20/04/2010

تحولات التيار الديني – 4 الخروج من عباءة الاموات

حين تسمع باسم "السلفية" فان اول الصور التي ترد الى ذهنك هي صورة الماضي . صحيح ان السلفيين ينسبون هذا الوصف الى التزامهم بمرجعية السلف ، اي اهل القرون الثلاثة الاولى بعد البعثة المحمدية ، الا ان الانطباع السائد يفهمه كاشارة الى انكار الجديد والمعاصر. على اي حال فان الاسم يبقى مجرد عنوان ، وقد يتغير مضمونه بين حين وآخر او بين مكان وآخر. ما هو مهم في هذا الصدد هو قابلية التيار الديني السلفي للتحرر من ثقافة الماضي وتقاليده ، والانتماء الى العصر الحاضر بما فيه من سبل عيش وهموم وانشغالات ومعارف ونظم انتاج وقيم وعلاقات.

الشيخ عبد الرحمن البراك

الانشغال بالماضي لن يضمن الصفاء العقيدي او الثقافي كما يتصور البعض . انه مجرد ارتباط افتراضي يشبه الهندسة العكسية. اي النظر الى الحاضر ثم تجريده من بعض ما يعتقد الانسان انه جديد ومبتدع . هذا يؤدي الى انفصال شعوري عن الواقع دون ارتباط واقعي بالماضي. ومثل هذه الحالة تثير الكثير من المشكلات الثقافية والنفسية وقد تؤدي الى احد اشكال الاغتراب ، ولا سيما انكار الذات بوصفها جزء من واقع قائم ، او انكار الواقع باعتباره وعاء للذات.

بعض شيوخ السلفية يرفضون بالجملة مقولة المعاصرة ، وهم يرونها قرينا للتراجع او الانهزام في مواجهة المد اللاديني. وفي اخر بياناته ندد الشيخ عبد الرحمن البراك بمن وصفهم بالعصرانيين ، اي رجال الدين والناشطين الدينيين الذين يدعون الى التجديد . وشهدت السنوات الماضية نشر العديد من الكتب والمقالات التي تندد بهذا الاتجاه ، حتى اصبح وصف "العصراني" مرادفامخففا للعلماني او الليبرالي .

لكن يبدو ان هذا هو اتجاه الاقلية. وثمة في مقابلها شريحة تتسع بالتدريج ، تسعى الى الانفتاح على العصر ومكتسباته ومواجهة اشكالاته بطريقة او باخرى. بعض السلفيين الجدد يفهم المعاصرة باعتبارها موضوع "علاقات عامة" او وسيلة لتصحيح صورة التيار السلفي ، ومفهومها ينصرف عنده الى "تحسين طرق العرض والتعامل" ، وليس الى تجديد الافكار والمتبنيات والمناهج. تحسين العلاقات العامة هو امر طيب ، لكنه لا يؤدي الى تطوير التيار الديني ، ولا يجعله اكثر قدرة على البقاء والتجدد.

اذا اراد التيار الديني تجديد نفسه فانه يحتاج اولا الى مراجعة تصوراته عن ذاته وعن العالم المحيط ، كي يبنى علاقة سليمة معه. لا زال نشطاء هذا التيار ينظرون الى انفسهم كحراس للحقيقة الدينية ضد الاخرين الجاهلين بها او المتامرين عليها . يتجسد هذا التصور عادة في التركيز المبالغ فيه على الجانب العقيدي من الدين ، والتذكير الدائم بالحدود الفاصلة بين النسخة السلفية من العقيدة وعقيدة المسلمين الاخرين. من المفهوم ان هذا التركيز غرضه حمائي في الاساس ، لكنه قاد السلفيين – بوعي منهم او غفلة - الى منزلق التكفير الذي اصبح مثل ماركة مسجلة للادبيات السلفية ، فكل فتوى او مقال او كتاب او اعلان موقف ، يتضمن وصما لجهة ما بالكفر او تحذيرا من الكفر او كلاما عن الكفر.

 لا يمكن اختصار الاسلام في العقيدة ، ولا يمكن اختصار المسلمين في الجماعة السلفية ، كما لا يمكن لاحد كائنا من كان ادعاء وحدانية الحقيقة ولا تقزيمها وحصرها في طريق احادي الاتجاه. ونعرف من تاريخ البشرية المعاصر ان الكنيسة الكاثوليكية قد خسرت مكانتها ونفوذها وخسرت ملايين المؤمنين بدينها بسبب انتهاجها لهذا الطريق . البديل السليم هو تبني مبدأ "التسامح" . التسامح ليس السلوك اللين او التواضع او اللطف في الكلام ، بل هو بالتحديد : "اعتبار حقي في تبني مذهبي الخاص مساويا لحق غيري في تبني مذهبه الخاص" ، اي الاقرار للناس بالحق في الايمان بما تمليه عليهم عقولهم وضمائرهم. قد نرى ما عندنا خيرا مما عند غيرنا ، لكن لا يصح ان نصم المختلف عنا بالردة والخروج عن الملة، لانه تمهيد للقطيعة وربما الحرب ، كما حصل في  العراق وغير العراق.

اذا فهم السلفيون انفسهم كفريق من المسلمين ، لهم – مثل غيرهم – حق اختيار عقائدهم ومناهج حياتهم ، فانهم  سيرون عصرهم ومن يعيش فيه بعيون مختلفة ، وسوف يكتشفون عند الاخرين الكثير مما يستحق التامل والتفكير ، وعندئذ سوف يتحولون من حراس لتراث الماضين الى شركاء في بناء المجتمع المسلم في هذا العصر المختلف.  



