20/04/2010

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم



؛؛ في كل عصر يطور البشر مفهومات جديدة تتفاعل في الوقت نفسه مع تراثهم ومع ثقافتهم الراهنة، لكن الصيغة التي يطورونها لتلك المفاهيم هي الصورة التي تعبرعن زمنهم وواقعهم؛؛




تعرف المجتمع العربي على مباديء حقوق الانسان منذ زمن طويل نسبيا. لكنها مع ذلك لا تزال موضوع جدل عريض بين الباحثين في المجال الاسلامي و السياسة العربية. ويدور معظم الجدل حول موقف الدين من تلك المباديء وما اذا كان ممكنا الرجوع الى التراث الاسلامي لاعادة انتاج المفاهيم المعاصرة على ارضيته او في اطاره. لا شك ان تراثنا القديم يتضمن بعض الاساسات المناسبة لبناء منظومة قيم ومباديء تضمن حقوق الانسان. لكن من المبالغة اعتبار تلك الاساسات منظومة كاملة او قابلة لحل اشكاليات الموضوع في صورته المعاصرة.
لاحظ المفكر المغربي عبد الله العروي ان قدامى الاسلاميين قد ناقشوا مسألة الحرية التي تمثل المبدأ الاول في منظومة حقوق الانسان من زاويتين : اولاهما ضمن اطار الجدل المعروف حول الجبر والاختيار، أي استقلال الفرد بارادته، وبالتالي فعله، او كون ارادة الفرد وفعله امتدادا مباشرا لارادة الخالق. 
اما الزاوية الثانية فدار النقاش فيها حول الدوافع الداخلية للفعل الفردي، ومدى قدرة الانسان على التحكم في نزعاته الانفعالية، وهو ما يعرف في الفلسفة بالعلاقة بين النفس العليا والنفس الدنيا. واهتم بالزاوية الاولى المتكلمون بينما اهتم بالثاني المتصوفون والفلاسفة ولا سيما في اطار نظرية الكمال الذاتي التي تحدث عنها ابن عربي وغيره.
في كلا الزاويتين عولج موضوع الحرية كشأن فردي. موضوع النقاش ضمن الزاوية الاولى، اي حصة الفرد من المسؤولية عن فعله، مثل موضوع الزاوية الثانية، اي قدرته على بلوغ الكمال من خلال قهر شهواته والتزام القيم العليا في افعاله، كلاهما يشير الى حرية الفرد في ذاته وضمن عالمه الخاص المنفصل عن الجماعة. اما موضوع الحرية وحقوق الانسان الذي يتحدث عنه العالم اليوم فهو يدور حول التزاحم بين ارادة الفرد وارادة الجماعة. يقصد بالحرية في المفهوم المعاصر "المساحة التي يتمتع الفرد فيها بحق التصرف من دون تدخل الاخرين، بل ومن دون الحاجة الى استئذانهم". حقوق الانسان تعني ان المجتمع والقانون يقر لكل فرد بتلك المساحة باعتبارها حقا يضمنه القانون ويمنع سلبه او خرقه او استنقاصه او العدوان عليه. 

