24/10/2011

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الثاني

           د . محسن كديور

 (   2  )  الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية

مفهوم الديمقراطية الدينية او الاسلامية واحد من المفاهيم التاسيسية في الفكر السياسي للاسلام المعاصر لا سيما في ايران . وبالنظر الى حداثة المفهوم فانه يحتاج الى ايضاح ابعاده ومبانيه وما يترتب عليه من انعكاسات ، طمعا في تحديد القواسم المشتركة بينه وبين المفاهيم السياسية الاخرى وخطوط التمايز التي تفصله عنها .
"الديمقراطية الاسلامية" عنوان لنظام سياسي يناظر النماذج الاخرى للديمقراطية مثل الديمقراطية الليبرالية ، الديمقراطية الاجتماعية (او الاشتراكية) ، المسيحية ، المباشرة . . الخ . وهو يشاركها في بعض الخصائص ويتمايز عنها في خصائص اخرى . يستحق كل واحد من هذه النماذج اسم "الديمقراطية" تبعا لتوفر منظومة خاصة من المباني والمباديء والمعايير التي تحدد كيفية عمل النظام السياسي . هذه المنظومة هي صفة مشتركة بين جميع الديمقراطيات على اختلاف انواعها . ثمة – اضافة الى ذلك – خصائص يمتاز بها كل نموذج ديمقراطي عن النماذج المماثلة ، هي انعكاس للهموم او الخصائص الثقافية والاجتماعية للقطر الذي يطبق فيه هذا النظام . من هنا فان فهم "الديمقراطية الاسلامية" يتوقف على وضوح المشتركات التي تجمعها مع الديمقراطيات الاخرى من جهة ووضوح الخواص التي تتميز بها عنها .

سؤال الديمقراطية

الديمقراطية هي جواب عن سؤال محوري في الحياة السياسية ، يمكن وضعه على صور مختلفة مثل : ما هو النظام الافضل لادارة البلاد والمجتمع ؟ . او : من هو المسؤول عن تدبير الامور في المجال العام ؟ . او : من الذي يتخذ القرار فيما يتعلق بامور البلاد ككل ؟ . بتعبير اخر : من هو صاحب السلطة العامة في البلاد ؟ .
ثمة ثلاثة اجوبة محتملة على هذا السؤال:
د. محسن كديور (يمين) مع المرحوم آية الله منتظري (يسار)
الجواب الاول : نظام حكم فردي autocracy يقوم على راسه شخص واحد يمسك بكل السلطات ويتخذ القرارات نيابة عن الجميع لانه اكثرهم علما او فهما ، او لانه اقدر من بقية الناس على تشخيص مصالح المجتمع والخير العام للشعب . او ربما لانه الشخص الاقوى والاكثر حيلة ، اي الاقدر على الغلبة . وابرز خصائص هذا النوع من الحكم هي أ) تنحصر سلطات الدولة جميعها وتتركز في شخص الحاكم الذي يستمد شرعية حكمه من ذاته . ب) سلطة الحاكم الفرد مطلقة ولا تخضع للقانون كما انه شخصيا يعتبر فوق القانون ، فلا يخضع لرقابة الشعب ولا اي جهة رقابية اخرى ، ولا يتعرض للنقد او المحاسبة ، اي انه ليس مسؤولا امام احد . ج) يصل الحاكم الفرد الى منصبه بالتغلب والاستيلاء ، او بالوراثة ، او من خلال الاعراف الاجتماعية والتقاليد الدينية ، وليس بانتخاب الشعب او اختياره . وبقاؤه في هذا المنصب غير محدود بزمن معين ، ولا يتخلى عنه طوعيا واختياريا .
الجواب الثاني : نظام حكم نخبوي ارستقراطي aristocracy ، تهيمن على السلطة فيه مجموعة محددة من الاشخاص او صنفا معينا من اصناف المجتمع ، لأن اعضاء هذه المجموعة اقرب الناس الى الكمال الانساني ، او باعتبارهم ارقى نسبا او اكرم عائلة ، او لتخصصهم في علم من العلوم كالفلسفة او الفقه ، او لكونهم اغنى الناس واكثرهم املاكا . بعبارة موجزة فان مفهوم حكومة النخبة يعني حصر السلطة في يد طبقة من المجتمع تعتبر نفسها الطبقة الاعلى بين سائر الناس . من هنا فان بقية شرائح المجتمع وطبقاته لا تستطيع المشاركة في الحياة السياسية مشاركة ذات تاثير . ولا يخضع اعضاء الحكومة لرقابة الشعب او محاسبته ، وهم ليسوا مسؤولين امامه ، بل امام الطبقة الحاكمة فقط ، وهي المخولة بمراقبة عملهم ومحاسبتهم والتاكد من انسجام سياساتهم مع توجهاتها .
الجواب الثالث : نظام تمثيلي ديمقراطي representative democracy يؤمن المشاركة المتساوية لجميع افراد الشعب في صناعة السياسة واتخاذ القرار ، والوصول الى المناصب العامة او انتخاب من ينوبون عنه فيها . تقوم الديمقراطية على مبدأ اساسي هو حاكمية الشعب . بمعنى ان الغرض الاول للعمل السياسي وممارسة السلطة هو تحقيق رضا العامة ، وليس تامين رضا شخص واحد او طبقة خاصة . وينظر الى شاغلي المناصب السياسية والادارية كوكلاء او ممثلين للشعب ، لا كسادة له او قيمين عليه . وهم خاضعون في هذا العمل لرقابة موكليهم ومسؤولون امامهم ، وهم يحصلون على مناصبهم هذه بارادة الناس ورضاهم ، كما يتركونها لغيرهم بنفس الطريقة . القوانين السارية في المجتمع هي الاخرى ثمرة للارادة العامة وقائمة بوجودها وهي تستمد مشروعيتها وقوتها من قبول الشعب بها ، وبالتالي فان وضعها او تغييرها او استبدالها يتم وفقا لنفس الطريقة وعلى ذات الاساس .
من الواضح - بناء على هذه المواصفات - ان كلا من نماذج السلطة الثلاثة لا يقبل الجمع مع الاخر . ويجب التاكيد خصوصا على ان الثالث ، اي النموذج الديمقراطي لا يقبل الجمع مع الثاني (نشير الى هذا خصوصا لان لدينا في ايران من يدعي هذه الامكانية) ، وهو بطبيعة الحال لا يقبل الجمع مع الحكم الفردي . النظام الديمقراطي اذن هو نظام يقوم على مبدا حاكمية الشعب ، حيث يستمد القانون مشروعيته من الارادة العامة الصريحة ، كما يحصل الحاكمون على سلطتهم من خلال التفويض الشعبي .
يبدو ان كل الحكومات في العالم تتبع واحدا من النماذج الثلاثة السابقة ، فهي اما حكومة فرد او حكومة اقلية او حكومة الشعب . يميل بعض الناس الى القول بامكانية وجود نموذج رابع هو الحكومة الالهية او حكومة الدين او ربما حكومة الفقه . لكني لا ارى هذا النموذج ممكنا او قابلا للتحقيق . فليس من المتوقع ان ينزل الخالق سبحانه عن عرشه كي يمارس السلطة السياسية بنفسه . وعندئذ فان اي صورة من صور هذا النموذج سوف تتجسد في نظام بشري يقوم عليه فرد واحد او افراد معدودون ، يمارسون الحكم باعتبارهم وكلاء او ممثلين لله سبحانه . فاذا قلنا بان الله قد عين شخصا واحدا كي ينوب عنه في تدبير امور مخلوقاته ، فنحن اذن نتحدث عن حكومة هذا الشخص ، اي الحكم الفردي autocracy ، وربما نضيف اليه وصف الرباني او الديني للاشارة الى مصدر سلطته ، فنقول مثلا الحكم الفردي الديني theo-autocracy . ومن هذا القبيل حكومة البابا عند المسيحيين الكاثوليك وحكم الخليفة عند المسلمين السنة وحكم الولي الفقيه عند الشيعة .
اما اذا قلنا بان الخالق قد فوض تدبير الارض في كل زمان الى صنف خاص من علماء الدين كالفقهاء مثلا ، فنحن نتحدث اذن عن حكومة النخبة الدينية theo-aristocracy مثل حكومة اباء الكنيسة او حكومة الروحانيين او الفقهاء . واذا قلنا بان يد الله مع الجماعة ، وان ارادته ورضاه تتجسد في ارادة الامة ورضاها ، وان الخالق سبحانه قد فوض الى البشر حق تقرير مصيرهم السياسي ، فاننا نتحدث اذن عن نوع من الديمقراطية يمكن ان نصفه بالديمقراطية الدينية theo-democracy . من الواضح اذن ان الحكومات الثيوقراطية او الدينية لا تخرج عن واحد من تلك النماذج الثلاثة المذكورة اعلاه . ومن هنا ايضا فانه لا يمكن وضع الحكم الديمقراطي في مقابل الحكم الديني ، او وضع حاكمية الشعب في مقابل حاكمية الله . الديمقراطية او حاكمية الشعب تقع في مقابل حاكمية الفرد او الاتوقراطية كما تقع في مقابل حكومة النخبة او الارستوقراطية . غني عن القول ان كلا من انواع الحكومة الثلاثة يمكن ان يكون دينيا كما يمكن ان يكون علمانيا .

الديمقراطية والشعبوية

 الديمقراطية ليست مجرد اسم او وصف يضاف الى اي نظام سياسي بغض النظر عن محتواه . ثمة كثير من الانظمة الديكتاتورية والاحزاب الفاشية تصف نفسها بالديمقراطية ، لكنها لا تستحق هذا الوصف ، لانه لا يعبر عن محتواها وحقيقتها . يستحق النظام او الحزب او المجتمع وصف الديمقراطية اذا تبنى المباديء الاساسية التي يقوم عليها هذا النموذج ، واحترم المعايير الضرورية للعمل السياسي الديمقراطي . وكما لا يصح اطلاق وصف "الديمقراطي" على اي نظام ، فانه لا يصح كذلك اطلاق وصف "الاسلامي" عليه ما لم يكن ملتزما بالمعايير الاساسية للحكم الديني . كي تكون الحكومة ديمقراطية – دينية ، فيجب ان تتوفر فيها معايير النموذج الديمقراطي جنبا الى جنب مع معايير الحكم الديني .
النموذج الديمقراطي هو منظومة من المفاهيم والمعايير واليات العمل التي جربها العالم وآمن بفضائلها وفوائدها . وهي بهذه الاجزاء والاركان تعتبر كلا ضروريا لا يمكن التصرف فيه وتغيير عناصره من دون المس بالاغراض التي يرمي اليها ، وبالتالي الخواص التي اعطته قيمته . الديمقراطية ليست عنوانا لاطار فارغ كي نملأه بما نشاء من افهامنا او مصالحنا او رغباتنا . بل هي نموذج واضح الحدود والاركان ومطبق في الكثير من بلاد العالم ، وقد ترسخ واتضحت قسماته وضروراته من خلال التجارب الكثيرة والنقد والمراجعة . ونتيجة لهذا المسار الطويل فانه لم يعد مفهوما غائما او ملتبسا او محتاجا الى اعادة تعريف ، كما اصبح من اليسير مقارنة تطبيقاته مع المباديء النظرية والمفاهيم التي ينطوي عليها النموذج ويسعى لتجسيدها ، والعناصر التي تميزه عن سواه من انظمة الحكم . على هذا الاساس فان سعينا لصياغة نسخة اسلامية من هذا النموذج لا يستهدف استبدال اركانه ومبادئه ومعاييره الاساسية ، اي العناصر التي يجب ان تتوفر في كل نموذج ديمقراطي مهما كانت نسبته او صفته.
من المهم ايضا الاشارة الى الفارق الجوهري بين الديمقراطية والشعبوية . ينبغي الحذر من الخلط بين الديمقراطية اي النظام السياسي القائم على حاكمية الشعب ، وبين الصور العديدة من الحكم الشعبي ، اي الانظمة التي تبدو عليها بعض ملامح الديمقراطية ، لكنها في الجوهر حكومات فردية او استبدادية . قد نجد حكومة متساهلة ، يتقرب رؤساؤها الى الشعب او يمتدحونه او يميلون الى ملاينته وربما خداعه . الحكم الشعبي قد ينطوي على حسن معاملة مع الشعب ، او تلطفا وتادبا في السلوك ، او رحمة بضعفاء الناس ، او مسايرة لرغباتهم او مداراة لهم . ثمة زعماء لا يرغبون في التعامل الفظ والخشن مع جمهورهم ، ويفضلون الحكم باللين على الحكم بالعنف والشدة . لقد عرف التاريخ الكثير من هذا النوع من الحكومات ، وقد التفت اليها علماء السياسة ووصفوها وحللوا طبيعتها وقدموا نماذج تحليلية لكل منها . من اشهر تلك النماذج وربما اكثرها اثارة للالتباس هو النموذج المعروف بالحكم الشعبوي populist . الانظمة الشعبوية تمجد الشعب او الجماهير وتبالغ في تصوير مطالب الشعب ومراداته كما لو انها عين الحق والحقيقة . لكن ما يهم الباحث ليس هذا التعظيم اللفظي ، بل كيفية انعكاس "الارادة الشعبية" على السياسات والبرامج والقرارات وتركيب السلطة . ما يميز بين انواع الحكومات هو كيفية تجسيد الارادة الشعبية ، ومن الذي يقيم محتواها ويختار العناصر التي سوف تدخل حيز التطبيق من بينها . في النموذج الشعبوي يعين شخص او مجموعة من الاشخاص او طبقة معينة انفسهم متحدثين باسم الشعب ، ويقررون انهم هم المعنيون بتحقيق الارادة الوطنية والمطالب العامة او ضمان الخير العام ومصالح الشعب ، على النحو الذي يشخصونه ويرجحونه . ويحصرون دور الشعب في الموافقة والتصفيق والخروج الى الشوارع في مظاهرات التاييد وتاكيد الولاء . هذا النموذج لا يمكن اعتباره ديمقراطيا حتى لو حصل على تاييد الجمهور . وتمتليء كتب التاريخ بقصص العديد من الزعماء الذين سلكوا هذا السبيل ، وادعوا انهم اقدر على تامين مصالح الشعب من الشعب نفسه ، لكنهم – في الوقت نفسه – لم يسمحوا للشعب بمراقبتهم ومحاسبتهم ، او تقرير ما يريد ابناء الشعب ان يفعلوه لانفسهم ومستقبلهم . في حقيقة الامر فقد ظلموا الشعب وقهروه تحت لافتة الحكم باسمه او السعي لخيره . هذا النوع من الحكومات يقود بالضرورة الى خداع الجمهور او ما يعرفه علماء السياسة بالديماغوجية demagogy . الديماغوجية هي ببساطة استغلال احاسيس الشعب وهمومه وتطلعاته ، واستغلال معتقداته ورموز ثقافته وعصبيته ، من اجل المصالح الخاصة بالحاكم اوالمجموعة الحاكمة . وربما تجد حكاما من هذا النوع يتحدثون عن الديمقراطية او يسبغون هذا الوصف على انظمتهم ، لكن ما يقصدونه في الحقيقة ليس اكثر من الحكم الشعبوي ، البعيد عن الديمقراطية كل البعد .

