يتكون الظرف التاريخي نتيجة
لنوعين من العوامل ، اولها العوامل االثقافية او البنيوية ، وهي في العادة طويلة
الامد من حيث التكوين ومن حيث التاثير . وقد نستطيع تسميتها بالعوامل الثابتة .
اما النوع الثاني فهو العوامل السياسية التي تظهر في حالات محددة وتختفي بزوالها.
يمكن التمثيل على النوع الاول بموقف الاكثرية من الاقلية . العرف الجاري في جميع
الانظمة السياسية يقضي بان ينتمي رئيس الدولة الى الاكثرية. اما مثال النوع الثاني
فهو تاثير التطورات الاقتصادية او السياسية في تغيير موقف الجمهور من بعض المرشحين .
ما يهمنا في هذا المجال هو
سلوك المجتمعات المختلفة من حيث نسبة انفعالها بالعوامل الثابتة قياسا الى مجموع
العوامل ومن حيث قابليتها لاعادة النظر في هذه العوامل بتاثير العوامل المتغيرة.
ثمة مجتمعات تلعب عواملها الثابتة الدور الحاسم في معظم مواقفها من القضايا
المطروحة .
مثال ذلك موقف الولايات المتحدة وايران من التفاوض المباشر بينهما ،
فمنذ قيام الثورة قبل ثلاثين عاما لم تستطع الدولتان تجاوز العوامل المانعة
للتفاوض المباشر ، الامر الذي حول النزاع بينهما من خلاف سياسي الى معضلة
ايديولوجية وتقليد ثابت يعجز كلاهما عن تجاوزه. ما نراه اليوم من كلام كثير حول
البرنامج النووي هو مجرد وعاء للعلة الجوهرية اي العجز عن اختراق العائق التاريخي
. قبل المسالة النووية تمحور الكلام حول دعم الارهاب وقبله عن اعاقة السلام في
الشرق الاوسط وقبله عن تهديد امن الخليج وقبله عن تصدير الثورة. وهكذا فاننا نشهد
في كل حقبة مبررا جديدا لكن المحصلة النهائية هي التاكيد على العائق التاريخي اي
العجز عن التفاوض المباشر.
معظم من ناقش احتمالات فوز
باراك اوباما مالوا الى التشكيك في قدرته على تجاوز العائق التاريخي او مجموع
عوامل التاثير الثابتة مثل رفض الاكثرية البيضاء تولية رئيس اسود ، او رفض قطاع
الاعمال المؤثر على الاعلام والراي العام تولية مرشح مصنف على يسار الحزب
الديمقراطي او رفض اللوبي اليهودي دعم مرشح ذي جذور اسلامية الخ..
لا نستطيع الان لومهم على
التسرع في اصدار ذلك الحكم ، لانهم قراوا التناسب بين تاثير العوامل الثابتة
والمتغيرة . ولم يكن بين المتغيرات ما هو قوي الى درجة زحزحة العوامل الثابتة. لكن
الذين ايدوا اختيار باراك اوباما كواحد من المرشحين الاوائل للحزب الديمقراطي ، ثم
اختاروه واحدا من اثنين في التصفيات قبل النهائية ، ثم دعموه كمرشح وحيد في مقابل
هيلاري كلينتون ، كل هؤلاء كانوا واثقين من قابلية المجتمع الامريكي لتجاوز
العوامل الثابتة التي اصبحت عرفا عاما او تقليدا راسخا . لقد حدث هذا قبل تفاقم
ازمة سوق المال في اغسطس الماضي ، اي قبل ان تبدأ العوامل المتغيرة في الاشتغال.
اولئك الناس لم يكونوا قلة ، ولم يكن غالبيتهم من السود الذين ربما يشك في
انحيازهم . كل ما في الامر انهم كانوا واثقين في قدرة النظام الاجتماعي الليبرالي
على تجاوز تقاليده واعرافه مهما كانت عميقة الجذور.
المجتمعات المسكونة بالتاريخ
، وتلك الخاضعة لتاثير الايدولوجيا ، وكذلك المبتلاة بعلة الارتياب ، هي اقل
المجتمعات قدرة على تجديد نفسها ، لانها اقل جرأة على تحدي اعرافها وتقاليدها ،
واقل رغبة في الانتصار على نفسها وثوابتها ، اي في نهاية المطاف مملوكة لتجربتها
الماضية وعاجزة عن التحكم في حياتها . وعلى العكس من ذلك تبدو المجتمعات الاميل
الى الليبرالية اقدر على التحكم في مسارات حياتها وتغيير هذه المسارات حيثما وجدت
حاجة . حينما يعجز المجتمع عن التحكم في تقاليده وذاكرته التاريخية ، فسوف يبقى
سجينا لها ، يكرر صورة الماضي في الحاضر ويعيش زمنه منفصلا عن حقيقة هذا الزمن .
وحينما يتحرر المجتمع من قيود اعرافه وقيود تجربته التاريخية ، يصبح الحاضر
والماضي ملكا له فيعيد صياغة حاضره كما يعيد صياغة ذاته فيولد من جديد .
15-11-2008