03/08/2009

مجتمع الاحرار



في يوم بارد من شتاء 1984 وصلت الى مدينة الباسو غرب ولاية تكساس الامريكية ، التي تحاذي مدينة اخرى كانت تحمل الاسم نفسه لكنها تتبع جمهورية المكسيك. تقع الاولى على مرتفع من الارض وتقع الثانية في الوادي. وقفت وزملائي على حافة المرتفع ونظرنا الى الباسو المكسيكية .

 لا ادري اذا كان حال هذه المدينة البائسة قد تغير اليوم ، لكني شعرت في ذلك اليوم بالفارق الهائل بين المجتمعات التي تنعم بالحرية وتلك المحرومة منها . تجد اثار ذلك على الناس كما في الاشجار والمباني والطريق ، وفي كل شيء تقريبا .

اذا كان احد سيجادل في صحة استنتاجات العلماء طوال التاريخ حول العلاقة الوثيقة – واحيانا السببية - بين تحرر الانسان وتقدمه ، فان تجارب الانسانية في مختلف عصورها ولا سيما في عصرنا الحاضر دليل قاطع على ان تقدم الانسان وازدهاره مشروط بتحرره من القيود الداخلية التي تكبل روحه وعقله ، ومن القيود الخارجية التي تكبل حركته ومبادراته .

قارن بين حال المجتمعات التي حصلت على الحرية ، كما هو الحال في الدول الصناعية ، وتلك التي لا زالت سجينة قيودها الداخلية والخارجية مثل مجتمعات العالم الثالث . واذا كان احد سيحتج بوجود عوامل اخرى لتخلف هذه عن تلك ، وهو احتجاج لا نختلف فيه ، فان مقارنة الدول الاوربية نفسها ، تلك التي تحررت ثقافيا وسياسيا منذ زمن طويل ، وتلك التي لا زالت حديثة العهد بالحرية ، تكشف بالتاكيد عن العلاقة الوثيقة بين الحرية والتقدم. 

ثلاث دول يمكن ان تضرب مثلا على هذا: فرنسا التي تحرر شعبها منذ زمن طويل ، والبرتغال الاحدث عهدا بالحرية واسبانيا التي تقع في منتصف المسافة بين الاثنتين. هذه ثلاث دول تعيش ضمن محيط اقليمي واحد ، وتدين شعوبها بدين واحد لكن الفرق شاسع بين مكانة كل منهما في تقدم العلم والثقافة والتقنية وفي القوة والتاثير على المستوى الدولي .

قارن ايضا بين دولتين متماثلتين في كل شيء تقريبا عدا النظام السياسي : كوريا الشمالية واختها الجنوبية . يعاني الشماليون من الجوع والفاقة ، بينما المنتجات التقنية لاخوتهم في الجنوب تملا الاسواق في شرق العالم وغربه.

قارن ايضا بين شرق المانيا وغربها قبل اتحادهما وبعد الاتحاد. شعب واحد مقسم بين نظامين سياسيين ، احدهما يحمي الحريات الفردية والمدنية والاخر يحجبها او يحددها . بين قيام الدولتين قبيل منتصف القرن العشرين واتحادهما في اوائل التسعينات من القرن نفسه تحولت المانيا الغربية الى ثاني اقوى اقتصاد في العالم وارتفع انتاج التقنية ومعه مستوى المعيشة الى الصف الاول على المستوى العالمي ، بينما بقيت المانيا الشرقية دون المستوى المتوسط في معيشة شعبها وفي انتاجها العلمي والتقني وفي دورها على المستوى الدولي .

الفرق الوحيد بين شطري المانيا هو احترام الحريات في شطرها الغربي وهيمنة الاستبداد في شرقها ، الى ان قرر الشرقيون ان لا حل سوى اعادة توحيد البلد المقسم ، اي – في حقيقة الامر – الغاء النظام الشرقي والانضواء تحت لواء النظام القائم في الشطر الغربي.

يتقدم المجتمع اذا اصبح افراده احرارا . ان تكون حرا يعنى ان تملك حق الاختيار بين بدائل عديدة لحياتك وتفكيرك وعملك وسلوكك الشخصي ، ان تكون آمنا حين تعبر عن رايك ونتاج عقلك حتى لو خالف المعتاد والسائد ، وان تكون قادرا على تحقيق ذاتك من خلال خياراتك الخاصة. يفقد الانسان حريته حين يفرض عليه الاخرون نمطا من الثقافة او السلوك او العمل او المعيشة ، او حين يتدخل الاخرون بشكل اعتباطي في خياراته الخاصة.

من الناحية الواقعية فان معظم خيارات الانسان تخضع لقانون البلد. ما هو ممكن او ممتوع يتبع غالبا معايير محددة . لكن الصحيح ايضا ان القانون قد يكون ضيقا الى درجة استعباد الناس ، والصحيح ايضا ان الاخرين قد يتجاوزون القانون ويفرضون عليك مراداتهم خارج اطاره.

القانون ليس كلمة القوي ، بل القواعد التي جرى اقرارها سلفا وصدرت بشكل رسمي واعلنت من جانب الجهة التي لها وحدها الحق في وضع القانون.