المباديء الكبرى للديمقراطية

السر وراء الميل العام لشعوب العالم المعاصر الى تبني النموذج الديمقراطي يكمن في اكتشافهم لابرز ثمراته ، اعني بها الارتفاع بكفاءة الادارة السياسية الى اعلى مستوى ممكن وتقليل احتمالات الخطأ . هذه المعادلة الذهبية تعتمد على توسيع مشاركة الشعب الى اعلى نسبة ممكنة ، وخفض التاثير الشخصي لفرد معين او بعض الافراد على القرار السياسي الى اقل نسبة ممكنة . تؤدي المشاركة الشعبية الى تنوع المصادر المؤثرة في صناعة القرار ، ومساهمة عدد اكبر من العقول في وضع السياسات والتخطيط للمستقبل . كما تقود ايضا الى اعادة توزيع مصادر القوة والسلطة في المجتمع على نحو سليم ومتساو ، وتحول دون حصرها في نطاقات صغيرة او محدودة . يتعلق مفهوم الديمقراطية اذن بطريقة اتخاذ القرار في المجال العام ، وجوهر هذا المفهوم هو الرجوع الى المجتمع في القرارات التي تؤثر عليه . بكلمة موجزة فان الديمقراطية هي الحكومة التي تؤمن مشاركة المواطنين في اتخاذ القرارات المتعلقة بهم جميعا ، بصورة مباشرة او عن طريق ممثليهم .
يقوم النظام السياسي الديمقراطي على عدد من المباديء الكبرى ، هي بمثابة ارضية مفهومية وقيمية تحمل بنيته ومؤسساته ، واهمها :
أ ) اصل المساواة : ويقصد بها المساواة المدنية في الجانب السياسي والحقوقي ، فجميع افراد الشعب وشرائحه وطبقاته يتمتعون بحق متساو في الوصول الى المناصب السياسية والسيادية وجميع الوظائف العامة الاخرى . وكذلك التدخل في الامور العامة والمشاركة في صناعة القرار او التاثير عليه . هذه المساواة مضمونة ومحمية بالقانون ، بحيث لا يمنح احد او فريق محدد امتيازات تفضيلية على غيره في اي من الجوانب المذكورة . الفرضية الاصلية في الديمقراطية هي ان ممارسة السلطة ليست حقا خاصا لاحد على وجه التحديد ، وانه لا يحق لاي مجموعة او صنف اجتماعي ادعاء هذا الحق بناء على كونهم ارفع من سائر الناس تكوينيا او فكريا . المساواة في الفرص تتطلب عدم التمييز بين افراد المجتمع من اي وجه ، ولا سيما التمييز على اساس العرق او القومية او الدين والمذهب ، او العقيدة السياسية .
ب) اصل سيادة الشعب : المصدر الوحيد للشرعية السياسية هو ارادة الشعب . ولا يوجد اي مصدر اخر للسلطة غير اجماع ورضا الشعب . يصل الحاكمون الى مسند السلطة بارادة الناس ويرحلون عنها بارادة الناس .
ج ) اصل المشاركة والرضا العام : يعتمد النظام الديمقراطي على مشاركة الشعب في جميع مستويات القرار وتامين الرضا العام في كل الامور السياسية . ويعتبر رضا الجمهور معيار سلامة القرار في الحكومة الديمقراطية .
د ) اصل سيادة القانون : يطيع الافراد القوانين والانظمة التي وضعوها بانفسهم او رضوا بها . كي تكون الحكومة ديمقراطية فيجب ان تكون سلطاتها محدودة ، وخاضعة للقانون . وهذا يتطلب وجود دستور يحدد سلطات الحاكم ، كما يوضح كيفية تعديل او تغيير القوانين بواسطة ممثلي الشعب .
هـ) حقوق الانسان : وتشمل هذه مجموعة الحقوق "الطبيعية" التي يتمتع بها الناس بحكم انسانيتهم ، وكذلك الحقوق "المدنية" التي يكتسبها الافراد بحكم انتمائهم للنظام الاجتماعي والسياسي . ضمان هذه الحقوق هو معيار عدالة القانون وسلامة المجتمع ، وابرز تلك الحقوق هي الحرية الفردية ولا سيما حرية التعبير .
هذه الاصول الخمسة تمثل مباديء اولية ومضمونا قيميا للنظام ، وهي التي تميز الديمقراطية عن غيرها . اما تطبيق النموذج الديمقراطي في الحياة السياسية الواقعية فيحتاج الى عدد من الاليات التي تجسد تلك المباديء والقيم ، من اهمها :
1- عقد الانتخابات العامة الحرة والعادلة بصورة منتظمة . ويجب ان يضمن القانون حق المشاركة لجميع افراد الشعب في الترشح والتصويت ، وحرية التنافس بينهم .
2- وضع نظام مؤسسي لضمان العلنية في ممارسة الحكم ، بحيث يستطيع افراد الشعب معرفة ما تفعله حكومتهم وكيف تتخذ قراراتها . العلنية او الشفافية هي العامل الحاسم في تمكين الشعب من مراقبة الحكومة ومحاسبة مسؤوليها .
3- توفير الاساس القانوني لتامين وحماية الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين وحرياتهم الفردية ، والفصل بين "المجال العام" الذي تعمل فيه الدولة و"المجال الخاص" بالحياة الشخصية للافراد التي لا يجوز للدولة التدخل فيها .
4- توفير الاساس القانوني لتشجيع وحماية المجتمع المدني بمختلف تمثلاته وتنظيماته ، وتمكينه من القيام بدوره كوسيط بين السلطة والمجتمع من جهة وكتعبير عن ارادة المجتمع ووسيلة لتعزيز مشاركته في صناعة السياسة والقرار وحماية حريات الافراد وحقوقهم .
على اي حال فان جوهر الديمقراطية هو المشاركة العامة ، وبمقدار سعة هذه المشاركة تتوسع الديمقراطية والعكس بالعكس . يمكن قياس مستوى الممارسة الديمقراطية في مجتمع ما بالنظر الى ثلاثة ابعاد متمايزة :
أ) السعة الافقية للمشاركة الشعبية في القرار السياسي ، اي التناسب بين عدد الافراد المشاركين في القرار السياسي وبين مجموع القادرين على المشاركة . كمثال على ذلك فان سعة المشاركة تظهر من خلال مقارنة عدد المشاركين في الانتخابات العامة مع عدد المؤهلين او المسجلين في سجلات الناخبين . كما تظهر من خلال المقارنة بين القوة البشرية المنضوية في اطار احزاب او مجموعات منظمة والعدد الاجمالي للسكان .
ب) عمق المشاركة التي تظهر من خلال القياسات الكيفية للمشاركة الشعبية . مثل المقارنة بين تاثير البرامج والسياسات وبين تاثير العلاقات الشخصية على خيارات المواطنين السياسية ، ولا سيما في مواسم الانتخاب . يمكن معرفة ذلك بمقارنة عدد المنتخبين على اسس قبلية او طائفية مثلا وعدد المنتخبين على اساس برامج سياسية . اضافة الى مساهمة منظمات المجتمع المدني في نقد ومراجعة سياسات الدولة واقتراح سياسات وبرامج بديلة ، وما اذا كان نشاطها محصورا في المواسم الانتخابية او كان نشاطا حيويا متواصلا . ومن بين القياسات الكيفية مراقبة التغير في تركيب النخبة السياسية ولا سيما توسعها بانضمام افراد جدد وتوجهات سياسية وثقافية جديدة ، فضلا عن سعة تمثيل المكونات والاطياف الاجتماعية المختلفة في اجهزة الدولة .
ج) تقدم العملية الديمقراطية التي تظهر من خلال قياس التناسب بين الحقول وموضوعات العمل التي يتخذ فيها القرار بمشاركة الشعب الى مجموع الحقول والموضوعات في المجال العام . كمثل على هذا فلو ان 20% من موضوعات الحقل العام تتقرر بمشاركة 80% من المواطنين ، فان الديمقراطية في هذا المجتمع تعتبر متاخرة . الوضع الامثل هو ان تتخذ القرارات في 100% من موضوعات الشأن العام بمشاركة كل الشعب . او على الاقل مع فتح المجال وتوفير الفرص لهم للمشاركة . وعلى هذا الاساس يمكن وصف المجتمعات بانها متطورة او متخلفة سياسيا على ضوء ارتفاع او انخفاض معيار المشاركة في القرار ، حيث تنقسم الى غير ديمقراطية او ديمقراطية جزئيا او ديمقراطية كاملة بحسب نسبة الموضوعات التي يتخذ فيها القرار مع توفر المشاركة الشعبية .

الديمقراطية والايديولوجيا

الديمقراطية نظام عمل system ، يمكن ان يستخدم من جانب ايديولوجيات مختلفة ، كما يمكن ان يحمل صفات ايديولوجية مختلفة . في كل الاحوال فان عنصر الايديولوجيا يضيف ما يمكن وصفه بلمسة محلية او صبغة خاصة تجعل اليات الديمقراطية اكثر قربا من البيئة المحلية التي تطبق فيها ، واقدر على الاندماج في نسيجها الثقافي . بعبارة اخرى فان اضافة اللمسة الايديولوجية لا تعني استبدال آليات الديمقراطية ومبادئها الاساسية بأخرى مستقاة من الايديولوجيا ، لان النظام سيفقد في هذه الحالة صفته الديمقراطية . ونجد في عالم اليوم نماذج ديمقراطية عديدة ، تتمايز عن بعضها بتركيز النموذج على خواص معينة او تعديل سلم اولويات النظام بحسب ما يراه اصحابه من تمايز في حاجات مجتمعهم . كمثال على ذلك فان الفلسفة السياسية الليبرالية او الفلسفة البراغماتية تستعمل الديمقراطية لانتاج ما يعرف اليوم بالديمقراطية الليبرالية التي تركز على الحريات الفردية كاولوية سابقة للعدالة الاجتماعية . وحين تستعمل الديمقراطية من جانب الاشتراكيين فانها تنتج نظام الديمقراطية الاجتماعية او – في مراحل اخرى - الديمقراطية الاشتراكية ، الذي يركز على الدور المركزي للدولة في توزيع الثروة والموارد العامة ، وضمان مستوى معيشي معقول يتساوى فيه الجميع . وبنفس الطريقة فان استخدام الديمقراطية على ارضية الثقافة المسيحية او الرجوع الى اصولها الدينية كمصدر الهام للنظام ، سوف ينتج ذلك النوع الذي تعرفه اوربا اليوم باسم الديمقراطية المسيحية والذي يتمثل غالبا في الاحزاب الديمقراطية المسيحية (في ايطاليا والمانيا وفرنسا مثلا) .

