؛؛ الكلام عن الفصل بين العلم والدين ليس استنساخا شائها وبليدا كما
قيل، بل هو المنطق الطبيعي وعمل العقلاء في كل الاماكن والعصور؛؛
أصل الدعوى التي أزعجت الزميل د.عبدالعزيز قاسم (عكاظ 2ـ28) هي زعم هذا الكاتب بالحاجة الى الفصل بين العلم والدين. في بيان هذه الفكرة اقول ان معظمنا يربط بين الدين والعلم ربطا عضويا، فهو يريد هندسة اسلامية وطبا اسلاميا الخ.
- هل المقصود يا ترى هو استنباط علم
الرياضيات والطب.. إلخ من القرآن والسنة؟. بديهي ان هذا ليس هو المقصود، فالأمم
الاخرى لم تأخذ بالقرآن والسنة، ومع ذلك فقد ابدعت علوما عظيمة كالتي نعرفها
اليوم.
يقودنا هذا الى نقطة اخرى جديرة بالنقاش
وهي اختلاف وظيفة الدين عن وظيفة العلم، وكنت قد تحدثت عن هذه النقطة في مقالين
سابقين (عكاظ 27-6-2007 ، 4-7-2007)، وخلاصة ما قلت هناك ان
لكل من الدين والعلم منهج عمل ومجال اشتغال خاص ووظائف متمايزة عن الآخر. ثمة في
حياة الإنسان مجالات كثيرة لا يتدخل الدين فيها مطلقا. فأنت لا ترجع الى الكتاب
والسنة حين تريد بناء جسر، بل توكل الامر الى المهندس الكفؤ الذي قد يكون مسلما او
مسيحيا او وثنيا. ولا تسأل عن دين الطبيب حين تمرض، بل تبحث عن كفاءته العلمية.
علم الرياضيات والفيزياء، والعلوم الطبيعية والتجريبية الأخرى تطورت على يد آلاف
من الباحثين الذين لا يتذكر الإنسان دينهم ولا يشير الى معتقداتهم، فالعاقل يعرف
بفطرته ان الانتماء الديني أو القومي لا علاقة له اطلاقا بالبحث العلمي وما ينتج
عنه.
- ترى أين يتصل الدين بالعلم؟
هدف القيم الدينية هو الانسان الذي
يستعمل منتجات العلم. عالم الميكانيكا يعمل في مختبره متجردا من كل قيد فينتج
محركا فائق القوة، يمكن ان يستعمل في تطوير سيارة او طائرة تسهل السفر على الناس،
او يستعمل في صناعة صاروخ يقتل الناس. دور الدين ليس تحديد ما يفكر فيه عالم
الميكانيكا، ولا كيف يعمل في مختبره. بل يتوجه الى مستهلك العلم فيقول مثلا بحرمة
إطلاق الصاروخ على المدنيين او حرمة العدوان.
يتضح إذن؛ أن الكلام عن انفصال العلم عن
الدين ليس استنساخا شائها وبليدا كما وصفه د. قاسم، بل هو المنطق الطبيعي وعمل
العقلاء في كل الاماكن والعصور.
- هل يتضمن هذا القول تهوينا من شأن
الدين أو عزلا له عن حياة الناس؟
في ظني أن اقحام الدين في مجالات اشتغال
العلم قد ساهم في عزل الدين عن الحياة وفي تخلف المسلمين. تقييد النشاط الفكري تحت
مبررات دينية ادى الى اضعافه. ويذكر هذا بما فعله اباء الكنيسة الاوروبية حين
جعلوا انفسهم اوصياء على انتاج العلم وعمل الباحثين، فخلقوا تعارضا شديدا بين
الدين والعلم. ونشاهد اليوم في مجتمعاتنا نماذج مماثلة عن أناس يفرضون رقابة
حديدية على المفكرين والعلماء ويستعينون بالسلطة السياسية في تحديد ما هو مسموح وما
هو ممنوع من الانتاج العلمي، ولعل اقرب مثال الى الذهن هو استبعاد تدريس الفلسفة
التي هي ام العلوم واساس التفكير العلمي السليم، فنحن البلد الوحيد في العالم الذي
يتخذ هذا الموقف، ونحتج له بمبررات دينية. وبسبب الاقحام المفتعل للدين في مجالات
العلم، تضاعفت سطوة رجال الدين، بينما ضعف انتاج العلم، أي ازددنا تدينا وازددنا
تخلفا في الوقت نفسه.
لا يختلف اثنان على ان انتاج العلم هو
سر النهضة وسبب الحضارة، وانتاج العلم يحتاج اولا وقبل كل شيء الى بيئة تضمن
الحرية الكاملة والامان الكامل للعلماء والباحثين. من المعروف بين أهل القانون ان
تحقيق العدالة مشروط بتمتع القاضي بعصمة تامة من المؤاخذة والأذى كي يصدر احكامه
من دون وجل او مجاملة او مراعاة لهذا وذاك. ويعرف اهل الفكر أن انتاج العلم مشروط
بتمتع المفكر بنفس العصمة، في نفس الدرجة، كي يواصل بحثه من دون وجل او مجاملة.
ومتى ما افتقرت البلاد الى بيئة كهذه، تراجع الانتاج العلمي او توقف، وتباعدت
احتمالات النهوض والتقدم.