13/07/2009

المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال: مناقشة نظرية


خلال الأيام الماضية تعرض عدد من الكتاب في الصحافة المحلية إلى المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال. أي الدعم الذي تقدمه الشركات والأثرياء للخدمات العامة في مختلف جوانبها. يعرف الجميع أن عددا قليلا نسبيا من رجال الأعمال يخصص نسبة من إيراداته السنوية لأعمال الخير، فغالبيتهم مشغول بجمع المال والرفاهية الشخصية. ولهذا فقد أصبح هؤلاء وغيرهم موضوعا ثابتا للتقريع على يد الصحف وكتابها، وقد نسمع في بعض الأحيان مسؤولين رسميين وقادة مجتمع يتحدثون في الاتجاه نفسه.
ويبدو لي أن الموضوع بجملته غير واضح المعالم. فالانطباع السائد هو أن الناس جميعا، الأغنياء والفقراء، يقدمون صدقاتهم بصورة شخصية إلى المحتاجين أو إلى من يوصلها للمحتاجين، أما الخدمات العامة التي يستفيد منها عامة الناس، بمن فيهم المقتدرون، فهي مهمة الدولة.
"المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال" ليست من المفاهيم الموروثة في ثقافتنا المحلية، بل جاءتنا مع الانفتاح الثقافي والاقتصادي على العالم ولا سيما السوق الأمريكية التي يعتبر قطاعها التجاري أكبر ممول غير حكومي للأعمال التطوعية والخدمات الخيرية على مستوى العالم. لا أدري كيف ظهر هذا المفهوم ومن الذي طوره على النحو الذي نعرفه اليوم.
 لكنه دخل بحوث الفكر السياسي في منتصف السبعينيات في سياق الجدل حول العدالة الاجتماعية ومعايير قياسها، ولا سيما بحوث العدالة التوزيعية، أي معايير التوزيع العادل للثروة والموارد العامة وفرص النمو. العدالة التوزيعية مفهوم سياسي يتعلق بنظام العلاقة بين المجتمع والدولة وإدارة المال العام والقوانين التي تضمن تكافؤ الفرص.
في أول الأمر كان مبدأ العدالة يناقش في الإطار الفلسفي، لكنه انتقل من ثم إلى الفكر السياسي، ولا سيما ضمن التفكير في دور الدولة كضامن لأملاك الناس وأموالهم. نظر قدامى الليبراليين إلى التملك كحق مطلق لا يجوز حجبه أو تحديده واعتبروا حماية الحكومة لهذا الحق وسيلة لتعاظم الثروة العامة وازدهار البلد.
 لكن القرن العشرين شهد تحولا عن هذا التفكير بعدما ساد الاعتقاد بأن التملك المطلق يؤدي بالضرورة إلى استغلال الضعفاء وتدمير قيمة الإنسان. وينسب الفضل في هذا التحول إلى المفكرين اليساريين الذين قدموا مجادلات قوية ضد مبدأ السوق الحرة والملكية الفردية وبقية أركان التفكير الرأسمالي. تركزت هذه المجادلات حول فكرة العدالة والاستغلال.
الأكثر ثراء هو الأقدر على التأثير في السوق وفي النظام العام، وهو قد لا يتوانى عن استغلال السلطة والمال والبشر من أجل المزيد من السلطة والمال. رأى اليساريون أن الاستغلال هو جزء من بنية السوق الحرة. لأن كسب المال هو المعيار الوحيد للنجاح فيها. كلما تضخمت ثروة شخص اعتبر ناجحا والعكس بالعكس. من الناحية الواقعية فإن أقلية صغيرة في كل مجتمع تستطيع مراكمة ثروات كبيرة، وهذا سيأتي بالضرورة على حساب الأكثرية. فما تحصل عليه من مال يخسره شخص آخر، ولا يمكن للجميع أن يربحوا دون أن يخسر أحد. بدلا من ذلك اقترح اليساريون نظاما للتوزيع المركزي للخيرات العامة، على شكل منظومة موحدة تتكفل بسد الحاجات الأساسية لجميع الناس من السكن إلى التعليم والصحة العامة والمواصلات والوظائف.
تبدو حجة اليساريين معقولة إلى حد كبير فالثروة التي يجمعها شخص لم تتخلق في فراغ، بل هي ثمرة لاستثمار موارد كانت في الأصل ملكا لجميع الناس. هذا يثير بطبيعة الحال سؤالا جديا فحواه: هل للمجتمع حق في الثروة التي انتقلت من ملكية الجميع إلى يد شخص واحد؟ . صحيح أن ذلك الفرد بذل جهدا استثنائيا حتى جمع ثروته.. لكن ما هي حصة الجهد الذهني والبدني في تكوين الناتج، وما هي حصة رأس المال الأصلي، أي الموارد المشتركة في تكوينه؟
هذا السؤال والكثير من الأسئلة المماثلة مطروحة بشكل جدي على طاولة النقاش. في ما يخص مفهوم «المسؤولية الاجتماعية لقطاع الاعمال» فإن هذه المناقشة تمثل مدخلا ضروريا لتعريف طبيعة تلك المسؤولية، ما إذا كانت تشكل إحسانا من دون التزام، أو التزاما برد جزء من الفضل للمجتمع الذي خلق الإمكانية والفرصة للإثراء.
صحيفة عكاظ - 13 / 7 / 2009م 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...