الديمقراطية الدينية : الفرضيات الاولية

الديمقراطية الدينية او – بتعبير ادق - الديمقراطية الاسلامية ، هي كما اشرنا سابقا ، مفهوم مركب من جزئين ، جزء يتعلق بطبيعة النظام السياسي وكيفية عمله ، وجزء يتعلق بالثقافة التي يقوم في اطارها والقيم التي تشارك في تشكيل هويته الخاصة كنظام سياسي محلي ، اي منبعث من البيئة الخاصة للمجتمع المسلم . في هذا السياق فمن المهم فهم الفرضيات الاولية التي ينطلق منها هذا التركيب ، كي تتضح حدوده والخطوط التي تميزه عن غيره من النماذج .
الفرضية الاولى تتعلق بالتمايز بين الدين والديمقراطية . يجب ان لا يتوهم القاريء بان الديمقراطية هي عين الدين او ان الدين هو عين الديمقراطية . الديمقراطية نظام عمل قابل للاشتغال في نطاق خاص ، هو الادارة السياسية للمجتمع . بينما الدين هو منظومة قيم يمكن ان تكون مضمونا لمختلف جوانب الحياة ، بما فيها النظام السياسي الديمقراطي . لكن على رغم هذا التمايز فان الدين والديمقراطية ليسا متنافرين ، بل يتمتع كل منهما بقابلية للتوافق مع الاخر . من الانصاف التاكيد على ان دعوى التوافق تفترض قراءة معينة للدين ، وليس كل قراءة ، فمن الواضح ان هناك قراءات واجتهادات في الدين تتعارض مع الديمقراطية . من هنا فان من الاسلم القول بان الدين المقصود ، اي الذي يمكن ان يقوم على ارضيته نظام ديمقراطي ، هو الدين الذي لا يتعارض – على اقل التقادير - مع اصل ومبررات سيادة الشعب . نضيف الى هذا ان التوافق بين الدين والديمقراطية لا يقود بالضرورة الى ديمقراطية دينية ، بعبارة اخرى فان الديمقراطية الدينية هي مقولة يتجاوز مداها ومتطلباتها وانعكاساتها مجرد التوافق بين الدين والديمقراطية كما سيأتي لاحقا .
الفرضية الثانية هي ان حاكمية الشعب الدينية او الديمقراطية الاسلامية تمثل مفهوما متمايزا عن ديمقراطية المتدينين . لو ان مجتمعا متدينا تبنى الاليات الديمقراطية لادارة اموره العامة من دون ان يضيف اي عنصر جديد على اصول او مباني اومعايير نموذج الحكم الديمقراطي المتعارف في العالم ، فان نظام الحكم الناتج يمكن وصفه بديمقراطية المتدينين . وهذه كما سلف مقدمة لحاكمية الشعب الدينية والديمقراطية الاسلامية ، لكنها متمايزة عنها وليست هي ذاتها . الديمقراطية الدينية او الاسلامية هي مقولة تتجاوز مفهوم ديمقراطية المتدينين . وصف "الديني" او "الاسلامي" في هذا المفهوم هو وصف للديمقراطية وليس المجتمع الذي يتبناها . بمعنى ان الديمقراطية الاسلامية هي نوع من انواع الديمقراطية ، يضيف الى مفهوم الديمقراطية الاصلي لونا ورائحة اسلامية ، ويزيد في هذا المفهوم او ينقص منه بعض المباني والمعايير بالرجوع الى الثقافة الاسلامية . وبالتالي فان المفهوم الجديد قد يوسع بعض جوانب المفهوم الاصلي ، او يضيق بعضها الاخر كي تتطابق مع مباديء وضرورات الشريعة الاسلامية . بديهي ان العامل الحاسم وراء اتباع هذا النموذج من الديمقراطية وتطبيقه في الحياة السياسية الفعلية ، هو اقتناع المسلمين به ورغبتهم فيه ، وبالتالي فانه يشمل مفهوم "ديمقراطية المتدينين" ، لكنه يتجاوزه الى ما هو ابعد . بكلمة موجزة فان "ديمقراطية المتدينين" هي نموذج يتضمن اليات عمل ديمقراطية محايدة وفارغة من المضمون القيمي الديني ، يتبناها مجتمع مسلم او متدين . اما الديمقراطية الدينية ، فهي نموذج يتضمن اليات عمل ديمقراطية ، كما ينطوي في الوقت نفسه على منظومات قيمية ومعايير مستمدة من الشريعة الاسلامية ، ويتبناه ايضا المجتمع المسلم او المتدين .

الدين المناسب للديمقراطية

من نافل القول ان عالم الاسلام يعج بالعديد من القراءات والاجتهادات في الدين . من البديهي ان بعض هذه القراءات لا يقبل بالديمقراطية او حاكمية الشعب او الديمقراطية الاسلامية ، بل يزعم ان اجتماع حاكمية الشعب مع الدين مستحيل لانه جمع بين نقيضين ، كما يزعم ان الديمقراطية لا تتلاءم – مبدئيا - مع الاسلام . ولهذا فمن المفيد التطرق الى مواصفات القراءة الدينية التي ترفض الديمقراطية ، ونقارنها بتلك التي سنسميها القراءة الديمقراطية للدين .

 القراءة الدينية الرافضة للديمقراطية :

ظهرت هذه القراءة منذ البدايات الاولى لتعرف العالم الاسلامي على مفهوم الديمقراطية . وهي ترى ان اتباع الاسلام يعني الخضوع لحاكمية الله والتسليم لامره ونهيه ، اما الديمقراطية فهي حاكمية الرغبات والشهوات ، والتسليم لاهواء الاكثرية الذين يصفهم القرآن بمثل الاية المباركة "اكثرهم لا يعقلون" او "لا يؤمنون" وما يماثلها . ويقول اصحاب هذا المذهب ان المجتمع الديني ينبغي ان يدار طبقا للمعايير الالهية . وهي معايير محددة وثابتة ، ولا يمكن تغييرها بناء على راي الجمهور القليل المعرفة بمبانيها وادلتها الشرعية . الاسلام ايضا هو علم لادارة المجتمع وحياة الانسان من المهد الى اللحد . وهو واسع وشامل لم يهمل جانبا من جوانب الادارة الاجتماعية كي يحتاج تكميله الى مناهج البشر واختراعاتهم مثل الديمقراطية . بعبارة اخرى فان الدين كامل وليس ناقصا كي يمد يده الى الديمقراطية ليستعين بها في ادارة المجتمع . من ناحية اخرى فان الديمقراطية – طبقا لهذه الرؤية – هي ثوب يناسب قامة المتغربين ، او بضاعة غربية لا يمكن استخدامها لاقامة احكام الشريعة الغراء . ويقدم اصحاب هذه الرؤية صورة متكاملة عن نظام الحكم الذي يرون فيه البديل الحق عن الديمقراطية ، وهو نظام يقوم على مجموعة من المفاهيم القاعدية ، من اهمها :
أ – الانسان كائن ناقص ، ضعيف وعاجز عن مقاومة وسوسة الشيطان وشهوات النفس . ولهذا فهو محتاج دائما الى من يتولى امره كي لا يزل ، ويرشده الى طريق الكمال حتى يبلغ السعادة الحقيقية . بناء على هذه الرؤية فان المجتمعات الانسانية التي تفتقر الى ولي من قبل الله ، سائرة في طريق الانحراف والسقوط .
ب – الاسلام دين شامل وقادر على سد جميع حاجات الانسان في المجال الفردي كما في المجال الاجتماعي منذ خروج الفرد الى الحياة وحتى يموت . وهو قادر على هداية المجتمع الاسلامي الكبير ، وحل جميع مشكلاته السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والاجتماعية ، بل لديه حلول لمشكلات المجتمعات غير الاسلامية ايضا .
ج – الطرق التي وضعها الدين لحل المشاكل التي تواجهها المجتمعات البشرية ، مضمرة في النصوص الدينية . لهذا فاننا بحاجة الى علماء الدين والفقهاء لاستنباط تلك الحلول واستخراجها من الكتاب والسنة ، وتوفيرها للمؤمنين .
د – لم يحصل ابدا ان تخلى الاسلام عن قيادة المجتمع او تركه في حال سبيله في اي وقت من الاوقات . بل اهتم على الدوام بتحديد سبيل الادارة والقيادة وشخص كيفية الاشراف والولاية على الحياة الاجتماعية . في زمن الرسول والائمة عليهم السلام كانت الولاية والقيادة بيدهم ، ومن بعد غيبة الامام الثاني عشر ، فوض الشارع المقدس الولاية وقيادة المجتمع الى الفقهاء العدول ، وكلف عامة الناس بطاعتهم واتباعهم .
هـ - افراد الشعب ليسوا سواء من الناحية الشرعية . ثمة تمايزات يقررها الشرع بين الاصناف المختلفة من الناس . ثمة فرق مثلا بين المسلم وغير المسلم ، وبين المؤمن وغير المؤمن ، وبين الرجل والمرأة ، وبين الفقيه والعامي ، وما اشبه . ومن هنا فان القول بالحقوق المدنية المتساوية للمواطنين وتطبيقاتها القانونية والسياسية تتنافى مع ضروريات الفقه .
و – الاحكام الشرعية ، سواء الملزمة او غير الملزمة ، لا يمكن وضعها او تعيين تطبيقاتها بناء على راي الاكثرية او رضا عامة الناس . سواء اراد الشعب ام لم يرد ، فانهم – باعتبارهم مسلمين – مكلفون بالاذعان لتلك الاحكام . الثابت من هذه الاحكام يستنبط من جانب الفقهاء جميعا ، والمتغير منها (المتعلق بادارة البلاد) يستنبط من جانب الفقيه الحاكم ، وهو الذي يأمر اجهزة الدولة بتنفيذها . في كل الاحوال ليس للشعب اي دور في التشريع ووضع القوانين او نظم الادارة والعمل في المجال العام . وليس لرضا الشعب او رأيه دخالة في تطبيق تلك القوانين والنظم . تقوم هذه الرؤية على القول بان جميع موضوعات الحياة الخاصة او العامة هي موضوعات دينية ، اي مجالا محتملا للتكليف الشرعي ، وهذا يشمل حتى الموضوعات المصنفة ضمن دائرة المباحات . لا يوجد موضوع حياتي خارج عن التكييف والتكليف الشرعي – بالقوة او بالفعل - . قد يكون هذا التكليف الزاميا او غير الزامي ، وقد يكون حكما اوليا او ثانويا ، ارشاديا او ولائيا . بعبارة اخرى فانه لا يوجد مجال او موضوع خارج دائرة الشرع حتى يمكن الرجوع فيه الى راي الشعب .
ز – راي ولي الامر هو المعيار في القضايا والقرارات المتعلقة بالمجال العام ، والجمهور المتدين مكلف شرعا باتباع امر الولي الفقيه وطاعته على نحو يرضيه ويعزز مكانته .
هذا المذهب هو الفهم العام للدين الرائج بين الاسلاميين التقليديين في مصر والجزائر وافغانستان وايران . وهم يعتبرون ان حاكمية الشعب ايا كان نوعها تمثل غصبا وعدوانا على حاكمية الله وسيادته . ومن ابرز من ذهبوا هذا المذهب الشيخ فضل الله النوري في ايران وسيد قطب في مصر ، وهو اليوم شائع في المنابر الرسمية في ايران ونسمع عناصره تتكرر على لسان المتحدثين فيها ، ولا سيما في خطبة الجمعة في طهران .

