ، فدور الشعب محصور – حسب هؤلاء – في دعم وتاييد وتشجيع الفقيه الحاكم المفوض من قبل الله . وقال بعضهم ان الاسلام لا يسمح بالمساواة المدنية بين المواطنين . ثمة مواطنون يمكن لهم ان يشغلوا المناصب العامة واخرون لا حق لهم ، فالناس ليسوا سواسية امام القانون . كل هذه الاراء - ونحن ننقلها عن مجتهدين بارزين – تستند الى تبريرات تبدو لاصحابها ولمن يتبعهم معقولة ومتينة وراسخة في التفكير الديني . لم تكن هذه الافكار مشكلة لو اقتصرت على المجادلات النظرية ، لكنها شكلت في واقع الامر مبررا واساسا لسياسات ومناهج عمل وتعرضت بسببها اطياف من الشعب واهل الراي فيه للتهميش والقمع والحرمان من الحقوق المدنية.
لهذا السبب وجد الكثير من الناس امامهم ازاء سؤال جدي: هل نقبل بحكم اسلامي مستبد؟. وهل يمكن ان يكون الحكم اسلاميا ومستبدا في الوقت نفسه؟. وهل تستحق الحكومة الاسلامية ان يتنازل الناس عن حريتهم وحقوقهم من اجل اقامتها واستمرارها ؟.
بالنسبة للمفكرين الاسلاميين فقد كان يشغلهم سؤال جوهري : هل ثمة امكانية لاستنباط نموذج حكم يلتزم بقيم الدين السامية ويحافظ على كرامة وحقوق المواطنين في الوقت نفسه ؟.
يدور هذا السؤال كما هو واضح حول امكانية التناسب بين الدين والديمقراطية ، اي حاكمية الله وسيادة الشعب . في الحقيقة فان طرح هذا السؤال قد اثار اهتمام العديد من اهل الفكر من رجال الدين والاكاديميين والسياسيين . وطرحت في سياق النقاش حوله اراء عديدة قيمة . ركز بعضها على الاطار الفقهي للسؤال ، وركز غيرها على الاطار الدستوري ، او السياسي ، او الاجتماعي . ولا شك ان ما كتب في هذا السياق من بحوث يمثل اضافة هامة للفكر الاسلامي المعاصر . واظن ان النقاشات الايرانية لهذا السؤال قد تجاوزت فعلا مستوى النقاش السائد بين الاسلاميين العرب ، من زاوية تفصيحها لنقاط الجدل والاشكالات ، ومن زاوية الحلول والمعالجات المقترحة .
****
ثمة نقد كثير يمكن ان يوجه للديمقراطية كنظام سياسي واجتماعي . في الحقيقة فانه لا يوجد من يتوهم ان النظام الديمقراطي هو المدينة الفاضلة . كما لا يتوهم احد بانها – كنظرية او نظام عمل - خالية من العيوب ، او انها يمكن ان تناسب جميع الناس في جميع الاوقات . اذا كان ثمة من يسعى لحلول سريعة وكاملة ونهائية ، فلن يجد مثل هذه الحلول في الديمقراطية ، فهي بالتاكيد ليست "عصا موسى". نقول ايضا لمن يسعى للعثور على دليل من القرآن او السنة على فضل الديمقراطية او فائدتها بان يوفر وقته فلن يجد مثل هذا الدليل .
الديمقراطية ببساطة هي منظومة عمل تقوم على قاعدة مفهومية واخلاقية خاصة ، غرضها الرئيس هو حل المعضلة التاريخية المتمثلة في العلاقة بين الحاكمين والمحكومين والتي يعكسها القول الماثور "من ملك استأثر". الذي جرى في تاريخ المسلمين كله ، ولا سيما في عصرهم الراهن ، ان الذين ملكوا لم يستأثروا بأملاكهم الشخصية دون الفقراء والمحتاجين ، بل استأثروا ايضا باملاك الناس ، اي المال العام والموارد المشتركة التي يتساوى في ملكيتها الغني والفقير والامير والخفير والسافل والنبيل . ولم يتوقف الامر عند هذا الحد ، بل سلبوا ايضا الحريات الطبيعية التي جعلها الله للناس يوم ولدتهم امهاتهم ، فاستأثروا هم ومن يدور في فلكهم بمصادر المعلومات والمعرفة وحرية التعلم والعمل والسفر والاتصال وغيرها .
د. عبد الكريم سروش
القاعدة المفهومية الاولى للنظام الديمقراطي هي ان الدولة ليست ملكا للحاكم او النخبة الغالبة ، بل هي مؤسسة اجتماعية تديرها الحكومة نيابة عن المجتمع ولمصلحته . وان النظام يقوم على عقد اجتماعي بين اعضاء المجتمع انفسهم من جهة وبينهم وبين حكامهم من جهة اخرى . بعبارة اخرى فان الدولة في المفهوم الديمقراطي ليست ملكا لشخص او فريق معين كي يستأثر به دون سائر خلق الله . بل هي هيئة اقامها المجتمع كي تدير مصالحه المشتركة كوكيلة عنه وممثلة له . ورجال الدولة موظفون عند المجتمع مسؤولون امامه وليسوا سادة له او جبابرة فوقه . يصل الحكام الى مناصبهم بارادة الناس ، ويحصلون على سلطاتهم وصلاحياتهم وفق تفويض علني واضح ومحدد الموضوع والزمان . قد يحكم رئيس الدولة او حكومته او نواب الشعب اربع سنين او خمس او اقل او اكثر ، لكنهم في نهاية المطاف بحاجة الى تجديد وكالتهم وتفويضهم ، فان رضي الشعب بهم والا نصب غيرهم في محلهم .
العقد الاجتماعي ليس ورقة تكتب وتنشر ، بل هو مبدأ فلسفي واخلاقي ، فحواه على وجه الدقة ان الناس جميعا شركاء في السلطة السياسية وفي الموارد العامة ، وانهم يديرونها ويقتسمون فوائدها بالرضا والتوافق ، وليس بالقهر والتجبر والغلبة . لا يوجد بين اطراف هذا العقد ، اي جميع افراد المجتمع ، من يتمتع بحق يزيد قليلا او كثيرا عن حقوق الاعضاء الاخرين . فالناس جميعا متساوون في المغانم والفرص كما انهم متساوون في المغارم والمسؤوليات . وهم متساوون لانهم اكفاء لبعضهم ، فليس فيهم ناقص وكامل ولا عادي وديلوكس ولا ابن حرة وابن أمة ، ولا اسود وابيض ، ولا جميل وقبيح ولا قبيلي وخضيري . كل الناس سواسية اكفاء لبعضهم ، وكلهم يتمتعون بنفس القدر من الحقوق الطبيعية والحقوق المدنية .