ايا كان راينا في المفهوم التراثي للحرية وحقوق الانسان، فلسنا بحاجة الى مناقشته الان. لان جميع المسلمين المعاصرين، التقليديين منهم والحداثيين، يرون في ضمان حرية الانسان وحقوقه الاساسية مسلمات شرعية وعقلية، فوق كونها ضرورة لانتظام الحياة الاجتماعية وارتقاء المجتمع.
لكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقول المثل الانجليزي. فوراء التسليم بالحرية وحقوق الانسان، ثمة مجادلات عريضة حول معنى تلك الحقوق وحدودها، ومرجعيتها، وما يترتب عليها من واجبات وما يلزم ارفاقها بها من ضوابط.. الخ. في هذه المجادلات تعود الحاجة الى قراءة التراث المتعلق بالموضوع. فالذين يجادلون الفكرة يبحثون عن مرجعية لها او هم يستندون الى مرجعية يتصورنها اطارا مناسبا لفهم الفكرة والتعبير عنها. من هنا فقد اقترح بعض المفكرين التمييز بين ما سبق درسه في التراث الاسلامي وما لم يطرح فيه. 
في الحالة الاولى اقترحوا تطوير الافكار او البناء عليها، واقترحوا للثانية الرجوع الى القواعد العامة في التشريع او تحكيم العقل رجوعا الى اصل البراءة او الاباحة او عدم التكليف.
في كلا الحالين فاننا بحاجة الى الاهتمام بالفوارق بين ذهنيتنا وذهنية من ننقل عنهم، اي بين عصرنا وعصرهم. ذلك ان كل مسالة هي نتاج الظرف الخاص الذي ولدت فيه، وكل جواب هو ثمرة الثقافة والهموم السائدة في بيئة السائل والمجيب، ونعرف ان هذه تختلف بين عصر واخر ومكان واخر، فكيف اذا كنا نتحدث عن فارق زمني يبلغ عدة قرون.
كثير من المفاهيم التي نتحدث عنها اليوم هي نتاج لتطور الثقافة الانسانية، وكثير منها لم يكن مطروحا لا بلفظه ولا بمضمونه، وبعضها له مضمون بلفظ اخر او ان فكرته مبثوثة في سياقات اخرى. لا يمكن لنا ان نستخرج من التراث نظرية تطابق ما نتحدث عنه اليوم. وليس هذا مطلوبا ولا سليما. في كل عصر يطور البشر مفهومات جديدة تتفاعل في الوقت نفسه مع تراثهم ومع ثقافتهم الراهنة، لكن الصيغة التي يطورونها لتلك المفاهيم هي الصورة التي تعبرعن زمنهم وواقعهم. استعمال المسميات التي تشي باصول تاريخية ليس امرا ضارا ، فهو يسهم في جعل المفهوم الجديد مالوفا وقابلا للفهم من جانب المتلقين. لكن على اي حال علينا ان نوضح الفارق بين النقل عن التاريخ وبين استخدام صوره او رموزه.


مقالات ذات علاقة


تحولات التيار الديني – 4 الخروج من عباءة الاموات

حين تسمع باسم "السلفية" فان اول الصور التي ترد الى ذهنك هي صورة الماضي . صحيح ان السلفيين ينسبون هذا الوصف الى التزامهم بمرجعية السلف ، اي اهل القرون الثلاثة الاولى بعد البعثة المحمدية ، الا ان الانطباع السائد يفهمه كاشارة الى انكار الجديد والمعاصر. على اي حال فان الاسم يبقى مجرد عنوان ، وقد يتغير مضمونه بين حين وآخر او بين مكان وآخر. ما هو مهم في هذا الصدد هو قابلية التيار الديني السلفي للتحرر من ثقافة الماضي وتقاليده ، والانتماء الى العصر الحاضر بما فيه من سبل عيش وهموم وانشغالات ومعارف ونظم انتاج وقيم وعلاقات.

الشيخ عبد الرحمن البراك

الانشغال بالماضي لن يضمن الصفاء العقيدي او الثقافي كما يتصور البعض . انه مجرد ارتباط افتراضي يشبه الهندسة العكسية. اي النظر الى الحاضر ثم تجريده من بعض ما يعتقد الانسان انه جديد ومبتدع . هذا يؤدي الى انفصال شعوري عن الواقع دون ارتباط واقعي بالماضي. ومثل هذه الحالة تثير الكثير من المشكلات الثقافية والنفسية وقد تؤدي الى احد اشكال الاغتراب ، ولا سيما انكار الذات بوصفها جزء من واقع قائم ، او انكار الواقع باعتباره وعاء للذات.