 القراءة الديمقراطية للدين

لعل ابرز سمات هذه القراءة هو انفتاحها على العلم وتعظيمها من شأن العقل ومحورية دوره في فهم الدين ، وتركيزها على الاجتهاد المتجدد الذي يقوم على تركيب ودمج العناصر القيمية والموضوعية في آن واحد . القراءة الديمقراطية للدين لا تنظر الى منطوق النص في معزل عن عقل الفقيه او الباحث وهمومه ، ولا تغفل تاثير البيئة والثقافة السائدة على فهم النص وتحديد اغراض الحكم الناتج ، كما لا تقبل بالفصل بين الحكم الشرعي وبين احكام العقل ومقتضيات العدالة . وهي تنطلق من فرضية ان غرض الدين هو انعتاق الانسان وليس عبوديته ، والارتقاء بالحياة الانسانية وليس تضييقها وتعقيدها . كما انها تلحظ دورا محوريا للعقل الفردي والجمعي في صياغة الفكرة الدينية ، وتعتبر التفاعل والحوار الدائم بين العقل والنص ، الطريق الوحيد لضمان حياة دينية نشطة وخلاقة . ظهرت هذه القراءة منذ اواخر القرن التاسع عشر ، وظهرت اهميتها وتاثيرها خلال الثورة الدستورية (1905-1906) . وخلال القرن العشرين شكلت محور استقطاب بارز للشرائح الحديثة من المجتمع الديني ، وتبلور على ضوئها تيار عريض يدافع عن حقوق الانسان ويسعى لتجريد الدولة من ميلها التاريخي للقهر والتجبر . كما يدعو لتطوير الفكر الاسلامي والاجتهاد واصلاح الحياة الدينية بشكل عام .
فيما يخص النظام السياسي ، تقدم هذه القراءة عددا من المفاهيم القاعدية التي تشكل ارضية مناسبة لنموذج الديمقراطية الدينية. ومن ابرزها :
أ – الانسان في نظر الاسلام كائن مكرم وحامل للروح الالهية ، يقوده العقل الذي اعتبره الاسلام بمثابة الرسول الباطن . ولهذا فهو محل للثقة والاعتمادية ، وقد جعله الله – كما في النص القرآني - كفؤا ومؤهلا لخلافته في ارضه  .
ب - كمال الدين هو كمال ارشادي ، بمعنى انه قادر على هداية الانسان في كل جوانب حياته ، لا انه دخيل في كل جانب . للدين دور في حياة الانسان وللعلم دور آخر . قد يوفر الدين بعض المعارف التي لا يستطيع الانسان التوصل اليها بمفرده ، او ان الوصول اليها يتطلب امكانات او زمنا يتجاوز قدرة الانسان . اما في الجوانب التي يمكن بلوغها عن طريق التجربة البشرية او العقل الجمعي فغاية ما ينتظر من الدين توفيره هو الارشاد وحسب . ولهذا لا نتوقع من الدين ان يتدخل في الامور العلمية ، الرياضية او التجريبية ، او ينشغل بحل مشكلاتها العلمية ، وهكذا الحال في مجالات العلوم الانسانية .
ج – بالنظر لاختصاص الدين بوظائف معينة واختصاص العلم بوظائف اخرى ، فان موارد اهتمام النص الديني وما يستخرج منه من احكام ومعارف ، تتعلق حصرا بالموارد التي تدخل ضمن وظائف الدين ، والتي يتوقع منه ان يحدد للناس كيفية التعامل معها . اما ما يخرج عن نطاق هذه الوظيفة مثل الامور العلمية البحتة الرياضية او التجريبية او الانسانية (مثل الاقتصاد والمجتمع . . الخ) فلا يمكن الحصول على احكام او استنتاجات علمية فيها عن طريق منهج الاجتهاد والاستنباط المتعارف في علم الفقه .
د - السياسة ، اي التدبير في المجال العام ، عمل عقلائي يعتمد على التجربة الانسانية والعقل الجمعي ويستفيد منهما . وهي بطبيعتها متغيرة ، ليس فيها حكم تاسيسي او ثابت او تعبدي . يحدد الدين الاهداف العليا للعمل السياسي ، ويقدم معايير كلية لاخلاقيات هذا العمل ، ويعرف بعض المسارات السلبية والايجابية وبعض الجزئيات على سبيل التمثيل فقط . وتصاغ السياسة الدينية على ضوء هذه العناصر . واذا كان الاسلام لا يتلاءم مع كل الانماط السياسية ، فانه في الوقت نفسه لا يقدم شكلا واحدا ثابتا للممارسة السياسية . ومن الممكن صياغة اشكال سياسية عديدة في زمن واحد تنسجم مع القيم والمعايير الدينية ، او لا تتعارض مع تعاليم الدين . بعبارة موجزة فان الاسلام لم يحدد نموذجا خاصا وثابتا للادارة السياسية او النظام السياسي .
هـ – الاحكام الثابتة هي جزء من قواعد العمل في المجتمع الديني . اما الجزء الاخر فهو الاحكام المتغيرة ، وهو مجال وسيع توضع احكامه على يد المجتمع وبالاستفادة من العقل الجمعي . واكثر الاحكام المتعلقة بالحياة السياسية هي من النوع الثاني وهي تصنف ضمن دائرة المباحات او منطقة الفراغ التشريعي التي تركها المشرع مفتوحة وحرة للمسلمين كي يكيفوا حاجاتهم القانونية والحياتية ضمنها باستخدام المناهج والطرق الاكثر عصرية وكفاءة .
و - تعول هذه القراءة بشكل اساسي على الاجتهاد المستمر الذي يلعب فيه عنصر الزمان دورا محوريا في فهم النص وموضوعاته . ومفهوم الاجتهاد هنا يتجاوز حدود مصطلحه المتعارف في الحوزة العلمية . التركيز على عنصر الزمان يكشف عن حقيقة ان بعض الاعراف والتقاليد الخاصة بزمن الوحي قد دخلت في التراث الديني ، ومع مرور الزمان جرى اعتبارها من ثوابت الدين . ولهذا فان منهج الاجتهاد في القراءة المقترحة للدين يسعى الى تنقية الاسلام من الاضافات التي تعكس العرف المحلي . ان هدف التعاليم الدينية – في هذه الرؤية – هو تعميق المعرفة والضمير الديني والتحول الداخلي للانسان .

كيف يصبح النظام الديمقراطي اسلاميا

الديمقراطية الاسلامية هي نظام للحياة السياسية للمسلمين في العالم الحديث . وليس المراد من نسبتها الى الاسلام استنباطها من الكتاب والسنة ، بل الاشارة الى انها منهج عقلاني لا يتنافى مع قيم الاسلام ، وانها وسيلة يمكن للمسلمين الاخذ بها لتنظيم حياتهم ، وان الفكر الاسلامي قادر على توفير المباني الفلسفية للديمقراطية الدينية . من ناحية اخرى فان الديمقراطية الاسلامية هي نوع من انواع الحكومة الدينية ، فالحكومة الاسلامية يمكن ان تكون – كما اشرنا سلفا - ديمقراطية تستند الى سيادة الشعب ، ويمكن ان تكون فردية اوتوقراطية او نخبوية ارستقرطية .

ترى كيف تتحقق اسلامية الحكم ؟

يتضح الان ان الجواب على هذا السؤال سيكون متفاوتا بقدر تفاوت فهم الدين واستنباط احكامه ، طبقا للقراءة المعارضة للديمقراطية او القراءة الاخرى . اذا اخذنا بالقراءة الاولى ، فان النظام السياسي الديني سيكون فرديا اوتوقراطيا او نخبويا اريستوقراطيا ، اما النظام الديمقراطي فهو ممتنع ومتناف مع الدين . وبالعكس من هذا فان الدين في القراءة الثانية لا يتناسب مع اي من النوعين الاولين ، بل يتناسب فقط مع نظام سياسي ديمقراطي . لكي نفهم طبيعة الانتساب الديني لكل من انظمة الحكم الثلاثة ، من المفيد الاشارة الى مفهوم "المشروعية = legitimacy" ، فكل من القراءتين لها تصور خاص عن المصدر الذي يستمد منه النظام شرعيته . الشرعية هي الاساس القيمي الذي يبرر سلطة الحكومة ، ويعطيها الحق في الامر والنهي واصدار القوانين والسياسات وفرض الالتزامات على المواطنين . بناء على هذا المبرر ، يمكن للحكومة ان تحضى بطاعة الشعب وولائه ، ويعتبر عمل الحاكمين اخلاقيا ومقبولا . تذهب القراءة الاولى الى ما يوصف بالشرعية الالهية المباشرة . بمعنى ان الله سبحانه قد فوض حق الحاكمية والتصرف في المجال العام الى الفقهاء مباشرة ومن دون وساطة الشعب . بعبارة اخرى فان الشعب لا دور له في توليد الشرعية السياسية . سلطة الحكم – بناء على هذه الرؤية – في يد الفقيه الذي نصبه الله حاكما على الناس ، وهذا النصب الالهي هو مبرر حكمه واساس شرعيته .
خلافا لهذا ، تذهب القراءة الثانية الى ما تصفه بالشرعية الالهية - الشعبية ، او الشرعية الشعبية مع رعاية المعاييرالالهية . طبقا لهذه الرؤية فان الخالق سبحانه قد فوض التدبير في المجال العام والادارة السياسية الى الشعب كي يتصرف فيها ويمارس سيادته في موضوعاتها على النحو الذي يؤمن مصالحه ويرعى في الوقت نفسه المعايير الدينية . يتمتع الانسان وفقا لهذه القراءة بحق مطلق في تقرير مصيره واختيار نمط حياته . وهو حق اعطاه الله للانسان كفرد وللمجتمع كمجموع . ولا يحق لاحد سلب هذا الحق الالهي . يمارس الشعب هذا الحق من خلال تحديد السياسات الرئيسية للحكومة وانتخاب منفذيها ، اي اعضاء الحكومة .
يتضح اذن ان الله سبحانه ، طبقا لكلا القراءتين ، هو المصدر الاعلى لشرعية السلطة . لكن الفارق بينهما يكمن في اعتبار دور الشعب . فالقراءة الاولى تنكر هذا الدور كليا وجزئيا ، بينما تعتبره القراءة الثانية جوهريا واساسيا وهي تعتبر الشعب نائبا عن الله سبحانه في تفويض السلطة ، اي توليد الاساس الشرعي لممارستها . بناء على هذه الرؤية فان سلطة الحاكم لا تكون مشروعة الا اذا فوضها الشعب اليه ، بعبارة اخرى فان الارادة الشعبية العامة هي مصدر الشرعية السياسية .
اضافة الى ارتباط النظام الديمقراطي بمصدر شرعية سليم ، يتمثل في الامة التي منحها الله حقا قطعيا في تقرير مصيرها كما فوضها خلافته في ارضه ، فان هذا النظام يستمد صفته الدينية من اصلين متوافقين : الاول هو سعيه الى تحقيق الاهداف السامية للدين ، والثاني هو التزامه بتعاليم الشريعة في ادارة المجتمع والدولة . طبقا للقراءة الدينية التي نقترحها فان احكام الشريعة ينبغي ان تستنبط من خلال منهج اجتهادي سليم ياخذ بنظر الاعتبار مقتضيات الزمان والمكان ومتغيراتها .

