15/12/2008

حقوق الانسان في المدرسة


كان اعضاء الجمعية الوطنية لحقوق الانسان اكثر المتفائلين يوم عين رئيس الجمعية د. عبد الله العبيد وزيرا للتربية في فبراير 2005 . منذ بدايات هذه الجمعية اكتشف الاعضاء انهم يواجهون مشكلة حقيقية في عملهم تتلخص في غياب مفاهيم حقوق الانسان عن الثقافة المحلية ، الامر الذي جعل خطابهم غريبا او مستغربا. فكروا في معالجة هذا النقص عبر النشاط الاعلامي والتثقيفي المباشر . لكنهم ادركوا منذ البداية ان تنسيج هذه المفاهيم في الثقافة العامة ينبغي ان يبدأ في المراحل العمرية المبكرة ، اي مرحلة التعليم قبل الجامعي التي تتشكل خلالها شخصية المواطن وذهنيته . ولهذا تفاءلوا بتعيين رئيسهم وزيرا للتربية.
د. عبد الله العبيد
اليوم وبعد مضي اربع سنوات ، يتساءل المهتمون بحقوق الانسان عن ما تحقق في هذا السبيل . في نهاية العام الماضي اصدرت الوزارة وثيقة حقوق المعلم ، وتبعها في بداية العام "وثيقة حقوق الطالب ومسؤولياته" . ونفترض ان وثيقة الحقوق هذه موجهة للطلاب والمعلمين وادارات المدارس معا . لكني اظن ان هذه الوثيقة لا تزال تدور في مكاتب البيروقراطيين او انها قد نامت فعلا في ادارجهم . كولي امر لاربعة طلاب يدرسون في مراحل مختلفة لم اتلق اي اشعار من مدارسهم يفيد بتلقيها لهذه الوثيقة وما اذا كانت قد وضعت بالفعل برنامج عمل لتطبيقها . كما انها لم تبلغ الطلاب بوجود مثل هذه الوثيقة او حقوقهم المقررة فيها. بعض المدارس الخاصة بادرت بوضع وثيقتها الخاصة بحقوق الطالب قبل ذلك التاريخ ، ويجدر القول ان الذي اطلعت عليه منها لا يصل – من حيث المفاهيم ومن حيث الاجراءات العملية - الى المستوى اللائق بهذا العصر والتحديات والحاجات القائمة فيه. لكنها على الاقل مبادرة تستحق التقدير. اما المدارس العامة وكثير من المدارس الخاصة فالواضح انها لا تزال غائبة عن هذا الامر تماما.

يجدر بالوزارة ان تبادر الى تحديد برنامج عمل لتحويل تلك الوثيقة من ورقة يتداولها البيروقراطيون الى واقع حي يعرفه ويطبقه المعنيون به ، اي الطلاب . نحن بحاجة الى تكريس وقت مناسب للحديث عن هذه الوثيقة لكافة الطلاب ، ولا سيما للحديث عن حقوقهم على مدرسيهم وابائهم ومدارسهم ووطنهم . لقد اعتدنا الحديث عن "واجبات" الطالب وابدعنا في اختراع الكلام والبلاغة في بيانها ، لكن الحديث عن "الحقوق" يحتاج الى طريقة مختلفة وروحية مختلفة.

تلك مهمة تعالج اشكالا محددا هو العلاقة بين الطالب والمدرسة . لكن تنسيج مفاهيم حقوق الانسان في الثقافة العامة يحتاج الى طريقة اخرى ومنهج  مختلف. هذه العملية لا تبدأ بالكلام عن اهمية حقوق الانسان بل بتمهيد الارضية الفلسفية والاخلاقية التي تقوم عليها . مثلما ندرس في الابتدائية جدول الضرب باعتباره ارضية لفهم الرياضيات ، فاننا بحاجة للبحث عن شيء مماثل في ثقافة حقوق الانسان ، شيء يسهل فهمه واستيعابه ويمثل في الوقت نفسه اساسا مكينا لبناء هذه الثقافة فوقه.

اقترح التركيز على "قيمة التسامح" كموضوع محوري يجري التركيز عليه في المرحلة الحالية . يمثل "التسامح" ارضية اخلاقية وفلسفية لشريحة واسعة من مباديء حقوق الانسان ، وهو قيمة كونية ، تتفق عليها جميع الاديان بما فيها الدين الاسلامي ، فضلا عن وثائق حقوق الانسان الدولية والاقليمية. وبالنسبة لبلادنا فانها تمثل حلا لمشكلة يشعر بها الجميع ، الا وهي المشكلة التي يطلق عليها احيانا التشدد او الغلو او التطرف الخ.

 تنسيج قيمة التسامح في الثقافة العامة لا يبدأ بالحديث عن اهميته بل بمعالجة السبب الذي غيبه عن الثقافة ، واعني به التجاهل او الاغفال . ونذكر جميعا المثل العربي "المرء عدو ما جهل" . يبدأ التسامح بالتعرف على الاخرين المختلفين ، وكلما تعرف الانسان على احد اصبح اكثر قدرة على تفهم خصوصياته وتقبلها او اللين في التعامل معها . وبالعكس من ذلك فان الجهل بالغير يولد خوفا منه او ريبة فيه .