فكرة عن فصول الكتاب


يتألف هذا الكتاب من مساهمات لستة كتاب ، تدور جميعا حول التناسب بين الدين والديمقراطية ، ويعالج كل منها المسألة من زاوية خاصة . وأملنا ان تساهم بمجموعها في ايضاح الجوانب الاشكالية الرئيسية التي ينطوي عليها الموضوع . الفرضية الاولية في المقالات الستة جميعا هي ان الديمقراطية الدينية تركيب مفهومي ووظيفي من عنصرين متمايزين عن بعضهما في المصدر والمعنى والتاثير ومجال الاشتغال. كما تفترض ايضا ان هذا التركيب ممكن على المستوى النظري والعملي. بمعنى انه يمكن اقامة نظام سياسي يجمع بين المباديء الكبرى للديمقراطية والقيم العليا للاسلام. الديمقراطية كما هو معروف ليست مفهوما صلبا احادي المعنى. ثمة نماذج عديدة ، لكن الكتاب الستة يركزون جميعا على عنصر "حاكمية الشعب" كجوهر لمفهوم الديمقراطية الذي يتبنونه. ويتضمن هذا المفهوم عددا من العناصر الاساسية ابرزها المشاركة العامة ، حاكمية القانون ، الحريات المدنية ، والمساواة. الدين هو الاخر ينطوي على افهام وتطبيقات عديدة ، يدعى كل منها اصابته لحقيقة التنزيل ومراد الخالق. لكن المساهمين يتفقون على الحاجة الى فهم للدين يتناسب مع النموذج الديمقراطي. الحكومة الدينية يمكن ان تكون فردية او نخبوبة او ديمقراطية ، وما يميز هذه عن تلك هو المنهج المتبع في تفسير القيم الدينية واستنباط الاحكام والقوانين.

