17/04/2019

عقل الاولين وعقل الاخرين

الذين يعارضون اعتماد العقل مصدرا للتشريع والمعرفة الدينية ، يقيمون موقفهم على منظومة استدلال  ، يرونها مناسبة لحمل تلك الدعوى.

لكن التأمل في هذه الادلة يكشف عن نقاط ضعف اساسية ، أبرزها في ظني هو ان الاطار الذي يدرس فيه الموضوع ، ليس محددا على نحو دقيق. ولهذا دخلت فيه قضايا واستدلالات لا علاقة لها به ، كما اختلطت في سياقه العبارات الوصفية والتفسيرية ، بتلك التي تنطوي على احكام وقيم. بل وجرى استعمال هذه في موقع تلك وبالعكس. 

ومن ذلك مثلا القول الشائع ، بأن ابليس تحول من ملك الى شيطان رجيم ، حين اتبع عقله فعصى أمر ربه. ونعلم ان هذا ليس دليلا في هذا الموضع ، واستعماله فيه نوع من الحشو والقصص لا العلم.

ولعل الفوضى المهيمنة على النقاش سببها اتخاذه صفة المساجلة بين خصمين ، لا يريد احدهما معرفة حجج الآخر ، الا لغرض وحيد هو تثبيت موقفه. ولهذا ايضا لا أرى امكانية لتوصلهما الى رؤية موحدة. فكلاهما يعبر عن موقف فكري مرتبط بدائرة مصالح اجتماعية ، على النحو الذي أسماه توماس كون بالبرادايم ، او ما نسميه أحيانا بالنسق. ذلك الموقف اذن امتداد لمنظومة متبنيات ثقافية وانحياز اجتماعي ، لن تنفك اجزاؤه عن بعضها البعض ، بمجرد النقاش.

في زاوية ثانية نلاحظ ان النقاش حول دور العقل ، يعاني – كمعظم النقاشات المماثلة في الفكر الاسلامي – من ضعف واضح في تحديد المفاهيم المحورية ، التي يتوجب الاتفاق على تعريفها  كي يكون النقاش متصلا. مبرر هذه الحاجة هو ان بعض المفاهيم ، مثل "العقل" ، "النص" ، "الشريعة" و"الجماعة" الخ .. تحولت بشكل عميق ، لاسيما خلال القرن العشرين ، عن التركيب الذي كان معهودا حين بدأ هذا الجدل ، مع اشتهار منهج الامام ابو حنيفة في الاجتهاد ، قبيل منتصف القرن الثاني الهجري.

لابأس بالتذكير هنا بأن مفهوم "العقل" الذي عرفه الاسلاف ، كان اقرب للمفهوم الذي اشتهر عند فلاسفة اليونان ، اي اعتباره اداة مستقلة قادرة بمفردها على ادراك الكمالات ومواضع الجمال ، وبالتالي تمييز  الحقائق والفضائل والحكم على موضوعاتها.

اما "العقل" الذي نناقشه اليوم  فهو مختلف في تعريفه وفي تقييم عمله. ولعل أقرب المفاهيم القديمة اليه ، هو ما كان يطلق عليه "بناء العقلاء" ، الذي تشبه صورته الاصلية مفهوم العرف العام. جدير بالذكر ان الامام الغزالي كان قد اشار في ذيل كتاب العلم من "احياء علوم الدين" الى ان الخلاف على المفاهيم وحدودها ، كان واسعا حتى في زمنه (450-505ه) ، وحسب تعبيره فان أكثر "التخبيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ".

كذلك الحال في مفهوم "النص" الذي كان ينظر اليه في السابق كتعبير منفرد ونهائي عن الحقيقة ، بينما ينظر اليه اليوم كوعاء للحقيقة ، وفي بعض الحالات قيدا عليها. ولذا نحتاج أحيانا لتجاوزه ، من اجل تحرير الحقيقة او الرسالة المنطوية فيه ، من قيود التاريخ وانعكاسات الظرف عليه وعلى فهمه.

زبدة القول ان العقل الذي يدور حوله الجدل الذي استعرضناه في الاسبوعين الماضيين ، ليس واحدا او محددا. ان ما يقال عنه وعن دوره ، تأييدا او رفضا ، قد يتعلق بعقل متخيل ، تتعدد صوره ومفهوماته بقدر ما يتعدد المشاركون في الجدل حوله.  ولذا فلعل الأجدى ان يبدأ الناس بتحديد مفهوم العقل الذي يعنونه.