 خصائص الديمقراطية الدينية

اولا : الديمقراطية الاسلامية هي نظام قابل للتطبيق في المجتمعات التي يميل اكثرية اعضائها اليه ، اي انه لا يفرض بالقوة او الخديعة على مجتمع لا يريده او لا يعرف فحواه . وفي راينا ان اكثر المجتمعات الاسلامية تريد نظاما من هذا النوع .
ثانيا : في اطار نظام ديمقراطي اسلامي ، يتمتع جميع افراد المجتمع ، بغض النظر عن دينهم ومذهبهم وجنسهم وعرقهم وعقيدتهم السياسية ، بالمساواة في الفرص والحقوق كما انهم متساوون في الواجبات وامام القانون . المساواة المدنية تعني ان لكل مواطن حقا يضمنه القانون في المشاركة المتكافئة في الحياة السياسية والتنافس على جميع المناصب العامة وممارسة السلطة في كل مستوياتها . وليس هناك اي ميزة لاي مواطن على غيره في هذا الصدد ، اذ لا يمتاز الشيعي على غيره ولا الفقيه على سواه ، فالكل سواسية في الحقوق والواجبات على ارضية المواطنة .
ثالثا : اعتمادا على الاذن الالهي فان ارادة الشعب هي المصدرالوحيد لشرعية الممارسة السياسية ، اي تولي السلطة . فالحكومة تصل الى مقعد الحكم من خلال الانتخابات التي تكشف عن ارادة الشعب ، كما ترحل عنها بنفس الطريقة .
رابعا : كل قرار لا يشارك الشعب فيه فهو باطل ولا اعتبار له . يجب العمل على تعزيز مشاركة الشعب في جميع مستويات ومراحل اتخاذ القرار وصولا الى الصورة المثالية للممارسة الديمقراطية ، اي اوسع مشاركة في اكبر عدد من القرارات التي تغطي اوسع نطاق ممكن من الحياة العامة .
خامسا : تطبق الاحكام الشرعية في المجال العام بعدما تلبس ثوب "القانون" . ونظرا لان القانون يشرع ويوضع موضع التنفيذ بناء على موافقة الشعب او ممثليه ، فان الهيئة التشريعية (البرلمان) تختار بين الاراء المختلفة في كل مسألة الرأي الذي يحظى بقاعدة اجتماعية اكبر . وبناء على هذا يتحول الراي المنظور الى قانون . هذا بالنسبة للموضوعات التي يتوجب العودة فيها الى اراء الفقهاء ، اما بالنسبة للموضوعات الداخلة ضمن اطار المباحات ، وكذلك بالنسبة الى كيفية تنفيذ الاحكام والقوانين من كلا النوعين ، فان المرجع فيها هو العقل الجمعي ، اي عامة الشعب او نواب الشعب .
سادسا : من ابرز الفوارق بين الديمقراطية الدينية وبقية انواع الديمقراطية هو التزام المجتمع باخلاقيات الدين وتعاليمه وقبولها كاساس للقانون العام . الالتزام بالدين هو احد المكونات الاصلية للنظام الاجتماعي التي لا يمكن حذفها ، شأنه في ذلك شأن الحريات والحقوق المدنية وبقية المباديء الدستورية الحيوية للنظام واستمراريته .
سابعا : تدير الدولة الموارد العامة للبلاد وجميع ما هو مشترك بين المواطنين بصفتها وكيلة عن الشعب وممثلة لمصالحه . ويجب ان تتحقق هذه الوكالة من خلال نظام واضح لتفويض السلطة مثل الانتخابات العامة . كما ان صلاحيات المسؤولين عن ادارة الشأن العام سواء في الفرع التشريعي او التنفيذي للحكومة مقيدة ومحدودة في اطار ما يسمح به الدستور . وليس لاي مسؤول صلاحيات مطلقة او غير خاضعة للرقابة الشعبية والمحاسبة . من ناحية اخرى فان التفويض الشعبي محدد بزمن ، ولا يمنح اي مسؤول تفويضا او سلطة مدى الحياة او مربوطة بشروط او ظروف لا يمكن تحديد نهايتها زمنيا .
 ثامنا : اهم الشروط اللازمة لتولي المناصب العامة هو الكفاءة وثقة الشعب ، والطريق الطبيعي للوصول الى تلك المناصب هو الحصول على التفويض الشعبي في انتخابات حرة وعادلة .
تاسعا : علماء الدين المنتخبون من قبل الشعب او نوابه هم المكلفون بتأمين العنصر الاول ، اي الاعتبار الديني للنظام ، او على الاقل التاكد من عدم تنافي سياساته مع تعاليم الشريعة الاسلامية . في تفصيل هذا البند نشير الى ان صفة علماء الدين تشمل الفقهاء لكنها لا تقتصر عليهم ، فهي تشمل ايضا بقية الخبراء في الشأن الديني مثل الفلاسفة الدينيين وعلماء الاخلاق وامثالهم من المختصين في المعارف الدينية ، من الرجال والنساء .
عاشرا : الديمقراطية الدينية نظام مقيد بالقانون ، وقادته خاضعون للقانون ، وليس لاي فرد فيه ان يعتبر نفسه او يعتبره الاخرون فوق القانون او غير خاضع لاحكامه .

احتمالات التفارق بين الديمقراطية والدين

يتألف نموذج الديمقراطية الدينية من مجموع الحقوق المدنية للمواطنين زائدا التزام النظام بالقيم الدينية . لو حدث في وقت من الاوقات ان قررت اكثرية المجتمع العدول عن الالتزام بالمعايير الدينية ، وذهبت في اتجاه معاكس لعرف علماء الدين في وقت معين ، فهذا يعني ان الشعب قد قرر الغاء الديمقراطية الدينية . في هذه الحالة فان النظام السياسي يبقى ديمقراطيا لكنه غير ديني (لان الديمقراطية تقوم على سيادة الشعب) . اذا وجدت هذه الحالة (اي التقابل بين الراي العام وبين التعاليم الدينية) فسوف يكون امامنا طريقان : الاول هو استعمال السلطة الجبرية والزام الشعب باحكام الدين رغما عن انوفهم حتى لو اقتضى ذلك استعمال العنف والقمع ، والثاني : هو الخضوع لمشيئة الراي العام على المستوى السياسي من دون التخلي عن التنبيه الى خطأ هذا التوجه والتمسك بالحق في العودة الى المسار الديني من خلال الطرق السلمية ، اي التركيز على العمل الثقافي والتوعوي لاصلاح الزلل في الضمير الشعبي ، ونقد التجربة السابقة لاستعادة ثقة الجمهور في النهج الديني .
 في اعتقادي ان الطريق الاول غير صحيح ولا هو مفيد ، ذلك ان الايمان الديني يرتبط عضويا بالضمير الحر . ولا يمكن للدين ان يترك تاثيره في جوانب الحياة المختلفة ما لم يصدر عن اختيار واع وكامل ، اي تجربة روحية خالصة ينعدم فيها الجبر او القهر . اما الطريق الثاني فهو المتبع في نموذج الديمقراطية الدينية . النظام الديمقراطي الديني هو ثمرة الارادة الحرة للشعب ، وهو قائم ومشروع طالما اراده الشعب ورغب في الحفاظ عليه ، فاذا ادبر الشعب عنه فقد مشروعيته وبالتالي قابليته للاستمرار في ادارة المجتمع .
وما دمنا قد وصلنا الى هذه النقطة ، فقد يكون مفيدا الاشارة الى ان الراي العام ، اي الراي المتفق عليه بين اكثرية الشعب هو معيار لشرعية الممارسة السياسية ، وليس معيارا لصحة العمل من الناحية النظرية . بعبارة اخرى فان قبول الشعب او ممثليه براي معين ورفضه لراي اخر لا يعني ان الاول حق والثاني باطل . ذلك ان المدار في ممارسة السلطة ليس الحق والباطل بل رضا الشعب او عدمه . لكن في كل الاحوال فان اسلامية النظام تقتضي عدم تنافي السياسات المختارة مع القيم الاسلامية الاساسية . بناء على هذا فان استمرارية الديمقراطية الدينية رهن بتوفر عنصرين جوهريين هما : بقاء اعتباره الديني او على الاقل عدم تنافيه مع التعاليم الدينية ، وفي الوقت نفسه تمتع النظام بثقة ورضى اكثرية الشعب .
بطبيعة الحال فان انتفاء اي من هذين العنصرين سيؤدي بالضرورة الى انتفاء الديمقراطية الدينية . غياب العنصر الاول سينفي الصفة الدينية عن النظام مع بقاء الديمقراطية ، وغياب العنصر الثاني سينفي الديمقراطية ويبقي النظام دينيا . وقد سبق الاشارة الى ان نظاما دينيا غير ديمقراطي لا يفيد الدين بشيء ، فمن الممكن دائما المحافظة على الشكل الديني الخارجي للمجتمع من خلال اقامة الشعائر ورعاية المظاهر الدينية باستعمال القوة والقهر . لكننا نرى ان ظرفا من هذا القبيل لا يعزز القيم الدينية ، فالايمان الديني لا يسكن في الضمير ولا يتاصل في وجدان الانسان بالقهر والجبر . ولهذا فان السلطة الدينية القائمة على الجبر والقهر هي بالضرورة سلطة غير مشروعة . وهذا ما جرت عليه سيرة الاباء المؤسسين لدين الاسلام بمن فيهم رسول الله والائمة عليهم الصلاة والسلام .

بقية فصول الكتاب

1)  الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية                                                محمد مجتهد شبستري
5) في معنى الوصف الديني للديمقراطية                                            علي بايا
6) جدل فقهي حول الدولة الحديثة                                                  توفيق السيف

الديمقراطية الدينية : حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان - عبد الكريم سروش

           

    الديمقراطية الدينية : حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان
د. عبد الكريم سروش

    الفصل الثالث من كتاب الديمقراطية في بلد مسلم


مع انتهاء حقبة العلم القديم ، وهيمنة العلم الحديث ، تغير العالم كما تغير مفهومه وطريقة التفكير فيه. حتى القرن السادس عشر ، كان المفكرون الاوربيون يفهمون الكون على ضوء نظرية ارسطو ، الذي اعتقد ان الطبيعة منظمة طبقا لمنظومة وظيفية متصلة ببعضها ، ومتجهة نحو غاية اسمى او telos حسب التعبير اليوناني. ويقوم فوق هذا النظام كائن اعلى هو مصدر الخلق (الله).

د. عبد الكريم سروش
كان تغير هذه الصورة التيليولوجية ، هو نقطة التحول الى ما سمي بالعلم الجديد ، الذي نظر الى العالم نظرة ميكانيكية ، تفسر الظواهر الطبيعية اضافة الى السياسة والفكر الانساني ، كسلسلة من المقدمات والاسباب والنتائج ، بغض النظر عن غرضها او وظيفتها النهائية. موازيا لهذا التحول الفكري ،  ظهر الاصلاح الديني البروتستنتي الذي رفض فهم العالم كنظام هرمي ، قائم على رؤية ميتافيزيقية ، تعرف هوية الافراد تبعا لموقعهم في هذا النظام.

تبدو صورة العالم في العلم الحديث ، كما لو ان هذا العالم ليس من خلق الله. لا يعني هذا بالضرورة ان العلم الحديث ينكر وجود الله. بل هو بالتحديد لا يجد ضرورة لافتراض وجوده. بعبارة اخرى ، فانه حتى لو قبل اتباع العلم الحديث بفرضية وجود الخالق ، فانهم لا يجدون انفسهم معنيين بهذا الامر ، فالعلم يوفر لهم الادوات اللازمة لفهم العالم. لم يقتصر تاثير العلم الحديث على علاقة الانسان بالطبيعة ، بل اثر ايضا على سلوك الفرد وتوجهات الدولة. في المجتمعات الليبرالية المعاصرة تمارس الحكومات سلطتها كما لو ان الله غير موجود ، ويعيش الناس كما لو ان وجود الله او عدم وجوده سواء. رضا الخالق وارضاؤه لم يعد موضوعا للثقافة السياسية او اخلاقيات الدولة والمجتمعات. كل ما يهم المجتمع هو تحقيق مراداته ، وما يهم الدولة هو ارضاء المجتمع الذي تمثله وتحكمه.


بنظرة اجمالية يمكن القول ان الفارق الرئيس بين الحكومات الليبرالية – الديمقراطية المعاصرة ، ونظيرتها الدينية القديمة (في عصر سلطة بابوات الكاثوليك في اوربا كما في عهد الخلافة الاسلامية) ، يكمن في غرضها الاول (الحقيقي او المدعى). كانت الدولة القديمة تدعي ان غرضها هو تامين رضا الله قبل كل شيء ، وربما اهتمت بالمخلوقين كوسيلة لرضا الخالق لا كغاية قائمة بذاتها. في المقابل فان الدولة الحديثة اهتمت اولا واخيرا برضا المخلوقين بغض النظر عن خالقهم.

مشكلة الحكومات الدينية الديمقراطية تكمن في هذه النقطة بالذات ، اي صياغة معادلة في العمل السياسي ، تكفل الجمع بين رضا الخالق ورضا المخلوقين ، وتوازن بين داخل الدين وخارج الدين (او الجزء الديني والجزء غير الديني من العالم) ، وتنظم سياساتها واعمالها على نحو يحفظ في الوقت عينه ، حق الخلق وحق الخالق ، ويصون كمال الانسان وكمال الدين. من الانصاف القول بان مهمة هذه الحكومات ستكون اكثر صعوبة وعسرا مما كان معتادا في الحكومات من النوعين الاخرين.

السؤال الاساسي الذي يلح علينا هنا هو السؤال المتعلق بالله : هل الله موجود ام لا ؟. واذا كان موجودا فهل له حقوق ام لا ، وهل يجب علينا مراعاة تلك الحقوق ام لا ؟.

حق الله وحق الانسان

لو وضعنا حقوق الانسان وحقوق الله على مائدة واحدة ، فلا شك ان شخصا يحترم حقوق الانسان ، سيرى من البديهي ايضا ان حقوق الله – على فرض وجوده – اهل للرعاية والاحترام. ولن يستطيع هذا الشخص وهو يسعى في حياته اليومية ، ان يغفل هذا الوجود وما يترتب عليه من علاقات وحقوق. حين نفكر في امورنا من زاوية حقوقية بحتة ، فان حقوق الله ليست اقل حرمة ومكانة من حقوق الانسان.