بعبارة اخرى فان التوصل الى تركيب مناسب للدين والديمقراطية ، يحتاج الى فهم للدين يسمح بهذا التركيب ، كما يحتاج من جهة ثانية الى تعديل في مفهوم الديمقراطية كي يتناسب مع المضمون الديني الذي سيصبح جزءا من المنظومة القيمية للنظام السياسي. بناء على هذا فان الباحثين الستة يؤكدون على الحاجة الى قراءة جديدة للدين ، مختلفة منهجيا ومن حيث الاغراض عن القراءة الموروثة. ولعل ابرز ما يميز القراءة المقترحة هو خروجها عن اطار الفهم التقليدي للدين الذي يعتبر الفقه محور التدين او تجسيده الرئيسي في الحياة العامة. الفقه هو احد الاجزاء الرئيسية للدين ، لكن الدين اوسع من ان ينحصر في حدوده. تتعامل هذه المقالات مع الدين باعتباره جزءا اساسيا في تشكيل الهوية ، ومصدرا للاخلاقيات والمثل التي تغني الحياة الانسانية ، وهو بالتالي ضرورة لاي نظام سياسي في مجتمع مسلم ، وحسب تعبير سروش فان اي حكومة في مجتمع ديني لا بد ان تكون دينية كي تكون ديمقراطية ، فاول معاني الحكومة الديمقراطية هو تمثيلها لثقافة المجتمع وقيمه وتطلعاته.