نشر في الايام  العدد 7680 | الثلاثاء 20 أبريل 2010 الموافق 5 جمادى الأولى 1431هـ

15/04/2010

وجهات "الخطر" وقهر العامة


الصديق د. عبد الرحمن الوابلي (الوطن 9 ابريل 2010) عاتب على الشيخ سلمان العودة فكرة "التكافؤ الثقافي" التي اطلقها في برنامجه التلفزيوني الاسبوعي "الحياة كلمة" (تلفزيون MBC    في 2 ابريل 2010). كان العودة يجيب سائلة حول صحة زواج فتاة سنية برجل شيعي. والمعروف ان بعض قدامى الفقهاء قد رفضوا التزاوج بين اتباع الاديان والمذاهب المختلفة. وبعضهم ركز على منع زواج الفتيات اللاتي يتبعن مذهبه من رجل يتبع مذهبا آخر ، لان الفهم السائد يعتبر المرأة طرفا ضعيفا في العائلة وانها – لذلك – سوف تترك مذهبها الى مذهب الزوج.

المرحوم د. عبد الرحمن الوابلي. انتقل الى رحمة الله في مارس 2016

هذي بطبيعة الحال ليست نصا قطعيا بل اجتهاد توصل اليه فقهاء سابقون بناء على ما تيسر لهم من معرفة او دليل. لكن الفتوى بقيت متداولة عبر الزمن حتى وصلت الينا . ولان اكثر فقهائنا يخشون من مخالفة الماضين ، فقد اخذ بها كثير منهم ، وعارضها بعضهم باجتهاد جديد. الدكتور الوابلي يعارضها من زاوية المصلحة ، فهو لا يجادل في ادلتها ، بل في ما يترتب عليها . ولعل بعض الناس يجادل بان المصلحة ليست حجة في الشرع ، او ان المصالح هي ما عرفه الشرع او اهل الشريعة دون غيرهم ، وبناء عليه يرفض كلام الوابلي ونظرائه.

لكننا نعرف ان المصلحة هي جزء عضوي من مفهوم الحكم الشرعي لا سيما في المعاملات ، ومن بينها عقد الزواج وسائر العقود. وقد اشتهر بين الاصوليين ان الاحكام تدور مع المصالح ، فاذا ثبت ان حكما يؤدي الى تعطيل مصلحة ثابتة للمسلمين ، فان هذا الحكم يصبح محل شك وليس المصلحة التي تعارض معها. من ناحية اخرى فان تحديد المصالح والمفاسد ليس من الامور التي ترجع الى الفقهاء بل الى عرف عقلاء المسلمين ، فاذا رأى عقلاء المسلمين ان رأيا فقهيا مثل الراي المشهور في "تكافؤ النسب" يؤدي الى ضرر واضح على مجتمعهم ، جاز لهم تعطيله ، لاننا – حسب تعبير الامام ابي  حامد الغزالي – "لا نهدم مصرا كي نبني قصرا".

الوابلي اعتبر راي الشيخ العودة من نوع "وجهات الخطر" وليس وجهات النظر. اقول ان الحق هو ما قاله الوابلي. لكننا نستطيع فهم السبب الذي حمل العودة على الاخذ بهذا الراي ، وهو على الارجح الخشية من صدم المتدينين التقليديين لو افتى باجازة ذلك الزواج ، تقابلها خشية مماثلة من خسارة جمهوره المتنور فيما لو استند الى الفتوى القديمة التي تجيز منعه. وجود العنصر الشيعي في المسألة يمثل تحديا خاصا للمفتي ، لان جمهوره الرئيس ، اي التيار السلفي ، لا يتسامح ابدا ازاء علاقة من ذلك النوع الذي سألت عنه الفتاة.

كان على الشيخ العودة ان يصرح بالحكم الشرعي المعروف ، اي تكافؤ النسب ، ويبدي رايه فيه ، اما بقبوله او رفضه ، او يبين الاراء المختلفة فيه. اما مقولته عن "التكافؤ الثقافي" فهي مشكلة جديدة لا يصعب التنبؤ بنتائجها ، وهي قد تؤدي الى نفي احكام شرعية راسخة ومشكلات لا تحصى. دعنا نفترض ان زوجين يتبعان مذهبا واحدا وينتميان الى قبيلة واحدة ، لكنهما يتفاوتان في التحصيل العلمي ، او ينتميان الى لغتين مختلفتين ، او بلدين مختلفين ، بعبارة اخرى فانهما لا يتكافآن ثقافيا .. فهل يمكن للقاضي ان يطلقهما جبرا بناء على هذا الراي كما يفعل في قضايا تكافؤ النسب المعروفة؟.

نعرف ان الكلام عن "التكافؤ الثقافي" لا يستند الى اي دليل، وهو – مثل الراي في تكافؤ النسب - يتعارض مع المصالح الثابتة للمسلمين، لكننا على الاقل نعرف ايضا ان موضوع تكافؤ النسب محدود في المجتمعات القبلية اما التكافؤ الثقافي فهو واسع وتطبيقه – لو حصل – سيكون مصيبة على المسلمين.

ابريل 2010

مقالات  ذات علاقة
-------------------


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...