ربما لم تغب عن النقطة البديهية عن اذهان المفكرين العلمانيين. لكنهم رغم ذلك انشغلوا بالبحث في رضا المخلوقين ، واغفلوا خالقهم لاسباب محددة ، يمكن تلخيصها كما يلي :

1- ان الخالق على فرض وجوده ، وعلى فرض ان له حقوقا خاصا ، قادر كل القدرة على الدفاع عن تلك الحقوق وهو قادر على استيفائها ، وليس في حاجة الى مساعدة الغير كما هو حال البشر الضعفاء والمساكين.

2- لا يستطيع احد مهما بلغت قوته ، ان يسلب الخالق حقه او ان يظلمه (بالمعنى المادي الواقعي للكلمة). وحتى اذا اغفل البشر رعاية حقوق الله ، فانهم مع ذلك غير قادرين على ايذائه او الاضرار به. ونذكر هذا بالمقارنة مع ضعف الانسان ، وما يستدعيه من واجب اخلاقي على اخوته في الانسانية. فالدفاع عن حقوق الانسان منبعث من دافع اخلاقي - انساني يتمثل في حاجة المظلومين والمحرومين ، الذين ضيعت حقوقهم او سلبت ، ومثل هذا الامر غير قابل للتصور او التحقق اذا تعلق الامر بالله.

3- الخلاف بين المؤمنين بوجود الخالق ومنكري هذا الوجود ، والنزاع حول صفاته وافعاله واسع وكبير. وبسبب هذا النزاع ، فقد خرجت مسألة وجود الخالق من دائرة البديهيات واليقينيات ، التي لا يختلف عليها البشر ، الى دائرة المشكوكات وغير المسلمات ، عند بعض البشر على الاقل. في هذا الخلاف لم تتصارع العقول بل العقائد ، ولم يهتم كل من طرفي النزاع بمناقشة ادلة الاخر نقاشا عقليا محضا او محايدا. ولهذا السبب فانه لم يمكن الوصول بالمسألة الى حل نهائي او قريبا من حل نهائي قطعي. ومن هذه الزاوية فان قهر الغير على الايمان بوجود الخالق او عدمه كعقيدة قطعية ، والزامهم برعاية مقتضياته ، قد يكون بعيدا عن العدل والانصاف.

لا يمكن الزام الجميع بالايمان بالله الواحد القادر ، على نحو واحد وبمعنى واحد. وبالتالي فلا يمكن الزامهم برعاية حقوقه على النحو الذي نتخيله او نرغب فيه. ان الطريقة المثلى لحل مثل هذا الاختلاف في الرؤية هو التسامح ، بمعنى ترك الفضاء متسعا وحرا للجميع ، بحيث يستطيع المؤمنون بالله والمنكرون له التعايش بسلام ومن دون تزاحم او تنازع فيما بينهم ، ويحصلون جميعا على حقوق متساوية ، ولا يفرض احد على سواه عقيدة او يجبره على فعل لا يفهمه او يستسيغه.

4- على فرض وجود الخالق ، فانه لا يمكن معرفة حقوقه على وجه الدقة والكمال. كل دين من الاديان العديدة المختلفة له فهم خاص للخالق يؤمن به ويدعو اليه. وكل من هذه الاديان يرى ان مفهومه هو الحق المطلق او الوحيد. ترى.. كيف يمكن اختصاص واحد من هؤلاء بالحق الاعلى او المطلق ؟. وكيف نعرف ان هذا حق وذاك باطل ؟. وكيف نعرف حقيقة ما يريده الله من كل واحد منا ؟. انها اسئلة يستحيل التوصل الى جواب واحد لها ، يتفق عليه جميع اهل الديانات. ومن هنا فان الطريق المنطقي والايسر ، هو العودة الى اصل الاختيار في الدين ، اي جعل الايمان اختيارا للافراد ، لا يحق للدولة ان تفرضه بالقوة او القانون. أي ، بعبارة اخرى ، ان تتحاشى الحكومة اتخاذ دين رسمي تفرضه على الناس رغما عنهم. وهذا يتطلب ان تفصل الحكومة بين ما هو وظيفة عامة لها وما هو شأن خاص وشخصي للافراد.

وظيفة الحكومة طبقا لهذه الرؤية ، هي ادارة المصالح العامة للمجتمع ، ورعاية الحقوق المشتركة بين المواطنين. اما الشأن الديني وحياة الافراد الشخصية فهما خارج هذا النطاق ، ويجب ان تترك للافراد يمارسونها وفق ما تهديه اليه عقولهم ، وما يؤمنون به من دون جبر او الزام. وحتى لو اردنا معرفة اي دين هو الحق واي دين هو الباطل وما هي حقوق الله ، فليس للحكومة ايضا ان تنحاز الى جانب محدد ، بل ينبغي لها ان تقف دائما على الحياد ، فتضمن حرية النقاش العقيدي للجميع ، من دون خلط بين الدين وبين مراداتها او ميولها السياسية.

5- فوق ذلك كله ، فان الدين يجب ان يكون انسانيا. جميع الناس وغيرهم من الكائنات مخلوقون لله سبحانه. وعلى نفس المنوال فان الدين منزل للناس ، لهديهم وخدمتهم ورفعتهم. الدين الذي يستحق الايمان والاتباع هو الدين الذي تتجلى فيه تلك الاوصاف السامية التي نتصورها عن علاقة الخالق بالخلق ، وتسعى تعاليمه لتجسيد الصفات التي نتصورها في الانسان لحظة كماله واتصاله بربه. ومنها ان يكون عادلا ، فطريا ، حقا ، وانسانيا. ينبغي ان تتجسد وتتضح هذه الصفات كخواص واغراض في كل حكم من احكام الدين. فهذه ليست صفات تجميلية او تكميلية بل هي معايير وضوابط اساسية يترتب عليها الوصف الديني للحكم او التشريع ، بمعنى ان اي حكم ديني يجب ان لا يتعارض عند تطبيقه في الواقع الخارجي مع مفاد تلك المعايير وتمثلاتها ، واذا تعارض فانه يفقد قيمته الدينية.

بناء عليه فانه لا يصح الزام احد بتبني عقيدة او القيام بفعل ضد الانسانية او ضد الحقيقة او ضد العدالة. كما لا يمكن تبرير هذا الالزام على ارضية الدين او التاريخ او باسم الله او الامة. ومن هذا نفهم ان تشخيص الوجه الانساني من الدين مقدم على تشخيص وجهه الرباني. ومن حق البشر ان يرفضوا اي دين غير انساني ، بل من حقهم نفي صفته السماوية بناء على كونه غير انساني. هذا امر بديهي لان الله سبحانه اراد الدين للانسان ولم يرده لنفسه فهو غني عن الناس وعن دينهم.


6- لانه لا يصح الاستدلال بما هو ثابت على ما هو مطلوب (بمعنى ان اثبات الشيء لا يثبت بالضرورة القول بالزامات تترتب عليه) ، فانه لا يصح ايضا تعريف وتعيين حقوق الناس ، بناء على قدراتهم او اوضاعهم الفعلية ، لان هذا سيقود الى العنصرية واشباهها. تعريف وتعيين حقوق الانسان يتوقف على واحد من طريقين: اما الاعتماد على مقاصد الخالق من خلق البشر ، واما تحديد البشر انفسهم لغايات حياتهم وما يستطيعون انجازه فيها. وفي كلا الحالين فان عليهم تحديد الوسائل والمستلزمات الضرورية لنيل تلك المقاصد والغايات.

حينما نتحدث عن "حقوق طبيعية" للانسان ، فان ما نعنيه على وجه التحديد ، هو ان احترام هذه الحقوق سوف يجعل حياة الانسان اكثر انسانية واكثر عقلانية ، وسوف يوفر للبشر الامان والرفاهية والازدهار. هذه الغايات اي العدل والرفاه والتحرر من التمييز والجدل والتعصب والتقاتل والجهل والجوع والجور ، هي غايات عقلائية ، بمعنى ان القبول بها كمسلمات هو نتاج لتجربة البشرية طوال تاريخها المتمادي. لقد ثبت صلاحها وضرورتها للانسان بالتجربة المتكررة في ازمان مختلفة وامكنة عديدة ، أوصلت البشرية الى اعتبارها بديهيات لا يجادل فيها عاقل. ومن هنا فانها لم تعد مورد جدل ، كما لم يعد ممكنا نفيها بالاعتماد على اي تبرير عقلي ، ولا اغفالها او التهوين من شانها بالرجوع الى بعض الدوغماءات الدينية.

لقد عانت البشرية الكثير من الالام واريقت انهار من الدماء ، بسبب التعصبات الطائفية والحروب الدينية ، والنزاع على اثبات حقانية هذا الدين او ذاك ، او للسيطرة على هذه القرية اوتلك. بعد هذه التجربة المريرة ، وصلت البشرية الى النقطة التي نتحدث عنها اليوم ، اي الاقتناع بان الطريق الوحيد لضمان حياة انسانية سليمة ، هو التراضي والتوافق فيما بينهم على اعتراف كل طرف بوجود الاخر وحقوقه المتساوية ، والقبول بما يترتب على تلك الحقوق من واجبات لكل منهم على الاخر ، وان لا يستهان بقيمة انسان او تنتقص حقوقه ، او تؤجل بسبب اختلاف لونه او عقيدته او عرقه او انتمائه او ثقافته.

انسانية الانسان ، اي طبيعته الاولية كفرد في الجماعة الانسانية ، هي مبرر كاف كي ينال شريحة معينة من الحقوق التي وصفناها بـ"الحقوق الطبيعية" بغض النظر عن دينه او عرقه او لونه او طبقته الاجتماعية او مستوى معيشته او البقعة التي ينتمي اليها.

7- تقتضي العدالة ان ننظر الى التكافؤ بين الناس كحق مكتسب. يولد كل الناس متساوين متكافئين ، فلا يحضى شخص بميزات او حقوق استثنائية او زائدة عن الغير ، لمجرد ولادته في عائلة معينة او انتمائه الى دين او قوم او ارض معينين. خلافا لما يتبناه دعاة التفوق العنصري وبعض القوميين والمتدينين ، الذين يخصون انفسهم بحقوق ثابتة ، مبررها الوحيد هو انتماؤهم الى ذلك العرق او القوم او الدين ، وينظرون الى انفسهم كجماعة متفوقة على سائر الناس ، ويدعون لانفسهم حقا في معاملة الاخرين معاملة ينقصها الانصاف ، وينكرون تكافؤ الغير معهم او حقه المساوي لحقهم في اختيار دينه او جنسيته او زوجه او نمط حياته.. الخ.

8- تدل التجربة التاريخية على ان الفكر الديني بشكل عام ، والواجبات الدينية بشكل خاص ، قد شهدت تغييرات وتحولات كثيرة ، على يد المفكرين الدينيين والقادة الروحانيين. في يوم من الايام قررت الكنيسة اعدام الملحدين ومنكري الدين حرقا بالنار. في يوم آخر رفض علماء المسلمين تولي النساء للمناصب السياسية او مشاركتهن في المجالس التشريعية ، وهذه الامثلة وامثالها كثير في كل الديانات. لكن هذه الافكار تغيرت اليوم في الجوهر والمبررات. وسوف تاتي الايام القادمة بتغييرات في غيرها من الافكار والاحكام. ولهذا السبب فانه لا يمكن اعتماد مثل هذه الاراء المتغيرة ، كارضية واساس لحقوق الله وحقوق الناس ، ولا يمكن لنا ان ندعو الناس او نلزمهم بمراعاتها او القبول بها كمبررات ثابتة او نهائية.

عالم الشك وعالم اليقين

تلك الادلة هي ادلة انسان اليوم الذي يفتقر الى اليقين. لكنه مع ذلك لا يستحق الملامة. التطورات التي جاء بها العصر الحديث تشبه طوفانا عصف بالثقافة والمعتقدات في الغرب. العلم والفلسفة والتكنولوجيا فجرت زلزالا في داخل عقل الانسان. ظهور النسبية التاريخية ولد امواجا هائلة في الفكر الانساني ، فتسارع ظهور النظريات العلمية والفلسفية وانطفاؤها حتى ضاق العالم بما يرد اليه من افكار جديدة ومتعارضة كل يوم ، ولم يبق متسع لثابت او يقين. نحن اليوم لا نشعر بالاسف لتلك الامواج الهائلة التي عصفت بالفكر الانساني ، وغيرته ولا زالت تغير فيه كل يوم ، لاننا نفهم ان ذلك التغيير المتواصل هو الذي سمح بتقدم البشرية وتطورها. ولو لم يتسامح الناس مع التغيير ويقبلوا به ، لكنا نعيش اليوم في نفس المستوى وعلى ذات المنوال الذي عاشه اسلافنا قبل قرنين او ثلاثة.