يمكن لقيمة التسامح ان تكون مضمونا منتشرا في الكثير من المناهج الدراسية من التاريخ الى الجغرافيا الى التربية الوطنية الى الثقافة الاسلامية . ولهذا حديث اخر نعود اليه في الاسبوع الاتي.
عكاظ 15 ديسمبر 2008

09/12/2008

في التسامح الحر والتسامح المشروط


ثلاث لافتات ضخمة على ناصية شارع رئيسي تتحدث عن التسامح. محاضرة لرئيس الادارة التي انفقت على هذه اللافتات تحدث في ندوة عامة عن التسامح وعرض العديد من الاحاديث النبوية والحوادث التاريخية التي تدعم تصوره عن مبدأ التسامح . وضرب في الاثناء امثلة عن حروب وحوادث تكذب ادعاء الغربيين للتسامح ، ولم ينس الاشارة الى ان دعوى حقوق الانسان والحوار بين المختلفين التي يروج لها الاوربيون والامريكان هي دعوى كاذبة وغرضها الدعاية لانفسهم ومنتجاتهم وتسويغ تدخلهم في شؤون المجتمعات الاخرى.


 في النقاش الذي تلى المحاضرة سأله احدهم عن رأيه في جدل يدور في دولة اوربية واظنها سويسرا حول السماح للمسلمين ببناء مآذنة في احد مساجدهم ، فتهلل وجه المحاضر وقال ان هذا يثبت ما قاله سلفا عن سياسة الكيل بمكيالين ، ثم اكد هذه المقولة بذكر قصة الحجاب في فرنسا ومنعه في المدارس الرسمية. سأله شخص آخر حول امكانية السماح للفرنسيات المقيمات في البلدان الاسلامية بدخول المدارس الحكومية بملابسهن المعتادة في فرنسا ، وحول امكانية السماح للسويسريين باقامة كنيسة من دون برج للصليب ، وكان الجواب معروفا للجميع ، لهذا لم ينتظر السائل ، بل عقب على اسئلته بان سلوك الغربيين الذي نذمه لا يختلف عن سلوكنا الذي نبرره . لدينا مبررات نطرحها ولديهم مبررات اخرى ، هذه المبررات مثل تلك مستمدة من الثقافة الخاصة لاصحابها وليست معيارية او ملزمة لكل الاطراف.

لم يشأ المحاضر ترك الكلام دون تعقيب ، لكنه بدلا من مناقشة السائل دخل في موضوع قتل محاضرته كلها فقد بدأ بالسخرية من "تلك الاكذوبة الكبرى التي يسمونها الحرية وهي في واقع الامر عبودية للاهواء والشهوات وضلال ما بعده ضلال" وذهب في حديث طويل نسبيا حول ما وصفه بالانهيار الاخلاقي في الغرب من كثرة الجرائم والمخدرات والشذوذ.. الخ . ولم نفهم علاقة هذا كله بمبدا التسامح ، الا حين عاد في نهاية الحديث الى التاكيد بان التسامح الذي يعنيه هو "التسامح المضبوط باحكام الشرع ونظر العلماء وتقاليد المجتمع والمصلحة العامة" وليس التسامح الذي "يدندن به رويبضات الصحافة والمبتدعة واهل الاهواء". قال الشخص الجالس ورائي ساخرا "ريحتنا يا اخي ، ظننتك ستقول شيئا جديدا علينا". وكان هذا ختام الندوة ، فحتى الذين سجلوا اسماءهم للمداخلة تخلوا عنها وسكتوا عدا شخص واحد قال كلاما حول الاختلاط والعفة والقنوات الفضائية والغزو الثقافي وتطاول النساء على الرجال ، وأطال حتى اضطر مدير الندوة الى مطالبته بانهاء المداخلة لاتاحة الفرصة للكثير من الذين سجلوا اسماءهم . وحين سكت المتحدث لم يتقدم احد للحديث . نادى المدير على ثلاثة اسماء فاعتذروا بان المحاضر قال كل شيء .

سألت زميلي ونحن نحث الخطى خارجين : هل خرجنا من هذه الندوة بفكرة جديدة ؟ اجابني ضاحكا : تعلمنا التسامح ، لقد جلسنا ساعة ونصف نستمع الى متحدث يقدم مفهوما زائفا عن قيمة اخلاقية عالية ولم نقاطعه او نجادله .. اليس هذا مثال على التسامح؟. قلت للزميل : لعله مثال على الهروب من المواجهة ، قال لي : مواجهة من ؟.. الذي امامك ليس الا طاحونة هواء تدور وتدور وتدور ، هذا عملها وهذا عالمها وغرض وجودها ، فهي لا تعرف شيئا سوى ان تدور وتدور . صاحبك المحاضر مثل الطاحونة ، عمله الكلام والهجوم اللفظي على الاعداء الحقيقيين والمفترضين ، الواقعيين والمتخيلين ، هذه هو علمه وهذا هو عالمه. هل تريد مواجهة الطاحونة؟. 

قلت للزميل : الا ترى ان المحاضر كان واضحا في الربط بين التسامح والحرية؟ . معنى كلام الرجل ان التسامح نوعان : تسامح مقترن بالحرية : انا متسامح معك بمعنى انني اعترف بحقك في انتخاب خياراتك الخاصة ، وهو المعنى الذي يتحدث عنه العالم اليوم ، وتسامح مشروط بالتقاليد واراء العلماء والمصلحة العامة ، ولولا الخجل لربما اضاف اليه شرط رضا الاب والزوج والاخ الاكبر وشيخ القبيلة وامام مسجد الحي وعمدة القرية وربما اشخاص اخرين ، فالتسامح هنا يعني ان تبحث عما يوافق عليه كل هؤلاء ثم تفعله ، وتستمتع بتسامحهم معك . الا ترى اننا تعلمنا شيئا جديدا؟.

مقالات ذات علاقة


الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...