بعض شيوخ السلفية يرفضون بالجملة مقولة المعاصرة ، وهم يرونها قرينا للتراجع او الانهزام في مواجهة المد اللاديني. وفي اخر بياناته ندد الشيخ عبد الرحمن البراك بمن وصفهم بالعصرانيين ، اي رجال الدين والناشطين الدينيين الذين يدعون الى التجديد . وشهدت السنوات الماضية نشر العديد من الكتب والمقالات التي تندد بهذا الاتجاه ، حتى اصبح وصف "العصراني" مرادفامخففا للعلماني او الليبرالي .

لكن يبدو ان هذا هو اتجاه الاقلية. وثمة في مقابلها شريحة تتسع بالتدريج ، تسعى الى الانفتاح على العصر ومكتسباته ومواجهة اشكالاته بطريقة او باخرى. بعض السلفيين الجدد يفهم المعاصرة باعتبارها موضوع "علاقات عامة" او وسيلة لتصحيح صورة التيار السلفي ، ومفهومها ينصرف عنده الى "تحسين طرق العرض والتعامل" ، وليس الى تجديد الافكار والمتبنيات والمناهج. تحسين العلاقات العامة هو امر طيب ، لكنه لا يؤدي الى تطوير التيار الديني ، ولا يجعله اكثر قدرة على البقاء والتجدد.

اذا اراد التيار الديني تجديد نفسه فانه يحتاج اولا الى مراجعة تصوراته عن ذاته وعن العالم المحيط ، كي يبنى علاقة سليمة معه. لا زال نشطاء هذا التيار ينظرون الى انفسهم كحراس للحقيقة الدينية ضد الاخرين الجاهلين بها او المتامرين عليها . يتجسد هذا التصور عادة في التركيز المبالغ فيه على الجانب العقيدي من الدين ، والتذكير الدائم بالحدود الفاصلة بين النسخة السلفية من العقيدة وعقيدة المسلمين الاخرين. من المفهوم ان هذا التركيز غرضه حمائي في الاساس ، لكنه قاد السلفيين – بوعي منهم او غفلة - الى منزلق التكفير الذي اصبح مثل ماركة مسجلة للادبيات السلفية ، فكل فتوى او مقال او كتاب او اعلان موقف ، يتضمن وصما لجهة ما بالكفر او تحذيرا من الكفر او كلاما عن الكفر.

 لا يمكن اختصار الاسلام في العقيدة ، ولا يمكن اختصار المسلمين في الجماعة السلفية ، كما لا يمكن لاحد كائنا من كان ادعاء وحدانية الحقيقة ولا تقزيمها وحصرها في طريق احادي الاتجاه. ونعرف من تاريخ البشرية المعاصر ان الكنيسة الكاثوليكية قد خسرت مكانتها ونفوذها وخسرت ملايين المؤمنين بدينها بسبب انتهاجها لهذا الطريق . البديل السليم هو تبني مبدأ "التسامح" . التسامح ليس السلوك اللين او التواضع او اللطف في الكلام ، بل هو بالتحديد : "اعتبار حقي في تبني مذهبي الخاص مساويا لحق غيري في تبني مذهبه الخاص" ، اي الاقرار للناس بالحق في الايمان بما تمليه عليهم عقولهم وضمائرهم. قد نرى ما عندنا خيرا مما عند غيرنا ، لكن لا يصح ان نصم المختلف عنا بالردة والخروج عن الملة، لانه تمهيد للقطيعة وربما الحرب ، كما حصل في  العراق وغير العراق.

اذا فهم السلفيون انفسهم كفريق من المسلمين ، لهم – مثل غيرهم – حق اختيار عقائدهم ومناهج حياتهم ، فانهم  سيرون عصرهم ومن يعيش فيه بعيون مختلفة ، وسوف يكتشفون عند الاخرين الكثير مما يستحق التامل والتفكير ، وعندئذ سوف يتحولون من حراس لتراث الماضين الى شركاء في بناء المجتمع المسلم في هذا العصر المختلف.  



نشر في الايام  العدد 7680 | الثلاثاء 20 أبريل 2010 الموافق 5 جمادى الأولى 1431هـ

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...