التحولات التي خضعت لها الاحكام الدينية والرؤى والافكار الجديدة التي ظهرت في هذا المجال هي مثال آخر على التحول في مجال العلوم والفكر الانساني بعامة. ولم تكن ممكنة لولا التسامح الذي اظهره المسلمون تجاه التغيير ، اي التخلي عن حكم قديم واتخاذ بديل له لانه اصح او اصلح "في هذا العصر" من نظيره الذي ينتمي الى "عصر سابق". التسامح في العقيدة هو الابن الشرعي لقبول احتمال الخطأ في المعرفة العلمية ، كما ان منهج التخطئة هذا هو الذي اطاح بالتوجهات الجزمية التي كانت رائجة فيما مضى.

تفاوت العالم الجديد مع العالم القديم اذن ، هو تفاوت بين اليقين واللايقين. هذا التفاوت هو نفسه الذي جعل "انسان العصر الجديد" في مجلس اعلى من العقيدة بعد ما كان مجلس "انسان العصر القديم" على الدوام ادنى منها. في الماضي كان الناس يقتلون من اجل عقيدتهم كما يقتلون الاخرين من اجلها ، اما انسان اليوم فهو يعتبر قتل الناس من اجل عقائدهم عملا بربريا يتنافى مع انسانية الانسان وحقوقه الطبيعية.

بطبيعة الحال فان المبررات السابقة ، لا تتنافى او تهون من حق اي فرد في الايمان ولا تعيب تبنيه لمعتقدات معينة باعتبارها يقينيات. فضلا عن ذلك فان التجاوز الذي تنطوي عليه ازاء المسألة الشديدة الاهمية ، المتعلقة بالله ورضاه وحقوقه ، هو امر غير مقبول من جانب المؤمنين. ومن هذه الزاوية فانها قد تفيد اولئك الذين ينظرون في الدين من خارجه ، او الذين لا يزالون في مرحلة البحث والتحقيق ولم يصلوا الى درجة الاعتقاد القلبي بدين معين ، او اولئك الذين يعيشون حياة غير دينية في مجتمع ملتزم كليا بالدين. اما بالنسبة للمؤمنين باحد الاديان ، او اعضاء مجتمع متدين ملتزم باحكام ومقولات دينه ، وغير مهتم بالنظر في مناقشات غير المؤمنين ، فان تلك المبررات والادلة لا فائدة من ورائها.

اتباع الديانات والمؤمنون من اصحاب اليقين يرون في حقوق الانسان نقطتين جديرتين بالتامل :

الاولى : ان حرية العقيدة (الايمان والدين) هي حق اولي وثابت للانسان. ونعرف ان العقيدة متلازمة على الدوام مع اليقين. واليقين النظري يتبعه دائما الحسم في العمل ، الذي يظهر احيانا في شكل الجهاد وامثاله. لكن مقتضيات اليقين العقيدي (اي ما يترتب عليه من حسم عملي) ليست مقبولة عند دعاة حقوق الانسان ، وهو امر يصعب على المؤمنين هضمه. يمكن بطبيعة الحال ايجاد تسوية من قبيل القول ان المباديء الواردة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان تحترم حرية العقيدة المرنة دون العقيدة اليقينية. وهذه توصية قد تستحق السماع لكن ليس مؤكدا انها ستقبل من جانب المؤمنين.

الثانية : تحويل الحكومة الدينية ، الى ديمقراطية - دينية ، قد تعني - عند بعض الناس - غسل اليد من اليقين الديني ، والتسليم بالادلة والمبررات القائمة على ارضية عدم الايمان. اذا كان هذا المفهوم صحيحا فان قبول المؤمنين بمثل هذه الحكومة امر مستحيل.

بعبارة اخرى فان عدم الاكتراث برضا الخالق ، وتكريس الاهتمام كله لرضا المخلوقين ، يساوي تماما غض الطرف عن الحكومة الدينية ، وتبديلها الى حكومة علمانية وغير دينية. بطبيعة الحال فهذا ليس بالامر الذي يسعد المؤمنين او يرضيهم. كيف نقول بحق الانسان في تبني ما يراه من يقين ، ثم نطلب منه ان لا يعمل بمقتضيات هذا اليقين وان لا يحترم مؤدياته ومتطلباته ؟.

هذه التعارض يكشف لنا ان قبول منظومة مباديء حقوق الانسان المعروفة في العالم ليس بالامر السهل في حكومة دينية. مشكلة اي حكومة دينية ، تكمن في ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان صيغ على ارضية مفهومية وضمن بيئة معرفية - اجتماعية لا تهتم بالدين ، او لعل واضعيه افترضوا ان المخاطبين بمضمون هذا الاعلان ، يعيشون جميعا في مجتمع غير ديني ، او لا يهتمون بحقوق الخالق.

من هنا فلن يكون من السهل على هذه الحكومة تكييف نفسها مع مباني وبنود ذلك الاعلان. التفاوت في لغة الحكام الدينيين من جهة ، ودعاة حقوق الانسان من جهة اخرى ، ناشيء من احساس اولئك بان الدعوة الى الديمقراطية الدينية ، ستقود في نهاية المطاف الى تخلي الحكومة الدينية عن الدين ، وتجريد المجتمع من الدين ، واعادة تاسيس مبانيه على قواعد اللاايمان ، ولهذا فهم يرجحون ان يبقوا غير ديمقراطيين اذا كان هذا ضروريا للاحتفاظ بدينهم.

لا ينبغي فهم ما قلناه كملازمة بين المحافظة على الدين وانكار حقوق الانسان. ما اردنا ايضاحه هو ان نمط التدين المتعارف لا يتوافق تماما مع المباديء المعروفة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان. لكن هذا التدين يمكن ان يتوافق تماما مع مفهوم آخر او منظومة مباديء اخرى لحقوق الانسان ، تقوم على ارضية دينية او على الاقل لا تتجاهل الدين. هذا التفارق بين التدين المتعارف وحقوق الانسان ، راجع الى تفاوت في تعريف الانسان. يوفر كل دين تعريفا محددا للانسان ، ويشتق منه تعريفا مماثلا لحقوق هذا الانسان.

استبدال مفهوم حقوق الانسان يستلزم اولا استبدال تعريف الانسان ، وهذا ليس بالامر اليسير. كمثال على ذلك فان التعريف الديني يعتبر الدين حاجة للانسان ، بينما يعتبر هذا الانسان في التعريفات الاخرى مستغنيا عن الدين. من هنا نستطيع تفهم دواعي قلق العلماء والحكام الدينيين من التعريفات الجديدة لحقوق الانسان واعراضهم عنها. اذ ليس من اليسير الجمع بين المنظومة المعاصرة لحقوق الانسان ، وبين التعريف التقليدي للانسان ، بل قد يؤدي هذا الجمع الى اضعاف او تفكيك الفهم الديني التقليدي.

لكن المسألة لا تنتهي عند هذه النقطة. اذا كان مقصود الكلام هو تقرير ان مجتمعا غير ديني ، لا يستطيع اقامة حكومة ديمقراطية دينية ، او ان الحكومة الدينية لا تستطيع ضمان رضا المخلوقين ، فالكلام قد يكون في محله. من البديهي ان حكومة ديمقراطية غير دينية هي الانسب لمجتمع غير متدين. اما اذا كان مقصود الكلام هو ان حكومة ديمقراطية دينية غير ممكنة في اي وقت وباي صورة ، حتى في مجتمع ديني ، فان هذا الكلام محل شك وارتياب.

نحن نزعم ان بالامكان اقامة حكومة ديمقراطية دينية في مجتمع ديني. بل انها الخيار المنطقي الوحيد. الحق ان الحكومة الدينية لا بد ان تكون مسبوقة بمجتمع ديني ، وان تقوم على اسس تناسبه وتتناغم مع قناعاته. في مثل هذا المجتمع فان اي حكومة غير دينية هي بالضرورة غير ديمقراطية ، لانها لا تعكس ثقافته وهويته ، ولا تمثل همومه وتطلعاته. الفرضية الاولى اذن هي ان الديمقراطية الدينية مشروطة اولا بكون المجتمع متدينا. اما كون الحكومة "الدينية" ديمقراطية او استبدادية ، فهذا يتوقف على عاملين اضافيين : اولهما مقدار اعتمادها على العقل الجمعي للشعب في صناعة سياساتها ، والثاني مقدار احترامها لحقوق الانسان الطبيعية والتعاقدية.

التوفيق بين العقل والشريعة

يمكن تصور الجمع بين الديمقراطية والدين ، كواحد من النماذج التاريخية للتوفيق بين العقل والشرع.  وكل نجاح يتحقق على المستوى النظري في هذا السبيل سوف يتجلى في ميدان العمل.

فهم الدين يحتاج ضرورة الى معارف من خارج دائرة الدين. هذا امر لا يمكن لعلماء الدين اغفاله ، كما لا يستطيعون اغفال ضرورة الموازنة بين داخل وخارج الدين (اي المكون الديني والمكون العرفي والعقلي للعالم). ويرجع هذا الى حقيقة ان شريحة من الاوصاف التي ننسبها الى الدين ، مثل كونه حقا وكونه عادلا وانسانيا الخ.. تستكشف وتشخص خارج الدين (ولو اعتمدنا حصرا على التعاريف والتشخيصات التي من داخل الدين فسيكون ذلك من نوع الدور او المصادرة على المطلوب)[1]. من ناحية اخرى فان الادلة التي تقدم لاثبات حقانية الدين وعدله ، هي جميعا ادلة عقلية بشرية ، لا منزلة او منصوصة ، ولو كانت كذلك للحقها الاشكال السابق. هذه الادلة "العقلية البشرية" مؤثرة جميعا في فهم الدين. ولهذا فانه من غير المناسب واللائق بالالتزام الديني اغفال الاحكام العقلية مطلقا ، او التهوين من خطر التنافر بين الفهم الديني واحكام العقل.

هذا العقل هو الذي يثبت حقانية الدين وعدالته وانسانيته (ولولا هذا الاثبات لما كان الدين مقبولا). هذا العقل نفسه ينهض بمهمة فهم تعاليم الدين. وهو اذ يقوم بهذه المهمة ، لا يتوقع منه ولا يصح له ان يمارس دور المتفرج او المصفق ، فيقدم اوصافا ويصطنع تبريرات لاحكام دينية منفصلة عن ، او متعارضة مع الاوصاف التي نسبها سلفا الى الدين ، مثل العدالة والحق والانسانية وغيرها. اذا قبل العقل بهذا التعارض وامضاه وبرره ، فهو يقوض البناء الذي يقف عليه. ولهذا يمكن القول بان تطوير الحكومة الدينية الى ديمقراطية دينية ، يتوقف على شرط اولي هو تسييل الفهم الديني عن طريق تعزيز وتعظيم دور العقل فيه. ولا نقصد هنا العقل الفردي ، بل العقل الجمعي الحاصل من المشاركة العامة لجميع المواطنين ، فضلا عن الاستفادة من تجارب البشرية. وهذا امر لا يتيسر الا من خلال الطرق الديمقراطية.

الحكومات الديمقراطية هي الحكومات التي تجعل العقل الجمعي حكما في النزاعات ووسيلة الى حل المشكلات. اما الحكومات الدينية فهي التي تجعل الدين هو الحكم. كما ان الحكومات الديكتاتورية هي التي تفوض الحكم وحل النزاعات الى شخص الحاكم من دون مشاركة الشعب او تحكيم الشرع. من المفهوم اضافة الى ما سبق ، ان الدين (اي النص المنزل من السماء) لا يقوم ابدا بدور الحكم ، بل الحكم على الدوام هو فهم للدين مستمد من جهد عقلي. حين يسعى العقل لفهم الدين فانه يقوم في حقيقة الامر بتنسيق وملاءمة فهمه الخاص للنص او الموضوع مع بقية الافهام ، اي مفهوم الاخرين لذلك النص او موضوعه.