Dr. Ali Paya
يبدأ الكتاب بمقالة لاية الله شبستري تمثل مفتاحا للنقاش حول الديمقراطية في مجتمع مسلم ، فهي تعالج السؤال الذي يبدو بديهيا عند الكثير من الناس : لماذا نهتم بالديمقراطية؟ ، هل ثمة داع جدي لمناقشتها وهل نحتاجها كمسلمين ؟ . في الاجابة على هذا السؤال يستعمل الكاتب منهجا يركز على الربط بين الغايات والوسائل . وينطلق في هذه الرؤية من منهج التاويل الفلسفي philosophical hermeneutics الذي يتبناه ويدعو اليه ، وهو منهج في فهم النص الديني شائع بين الفلاسفة الدينين في اوربا. طبقا لهذا المنهج فان الرسالة الداخلية للنص هي الجزء المهم منه وليس بنيته اللغوبة او الرمزية . ويشدد شبستري على الحاجة الى منهج جديد في الاجتهاد والاستنباط وفهم القواعد والقيم الدينية وتفسيرها ، يتمحور حول غايات تلك القيم والقواعد وليس اطارها الشكلي او صورتها الخارجية . ومن هذه الزاوية فهو يدعو الى مقارنة تجريبية تتمثل في سؤال بسيط : اين يمكن للمسلم ان يعيش حياته الدينية بصورة افضل ، في ظل حكم يضمن حقوقه وحريته او حكم استبدادي يحرمه من تلك الحقوق والحريات؟. ويخلص شبستري الى ان الديمقراطية ليست فقط نظاما فاضلا لادارة الشأن العام ، بل هي ايضا ضرورة للحياة الدينية للفرد والجماعة .
اما مقالة الدكتور محسن كديور فتقدم صورة بانورامية عن فكرة الديمقراطية الدينية ، محتواها وما يميزها عن غيرها من الديمقراطيات وغير الديمقراطيات. كما تؤكد على امكانية تنسيجها في نظام القيم الدينية ، بشرط اتباع منهج مناسب في الاجتهاد. وتعرض ايضا مقارنة موجزة بين قراءتين : تقليدية يستحيل التوصل الى قبول للديمقراطية في اطار مستخلصاتها ، وقراءة جديدة يمكن على ضوئها ادماج القيم الدينية في نظام ديمقراطي.
يركز مقال الدكتور عبد الكريم سروش على الاطار المعرفي – الزمني لسؤال السلطة ، فهو يبدأ بالاشارة الى التحولات الكبرى التي اثمر عنها ظهور "العلم الحديث" ، ولا سيما انهيار النظريات الجزمية حول الكون والانسان ، وهيمنة الاتجاه النسبي والنقدي الذي ينظر الى كل شيء في الكون كموضوع للعلم والتحليل. ادى هذا التحول الى تغير قيمة الانسان ونظرته لنفسه ومكانه وبالتالي لمعادلة العلاقة بين حقوقه وواجباته. نتيجة لذلك فقد حل العلم مكان الدين كمرجع للمعرفة والقيمة ، واصبح الانسان – وليس الخالق – محور القيم وغايتها. بعبارة اخرى فان الانسان المعاصر يتطلع الى السلطة السياسية كمخلوق ارضي لا كهبة من السماء منحت لشخص او اشخاص معينين يحكمون كممثلين لله او نوابا عنه. ويعتقد سروش ان جوهر الحكم الديمقراطي الديني يتمثل في الجمع بين رضا الخالق ورضا المخلوقين. ويقترح محورين لتجسيد واختبار هذه المعادلة ، هما الاخذ بفهم ديني يقوم على الجمع بين العقل والشرع ، والالتزام بحقوق الانسان الطبيعية والدستورية.
د. علي رضا علوي تبار
مقالة الدكتور علي رضا علوي تبار هي تكثيف للمفاهيم الفلسفية الاساسية التي يقترح اعتمادها في البحث عن نموذج ديمقراطي ديني. وهو يعرض في هذا الصدد الجانب المتعلق بالسلطة من نظرية الدكتور سروش المعروفة بنظرية "القبض والبسط في الشريعة". ويشير خصوصا الى اربعة عناصر فيها ، هي نفي الرؤية المثالية للعالم ، والتركيز على المجتمع بدلا من الدولة في دراسة السلطة الدينية ، والتاكيد على نسبية وتاريخية المعرفة الدينية ، واخيرا الفصل بين الديمقراطية كمنتج معرفي انساني وبين الاطار التاريخي الذي ولدت فيه. رغم اهتمام علوي تبار بالارضية المادية للنظام الديمقراطي ، فانه يدعو الى عدم التقليل من اهمية الارضية الذهنية والمعرفة التي قد تدعم او تعيق القبول بالديمقراطية كنظام للادارة ، لا سيما في المجتمعات التقليدية المسكونة بطبعها بالريبة تجاه الافكار المستوردة والجديدة. تدور مقالة الدكتور علي بايا حول معنى الوصف الديني للديمقراطية ، وتعالج المسألة من زاوية فلسفية وسوسيولوجية تتمحور حول المضمون الثقافي والرمزي للعلاقة بين المجتمع وما يقيمه من مؤسسات (سياسية مثل الديمقراطية او اقتصادية مثل البنك او غيرها) ، ولا سيما كيفية انتقال المعنى والقيمة من المجتمع الى العناصر والمركبات الفارغة اصلا من اي معنى خاص او قيمة محددة . ويقترح الدكتور بايا معالجة تجريبية لمفهوم الديمقراطية الاسلامية ، اي اعتبارها برنامجا بحثيا متصاعدا وليس مفهوما صلبا او نهائيا . في هذا الاطار فهو يركز على اهمية النقد والكشف عن الاخطاء من خلال الممارسة والتفاعل بين النظرية والتطبيق والتوسع التدريجي . تسعى مقالة توفيق السيف لتحديد بواعث قلق الفقهاء من تحديث النظام السياسي ولا سيما اعادة تاسيسه على حاكمية الشعب وضمان الحريات المدنية للمواطنين . وهي تعرض هذا من خلال مقارنة بين اراء اربعة من الفقهاء البارزين خلال الثورة الدستورية (1905-1906) . هذه المقالة هي اشبه بدراسة حالة ، اذ تعرض اراء فقهاء في مستوى متقارب في ظرف زمني وسياسي واحد يتناقشون جميعا حول نفس المسألة ، وبالتالي فان اراءهم تعبر عن تفاعل مباشر بين المرجعية النظرية والموضوع السياسي القائم . وتستهدف المقالة اضافة الى ما سبق ، بيان ان المجتمع الديني قادر على استنباط حلول ذات اساس ديني متين للاشكالات النظرية التي يطرحها معارضو الديمقراطية وحقوق الانسان .

المشاركون في هذا الكتاب


القاسم المشترك بين كتاب هذه المقالات هو انتماؤهم الى شريحة من المفكرين المهمومين بالاصلاح الديني . وهي شريحة تجمع بين الخلفية الاكاديمية والنشاط في الحقل الاجتماعي والسياسي . فهي من هذه الزاوية بمثابة حلقة وصل بين النخبة وجمهور الشباب المقبل على الحياة . وهي من ناحية ثانية وسيط بين العرف الاجتماعي الملتصق بالتراث والتقاليد الدينية ، وبين دائرة العلم الحديث المليئة بالتحديات لذلك التراث والتقاليد . لكلا السببين فليس من المستغرب ان تجد في كتاباتهم نزعة تجريبية ، تسعى لوضع فرضيات واحتمالات مختلفة وتناقشها من دون ان تعطي احكاما نهائية . بعبارة اخرى فانها تتعامل مع الفكر الديني كعلم قابل للنقد والتطوير لا كفتوى او حكم نهائي. وهي لا تنظر الى المشكلات النظرية كشبهات او غزو ثقافي بل كتحد يتوجب فهمة واستيعابه وتقديم الاجابة عليه . اخيرا فان المقاربات التي يعرضها الكتاب لا تنتمي الى عالم المجردات بل هي قضايا مطروحة للنقاش على المستوى العلمي وعلى المستوى الاجتماعي بين عامة الناس.