 


الشرق الاوسط الأربعاء - 11 شعبان 1440 هـ - 17 أبريل 2019 مـ رقم العدد [14750]

مقالات ذات علاقة

03/04/2019

هكذا خرج العقل من حياتنا


ادهشني ان بعض الناشطين في التيار الديني ، لم يرض بالاطراء الذي نالته جاسيندرا ارديرن رئيسة الحكومة النيوزيلندية ، نظير موقفها التضامني مع مواطنيها المسلمين ، اثر فاجعة مسجد النور منتصف مارس الماضي. وقال بعض الناقدين ان موقف رئيسة الحكومة سياسي في المقام الاول. وقال آخرون ان عينها على الانتخابات ، او انه تعبير عن موقف ايديولوجي للتيار اليساري الذي تنتمي اليه ، في مقابل اليمين المتطرف الذي ينتمي اليه القاتل. وسمعت قولا طريفا لأحدهم فحواه انه كان الأولى دعوتها الى الدين الحنيف بدل امتداحها ، فلعل الله يشرح صدرها للاسلام. وأطرف منه من كتب ان السيدة الجليلة لاتستحق المدح ، لأنها "كافرة سافرة ، قبلت ولاية لاتسوغ لجنسها".
 
ورايي ان تلك الاقوال باطلة جملة وتفصيلا. في ذاتها وفي ارضيتها الفلسفية. لكن موضع اهتماهي ليس هنا. بل لأنها ذكرتني بجدل قديم اشتهر باسم "مسألة الحسن والقبح العقليين". وقد اثيرت في الاطار الاسلامي خلال القرن الثامن الميلادي ، مع انها ترجع الى ازمان ابعد بكثير. وكانت تدور حول قابلية العقل لادراك الحقيقة وتمييزها عن الوهم. 
ركز الجدل الاسلامي على سؤال: هل في الافعال معنى وقيمة ذاتية ، يمكن للعقل اكتشافها وتحديدها ، ام ان تحديد معنى الفعل وقيمته ، متروك للشارع ، ان شاء اعتبره حسنا وان شاء اعتبره قبيحا. كانت الغلبة يومذاك للراي القائل بعجز  العقل عن تحديد الوجه الشرعي للحسن والقبح. ومعنى هذا انه يمكن لعقلك اكتشاف ان العدل حسن وان الظلم قبيح ، لكنه لايستطيع القول بان هذا القبح او ذلك الحسن له قيمة ، او يمكن ان يكون اساسا لامر شرعي. هذه الفكرة هي اساس نفي العقل واستبعاده ، ليس عن دائرة التشريع فحسب ، بل عن حياة المسلمين ككل.
ان السبب الذي يدعوني للتذكير بهذا الجدل اليوم ، هو اعتقادي بأن عدم ثقة المسلمين بالعقل وقدرته ودوره ، هو الذي قاد الى الانفصال المشهود بين الدين والحياة ، بين الدين والاخلاق ، بين الدين والقانون ، وهو الذي جعل المسلمين مضطرين للعيش حياة مزدوجة: عقلانية تماما في محيط العمل ، حيث يستعملون منتجات العقلاء واجهزتهم وانظمتهم ، وخرافية كليا او جزئيا حين يعودون الى حياتهم العادية ، او يعملون في اطار تقاليدهم الثقافية وارثهم القيمي.
منذ ان اصبح العقل هامشيا في حياتنا ، فقد بات ممكنا ان يأتينا شخص ليقول: أن عقولكم لاتستطيع اكتشاف الحقائق ، أو لاتستطيع تحديد معناها وقيمتها. وحتى لو  كنتم اذكياء بما يكفي لفهم حقيقة الاشياء ، فان ذكاءكم واجتهادكم لاقيمة له عند الشارع. الشارع هو الذي يحدد قيمة الافعال ، اما انتم فدوركم مقصور على السمع والطاعة دون تفكير او مناقشة.
اني اعجب ، لان فينا من لازال يقول بان دين الله لايدرك بالعقول ، فاذا جادلته ، اعاد عليك الحجة التي عمرها مئات السنين ، والقائلة بانه لو كان الدين بالعقل فما الاساس العقلي للمسح على ظاهر القدم دون باطنه ، وما الاساس العقلي لجعل هذه الصلاة ركعتين وتلك ثلاث ركعات ، وامثال ذلك من الحجج الباردة.
إني آمل ان يشاركني القراء الاعزاء في اظهار الاسف لتعطيل العقل باسم الدين. مع علمنا جميعا بانه لولا العقل لما كان ثمة حياة ولا دين ولاتكليف ولا ثواب ولاعقاب ولا جنة ولا نار. ولعلنا نعود الى الموضوع في قادم الايام.

الأربعاء - 27 رجب 1440 هـ - 03 أبريل 2019 مـ رقم العدد [14736]
https://aawsat.com/node/1662191
  مقالات ذات صلة

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

نسبية المعرفة الدينية

نقاشات "عصر التحولات"

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه


27/03/2019

من الكويت الى نيوزيلندا: "هذولا عيالي..."