وقصة العبودية هي الدليل الناطق على هذا المدعى. يسعى علماء المسلمين اليوم بشتى الطرق لنفي تهمة الاستعباد والرق عن الاسلام ، ويجادلون بان هذا الامر متعلق بمرحلة زمنية خاصة ، او ان الغاءه دفعة واحدة لم يكن ممكنا ، او انه كان رد فعل على استرقاق الاخرين وما اشبه ذلك من الاحتجاجات. كل هذه التوضيحات تحتمل معنى واحدا فقط وهو ان هؤلاء العلماء قد استوعبوا حقيقة ان العبودية لا تنسجم مع حقوق الانسان وكرامته ، ولهذا فهم يسعون الى نفي ما يعتبرونه "اليوم" تهمة للدين الحنيف. هذا الفهم "الجديد" للدين هو ثمرة التواصل مع العالم ، فهم الدين ليس انشغالا بالنص في عزلة عن العالم ، بل محاولة للتوفيق بين ما يفهمه منه وما هو مفهوم ومقبول عند العرف العام على المستوى المحلي او العالمي.

على نفس النسق يمكن القول ان مجتمع المتدينين قد توصل - نتيجة للمجادلات العقلية - الى فهم للخالق افضل واكمل واصح مما كان لديه قبل ذلك. مثل هذا الادراك والفهم لا بد ان يؤثر بصورة مباشرة على نمط الحياة والحكومة. الرب المستبد هو اقوى دليل ومبرر للحكومات المستبدة ، كما ان الرب العادل الرحيم هو اقوى دليل على الحكومة العادلة الرحيمة. نتيجة هذا الكلام تتلخص في انه لا ينبغي اتخاذ اليقين الديني مبررا لتعطيل او اغفال الحاجة الى تجديد فهم الدين او الاجتهاد فيه. ان تجديد الفهم هذا يتوقف على معارف خارج اطار الدين.

 على نفس المنوال فان تحويل الحكومة الدينية الى دينية - ديمقراطية ، لا يستدعي ابدا ان تنفض يدها من دينها ، ولا ان تدير ظهرها لرضا الخالق. كي تكون الحكومة دينية فهي بحاجة الى جعل الدين هاديا وحكما في المشكلات والمنازعات. وكي تكون ديمقراطية فهي تحتاج الى تسييل الفهم الاجتهادي للدين بالتلاؤم والتناغم مع احكام العقل الجمعي. كي تكسب رضا الخالق فهي بحاجة الى المحافظة على درجة عالية من الحساسية ازاء الدين ، والسعي لفهمه على نحو اصح واكثر انسانية والسعي لهداية الخلق وفقا له. هذا الطريق يستبعد الليبرالية اما الديمقراطية فسوف تندمج مع التدين العاقل ، وسوف يحتضنهما معا العقل الجمعي. التدين والعقل هما اذن الاساس الذي تقوم عليه الديمقراطية الدينية.

حقوق الانسان

يمكن لحكومة دينية – ديمقراطية ان تؤمن مستوى رفيعا من حقوق مواطنيها الانسانية. لكن لا بد من الالتفات الى النقاط الثلاث الآتية :

الاولى : ان البحث في حقوق الانسان ليس بحثا دينيا او فقهيا تماما ، بل هو بحث كلامي – فلسفي. والاهم من ذلك انه بحث سابق للدين ، اي انه مثل البحث في الحسن والقبح والجبر والاختيار والتوحيد والنبوة ، مقدم على البحث في الفهم الديني وقبول الدين. ومن هذه الزاوية فهو مؤثر في فهم وقبول الدين.

وبالنظر لكونه بحثا خارج اطار الدين ، فان القبول بمفهوم معين لحقوق الانسان يترتب عليه قبول بالدين الذي يقبل هذا المفهوم ، كما ان رفض ذلك المفهوم يقود طبعا الى رفض الصيغة الدينية التي ترتبط به. ان تقديم البحث في حقوق الانسان على البحث في الدين سيقود الى بحث فوق ديني يتحكم الى حد كبير في تحديد الصيغة المقبولة من الدين. لو اخذنا مثال المتكلمين فان كل راي يختارونه في باب الحسن والقبح والجبر والاختيار ، سوف يستعملونه ضرورة في فهم الدين ، حتى ان اراءهم في هذا الباب ، قد تقود احيانا الى معرفة كلامية (حول الله والعقيدة) غريبة عن المعارف والافهام السائدة والمألوفة.

كما اسلفنا فان عدالة الدين وانسانيته شرط للقبول به ، بمعنى ان الدين الذي لا يهتم بالحقوق الانسانية (ومن بينها الحاجة الانسانية للحرية والعدالة) ، لا يمكن قبوله. بعبارة اخرى فانه لا يكفي ان يكون الدين حقا من الزاوية المنطقية ، بل لا بد له ان يكون حقا من الناحية الاخلاقية ايضا. ولهذا فان البحث في حقوق الانسان ليس بحثا تجميليا او اضافيا كي نؤجله. وليس بحثا ملوثا بالكفر كي نستغني عن طرحه او نعرض عن بحثه وشرحه. ولا هو من الاحكام الفرعية كي نبحثه على ضوء القواعد الفقهية المتعارفة ، ثم نعرض الحكم الذي نرجحه له غير عابئين بالاحتجاجات العقلية والاخلاقية وفوق الدينية.

ينبغي ان لا ننزلق الى التوهم بان الفتاوى والاحكام الشرعية الفرعية في باب حقوق الانسان ، يمكن استنباطها من المتون واصول التشريع الاولية ، ذلك ان الفقه متاثر بالتاسيس العقلي "الكلام" الذي يقوم عليه. وينبغي ان تكون الاسس العقلية (المباديء التي تقع خارج الدين) التي تقوم عليها الاحكام منقحة ومصححة ، فمن دون ذلك سوف لن تكون الاحكام ثابتة راسخة او واضحة ومتناغمة. كما انه ليس من السهل كشف عيوب الاسس العقلية من داخل المباحث الفقهية ، بل لعل هذا التوجه يقود في نهاية المطاف الى حصر التركيز على الداخل ، والعمل بناء على مقدمات غير متينة ، فينشغل الباحث بالموضوع عن مجادلة المقدمات ، التي هي بمثابة مسلمات وفرضيات اولية سابقة عليه.

 الثانية : تنشغل الحكومة الدينية بهموم داخل الدين ، كما تنشغل الحكومة الديمقراطية بهموم خارج الدين. ولكي تكون الحكومة جامعة للجانبين ، اي ديمقراطية دينية ، فعليها ان تجمع بين هموم داخل الدين وهموم خارجه. وما لم تؤمن تعادلا وتفاعلا مقبولا عقلا بين هذين الطرفين ، فانها لن توفي باي من الركنين: الديمقراطية او الدين.

ان تكون مهموما ، هو امر مختلف عن التسليم المحض. كلامنا لا يعني ان كل ما قاله المعاصرون في باب حقوق الانسان هو عين الحق والعدل ، او انه منزه عن النفاق والتزوير. ما نقوله هو ان المجتمعات الدينية ، بحكم كونها دينية ، محتاجة الى مثل هذه الابحاث. واذا كان حديث السابقين قد دار حول الجبر والاختيار وتكليف ما لا يطاق ، ووجدت هذه النقاشات موافقين ومخالفين. وكانت هذه النقاشات ومقبولة ورائجة من قبل المجتمع المسلم بدافع من غيرته على الدين ، فاننا اليوم محتاجون ، وبنفس المقدار الى البحث فوق الديني حول حقوق الانسان في المجتمع المسلم. ويجب ان نعتبر هذا البحث مباركا ومحترما وذا قيمة ، وان ننظر الى المدافعين والمنادين والعاملين فيه – من اجل رضا الله - بعين التكريم وان تقبل اراؤهم من جانب الحكومة وان تاخذ طريقها الى ميدان العمل والتطبيق.

اذا كانت انسانية الدين شرط لحقانيته ، فانها ايضا شرط لمشروعية الحكومة الدينية ولهذا فان مراعاة حقوق الانسان (من قبيل الحرية والعدالة.. الخ) ليست فقط معيارا لديمقراطية الحكومة بل ايضا معيار لدينيتها.

 الثالثة: القول بان الاهتمام بحقوق الانسان هو مولود الليبرالية ينطوي على جهل بالليبرالية ، كما ينطوي على ظلم للدين. ذلك ان اللييرالية تتخذ مجلسا يتجاوز هذا المكان ، بينما يتخذ الدين مجلسا ادنى منه. لا الليبرالية تستوفي جميع حقوق الانسان ، ولا الدين غريب عن هذا المفهوم. صحيح ان البحث في حقوق الانسان بالمعنى الجديد الذي نتداوله اليوم ، ظهر ابتداء بين اولئك الذين لا يلتزمون بالدين ولا يهمهم ارضاء الخالق ، او لا ينظرون الى الدين كمصدر للقيم والمعايير. ولهذا السبب فقد اقتصروا على المصادر غير الدينية في بحثهم. لكن هذا شيء ، ودعوى ان حقوق الانسان مولود لليبرالية وغريبة عن الدين شيء آخر.

نحن نعلم ان بعض المتدينين قد عارض مباديء حقوق الانسان. لكن هذا الموقف قابل للتفهم والتبرير – رغم اننا لا نقبله تماما -. ولعله يرجع الى شعورهم بالاستغناء بالمنظومة الاخلاقية التي عندهم ، عن اي منظومة جديدة او فلسفة للاخلاق مستحدثة. ولعلهم ظنوا ان الالتزام بمنظومة الواجبات والحقوق الدينية ، كفيل بصيانة جميع الحقوق التي قال بها الاعلان العالمي لحقوق الانسان. مثل هذا الاحتمال كان كافيا ربما لغض النظر عن البحث في فلسفة حقوق الانسان الجديدة.

نضيف الى ذلك ان لغة الدين والفقه هي في الاساس لغة تكليف وليست لغة حق. الشخص المتدين يفكر في تكاليفه قبل ان يفكر في حقوقه. وهو منشغل بما يريده الله منه قبل ان يهتم بما يريده هو. بعبارة اخرى فانه يبدا بالتأمل في الواجبات والتكاليف الملقاة على عاتقه ، كي يتعرف من خلالها على حقوقه المفترضة ، بدل ان ينظر في حقوقه كي يفرز منها وفي مقابلها واجباته. الاعلان العالمي لحقوق الانسان يتحدث عن واجبات مسبوقة بحقوق ، بينما يتحدث الفقه عن تكاليف وواجبات تترتب عليها حقوق. هذا المفهوم قد يؤدي غالبا الى تبريد حساسية الانسان المتدين ازاء حقوقه ، مقارنة بالتكاليف والواجبات. لكن هذا الامر لا يتنافي باي صورة مع الربط بين التدين ومراعاة حقوق الانسان ، ولا يدل ابدا على ما يدعيه البعض من تماثل بين مراعاة حقوق الانسان والتسليم بالليبرالية.

تتلخص هذه المناقشة اذن في ان الحكومة الدينية ، المنبعثة من المجتمع الديني والمعتمدة عليه ، قادرة على التحول الى ديمقراطية – دينية. لكن هذا مشروط بتامينها لرضا المخلوقين مع رضا الخالق معا ، ووفائها لخارج الدين وداخله معا ، وعرفانها لحرمة العقل والاخلاق السابقة على الدين ، بقدر عرفانها لحرمة العقل والاخلاق المسبوقة بالدين. ومع حفظ التوازن والتعدل بين الاثنين ، سنحصل على تلك الكيمياء التي ظنها البشر – بسبب غفلتهم – مستحيلة او غير مرغوبة.

 

بقية فصول الكتاب

تقــــــــــــــــــــــــــــــــديم

محمد مجتهد شبستري الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية

محسن كديور:  الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية                                 

عبد الكريم سروشالديمقراطية الدينية: حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان

علي رضا علوي تبارمن المدينة الفاضلة الى مدينة الانسان:  الفرضيات الاولية لبحث الديمقراطية الدينية 

علي بايا : في معنى الوصف الديني للديمقراطية

توفيق السيفجدل فقهي حول الدولة الحديثة 

 

مقالات ذات صلة:

الايديولوجيا السياسية للتيار الاصلاحي في ايران

الايديولوجيا السياسية للتيار المحافظ في ايران

تطور فكرة الدولة في المجال الديني الشيعي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول اشكالية الثابت والمتغير

حول القراءة الايديولوجية للدين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

داخل الدين.. خارج الدين

 الـدين والمعـرفة الدينـية

المحافظون والاصلاحيون: المشهد الحزبي في ايران 2005

منطق الأمس ومنطق اليوم

نسبية المعرفة الدينية

 

 

 



[1] المصادرة على المطلوب اصطلاح منطقي معناه جعل المدعى عين الدليل ، اي تحويل المدعى الذي ‏يحتاج الى دليل غيره ، الى دليل نفسه.‏ وهو لا يستقيم.  

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...