ولد عبد الكريم سروش في 1945 ودرس في طهران ولندن. ثم عمل استاذا للفلسفة في جامعة طهران وجامعتي هارفرد ويال الامريكيتين ، وعضوا في مجلس الثورة الثقافية الذي كلفه اية الله الخميني باصلاح مناهج التعليم الجامعي. عبر سروش عن تيار في الاصلاح الديني طالما اثار الجدل . اشتهر بنظريته في المعرفة الدينية التي عرضها في كتاب "قبض وبسط تئوريك شريعت" وهي تركز على دور الظروف الموضوعية في تشكيل مفهوم النص الديني وتطبيقاته. طبقا لهذا الرؤية فان فهم الانسان للنص واعادة انتاج مضمونه من خلال سلوكه اليومي ، يخضع لعوامل موضوعية تتعلق بالشخص والبيئة المحيطة ، وبالتالي فلا بد ان يكون الفهم الناتج شخصيا ، نسبيا ، ومتحولا ، وليس عاما او معياريا او ثابتا على مر الازمان واختلاف الظروف. تأثر سروش بنظرية المعرفة التي طورها الفيلسوف البريطاني كارل بوبر ، ولا سيما تركيزه على مرحلية العلم وكونه احتمالا وليس معرفة نهائية . كما اهتم سروش بتفنيد دعوى السلطة المستندة الى العلم المطلق ، القداسة ، والكمال الانساني ، باعتبارها جميعا تقود الى الاستبداد المغطى بعباءة العلم او الدين. وهي ايضا من اعمدة الفلسلفة السياسية لكارل بوبر . اضافة الى كتابه المذكور اعلاه ، نشر سروش عددا من الاعمال الهامة ، مثل : بسط تجربه نبوي ، فربه تر از ايديولوجي ، صراطهاي مستقيم ، وغيرها .
ولد محسن كديور في 1959 . درس الهندسة الكهربائية في جامعة شيراز وتخرج منها في 1977 . ثم اتجه الى دراسة العلوم الدينية في قم وحصل على درجة الاجتهاد. في الوقت نفسه واصل دراسته الاكاديمية وحصل على درجة الدكتوراه في 1999. عمل مدرّسا في حوزة قم العلمية . ثم في قسم الفلسفة بجامعة اعداد المعلمين – طهران. سجن عاما ونصف بسبب نقده للاستبداد الديني وممارسة العنف باسم الدين. اضافة الى كتابه "نظريات الدولة في الفقه الشيعي" الذي ترجم الى العربية ، كتب كديور نحو عشرة كتب في الفلسفة والفكر السياسي الديني ، من بينها دغدغهاي حكومت ديني ، دفتر عقل ، حكومت انتصابي ، وغيرها .
ولد الدكتور علي رضا علوي تبار في شيراز عام 1960. ودرس الاقتصاد النظري ، وحصل على الدكتوراه في التخطيط العام . عمل في مركز البحوث الاستراتيجية ، لكن سبب شهرته يرجع في المقام الاول الى كتاباته الصحفية التي كشفت عن قدرة مثيرة للاعجاب على تحليل السلوك السياسي وما ينطوي عليه من مضمون ثقافي وعلائقي . ترأس تحرير صحيفة صبح امروز الاصلاحية . وهو يعمل حاليا كاستاذ في المعهد العالي للتخطيط والتنمية ، اضافة الى نشاطه السياسي ضمن حزب مشاركت ، اكبر الاحزاب الاصلاحية في ايران والذي كان بين مؤسسيه عام 1999.
يعتبر محمد مجتهد شبستري واحدا من المفكرين المؤثرين في ايران . ولد في 1936 ، ودرس منذ نعومة اظفاره في حوزة قم العلمية . عمل محررا لمجلة "مكتب اسلام " الصادرة في قم حتى 1975 حين انتقل الى المانيا حيث عمل مديرا للمركز الاسلامي في هامبورغ واطلع على التيارات الفلسفية الرائجة في المانيا ، وتأثر خصوصا بالفلاسفة الدينيين . حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة ومرتبة الاجتهاد في الفقه ، ودرس في جامعة طهران حتى منتصف 2006 حين احيل على التقاعد . من ابرز كتبه : نقد القراءة الرسمية للدين ، الدين والحرية ، وهرمنيوتيك ، كتاب وسنت. وتدور معظم ابحاثه حول نقد مناهج البحث الفقهي التقليدية والدعوة الى منهج جديد في الاجتهاد .