حازت جاسيندرا أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا ، على تقدير زعماء العالم ، نظير ادارتها الحكيمة للأزمة التي أثارتها مذبحة كرايست شيرش ، منتصف مارس الجاري. لقد قيل الكثير في الثناء على هذه الزعيمة الشابة ، وثمة دعوة متصاعدة لترشيحها لجائزة نوبل للسلام.
السيدة ارديرن تستحق الجائزة. ليس فقط لقدرتها الفائقة في ايقاد التعاطف الانساني بين مواطنيها. بل ايضا لانها قدمت تجربة عملية تبرهن على نظرية سياسية ، قلما حظيت باهتمام السياسيين. زبدة النظرية هي ان احياء روح الجماعة ، هو السبيل الاكثر فعالية لصيانة الوحدة الوطنية من تاثير العنف الطائفي والاثني. "احياء روح الجماعة" يتعارض مع الاستعمال واسع النطاق للوسائل الامنية ، كما جرى في الولايات المتحدة بعد الهجوم على نيويورك في 2001 ، وفرنسا بعد الهجوم على صحيفة شارلي ابدو  في يناير 2015.
برهنت التجارب على ان حوادث العنف الاثني (او التي تشير لتازمات اثنية) تولد حالة ارتياب في كل اطراف المجتمع. في مثال نيوزيلندا ، تفترض النظرية ان الارتياب سيتولد بين الاكثرية البيضاء التي ينتمي اليها القاتل (افتراضيا على الاقل). محرك هذا الارتياب هو ترقب رد الفعل الذي يحتمل ان يقدم عليه جيرانهم المسلمون. ان حالة ارتياب كهذه ستشكل ارضية خصبة لتوسع التيار العنصري المعادي للمهاجرين ، كما حدث في اوربا خلال العقود الثلاثة الاخيرة.
من المتوقع بطبيعة الحال ان ينمو اتجاه مماثل ، في وسط الجماعة التي تعرضت للهجوم ، خاصة وان في المسلمين من يحاول تسويق فكرة ان العلاقة بينهم وبين غيرهم ، لا يمكن ان تكون سوى مفاصلة وصراع.
حالة الارتياب المتبادل تؤدي تدريجيا ، الى تزايد نقاط التفارق بين اطراف المجتمع الوطني. وهذا يؤدي الى افشال محاولات الحكومة ، لتوحيد المجتمع واستئصال جذور العنف فيه. في الحقيقة فان هذا هو الذي حدث فعلا ، في معظم الدول التي شهدت صراعات اثنية خلال السنوات الأخيرة. وقد ادى الارتياب الى عزلة مكتومة بين الدولة والمجتمعات المحلية ، سيما في المناطق التي تحوي نقاطا ساخنة ، الامر الذي جعل استعمال الوسائل الامنية – العنيفة غالبا – امرا لا مفر منه.
قدمت الكويت نموذجا للمعالجة جديرا بالدراسة ، بعد الهجوم على جامع الامام الصادق في يونيو 2015. يذكر الكويتيون ان اميرهم الشيخ صباح الاحمد ، حضر في موقع الهجوم بعد اقل من ساعة على حدوثه. وحين اصر المسؤولون الامنيون على خروجه من الموقع ، قال كلمته الشهيرة "هذولا عيالي" اي هؤلاء ابنائي ، في وصف ضحايا الهجوم الارهابي. وهي كلمة تحولت الى امثولة في الثقافة السياسية الكويتية. واحتمل انها أثرت بعمق على تصور المواطنين لعلاقتهم بالعائلة الحاكمة.
في تجربة نيوزيلندا ، اهتمت رئيسة الحكومة بالحيلولة دون بروز حالة ارتياب متبادل بين الاقلية والاكثرية. ولعل ابرز تجسيدات هذا التوجه ، هو تشجيع الاكثرية على احتضان الاقلية وتطمينها. وكان في هذا التحرك علاجا لقلق الاكثرية ذاتها ، التي على الارجح لم تكن قد تعرفت على جيرانها المهاجرين قبل هذه الحادثة. لكن من جهة ثانية ، فان تحرك الاكثرية قد اشعر الاقلية بالامتنان ، وبان الحكومة "حكومتهم" وليست "حكومة الاكثرية" ، اي انها تجسيد لدولة المواطن.
زبدة القول انه بات لدينا تجربة اخرى ، تثبت ان دواء العنف ذي الجذور الاثنية ، هو الاحتواء المزدوج وليس القمع النشط لمصادر التوتر. مبادرة جاسيندرا أرديرن منتصف مارس الجاري برهنت على صحة هذه النظرية.
الشرق الاوسط الأربعاء - 20 رجب 1440 هـ - 27 مارس 2019 مـ رقم العدد [14729]
https://aawsat.com/node/1651991

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...