يعمل الدكتور علي بايا استاذا زائرا في جامعة وستمنستر البريطانية ، وعمل قبلها استاذا للفلسفة في جامعة العلامة الطباطبائي – طهران ، اضافة الى عضويته في مركز بحوث التعليم العالي . ويعتبر واحدا من ابرز ممثلي الجيل الجديد من الفلاسفة الايرانيين . اسس حديثا مركزا لدراسة المستقبليات وعلوم المستقبل . نشر العديد من الكتب باللغتين الفارسية والانكليزية يدور معظمها حول الفلسفة التحليلية التي يتبناها . تهتم الفلسفة التحليلية باللغة والمنطق ، وتركز على معاني ومفهومات الاشياء كما تظهر في اللسان واللغة بدلا من البحث في الاشياء ذاتها . وقد ظهرت كرد على الفلسفات المثالية لصامويل كانت وهيجل . بدأ هذا المنهج مع مور وبرتراند راسل ووصل ذروته مع صعود الوضعية المنطقية او فلسفة العلوم ، كما حصلت على رواج بعد بروز ويتكنشتاين. نشر بايا عددا من الكتب والمقالات العلمية بالفارسية والانكليزية ، يدور معظمها حول قضايا الفلسفة التحليلية ، ومن بينها : Dialogue in a Real World (2002), Analytic Philosophy: Problems and Prospects (2003), Models of Explanation (2003).
ولد توفيق السيف في 1959 ودرس العلوم الدينية ، قبل ان تجتذبه هموم السياسة وحقوق الانسان . انتقل اهتمامه منذ اوائل التسعينات الى دراسة الفكر السياسي الديني . حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية ، ونشر عددا من المقالات والكتب تستهدف في مجملها اختبار قابلية المفاهيم الدينية السائدة لاستيعاب تحديات الحداثة والعمل في مجتمع تعددي ديمقراطي . من بينها: هوامش نقدية على واقعنا الثقافي ، ضد الاستبداد ، نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، الحداثة كحاجة دينية.
يرغب الكتاب الستة جميعا في اقامة حوار نقدي مع القاريء . ويسعون من خلال مساهماتهم في هذا الكتاب الى اثارة الاسئلة ومشاركة القراء في مناقشتها والتفكير فيها . ولهذا فهم لا يعتبرون مقولاتهم أجوبة نهائية على المسائل المطروحة ، فهي مثل كل المقولات العلمية الاخرى لا تزيد عن كونها احتمالا ، قد يتطابق مع الواقع في جانب او يتعارض معه في كل الجوانب . وقد تبدو صالحة في زمن معين او ظرف معين ، لكنها قطعا ليست كلمة واحدة لكل العصور . انها بمثابة جسر يصعد عليه القاريء في مرحلة من الطريق ، لكن عليه ان يعتمد على عقله في المراحل الاخرى . انها اشبه بعلامات على الطريق غرضها المساعدة في تحديد المسار ، اما الوصول الى النهايات المرجوة فهو يعتمد اولا واخيرا على جهد فكري يشترك فيه الجميع . اول طريق الديمقراطية هو المشاركة وتفعيل العقل الجمعي ، ومقتلها هو التوقف او الجمود عند فكرة او تقديس قائلها والتحرز من نقده والاعتراض عليه .
توفيق السيف



[1] لبعض التفاصيل عن هذه النقاشات ، انظر اموى ، بهمن : اقتصاد سياسى جمهوري اسلامي ، (تهران 2003) ، ص 42
[2] انظر بهذا الصدد السيف ، توفيق: نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، ( بيروت 2002) ، ص 135
[3] شبستري ، محمد مجتهد : نقدى بر قراءت رسمى از دين ، (تهران 2000) ، ص 186
[4] انظر مثلا تصريحات الشيخ محسن غرويان في حجاريان ، سعيد : جمهوريت (تهران 2000) ص 786

 

المادة التالية :
الفصل الاول : الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية          محمد مجتهد شبستري



رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...