01/08/2006

ضرورة التنمية السياسية


قطعت البحرين والكويت خطوات طيبة في طريق التنمية السياسية. وتحتاج دول الخليج الاخرى لتسريع الخطى في نفس السبيل. صحيح ان البلدين لم يصلا بعد الى مستوى الديمقراطية الكاملة ، لكن الامور نسبية. ما اريد الاشارة اليه هنا يتعلق تحديدا بتحديث النظام الاجتماعي ولا سيما الثقافة والقيم المؤسسة لمجتمع سياسي ديمقراطي. وهي غاية يمكن ان تمثل نقطة التقاء لقادة المجتمع والسياسة ، سواء اولئك الذين يرون في الديمقراطية نظاما امثل لادارة الحياة العامة ، او نظراؤهم الذين لا زالوا مؤمنين بالنظام الابوي ومحورية الدولة. 
ارتبطت فكرة التنمية منذ تبلورها بفكرة التحديث. فعلى الرغم من تمايز الفكرتين على المستوى المفهومي ، الا ان الميل الغالب بين منظري التنمية ينحو صوب الربط العضوي بينهما على المستوى الوظيفي ، بحيث يمكن القول ان معظم التعريفات المتداولة توحي بان التنمية في شتى صورها هي طريق للتحديث. لهذا السبب ايضا اصبح ممكنا تمييز مسارات فرعية عديدة ضمن اطار المفهوم العام للتنمية . جربت مجتمعات الخليج جميعا مسار التنمية الاقتصادية واكتشفت فوائده. واظن انها تتفق اليوم على ان نظام الاقتصاد الحديث – رغم نواقصه – اقرب الى روح الانسان وتطلعاته واقدر على ضمان مستوى العيش الذي يليق به. 

الذين جربوا التنمية السياسية اكتشفوا ايضا ، او سيكتشفون ، ان نظاما سياسيا حديثا سيكون اقدر على تحقيق انسانية الانسان وتمكينه من التعبير عن جوهر وجوده. لكن من الواضح ان التنمية السياسية لا تزال موضع ارتياب من جانب السياسيين لان تحقيقها يتطلب تخليهم عن مكاسب او امتيازات او طريقة في العمل اعتادوا عليها لزمن طويل.

اذا اخذنا بعين الاعتبار الكلفة التي يدفعها اصحاب القرار (ونعرف انهم مترددون في قبولها حتى الان) ، فان المسار الثالث للتنمية ، اي تحديث النظام الاجتماعي ، لا ينطوي على عبء كبير ، رغم ان ثمراته لا تقل عن ثمرات التحديث الاقتصادي. ولهذا السبب اشرت سلفا الى انه يمكن ان يشكل نقطة التقاء للمطالبين بالاصلاح في المجتمع واصحاب القرار المترددين ازاء التحديث السياسي ولا سيما الجزء الجوهري منه ، اي الديمقراطية.

مضمون التنمية الاجتماعية هو اعادة تنظيم شبكة العلاقات الداخلية للمجتمع وعلاقته مع الدولة وادائه الثقافي والاقتصادي وتطلعاته السياسية. اما غرضها فهو تمكين المجتمع من التفاعل مع مسارات التحديث الاخرى ، سواء في قطاع الاقتصاد ، او الادارة الرسمية او القانون او غيرهم ، وبطبيعة الحال الاستفادة من الفرص الجديدة التي توفرها هذه التغييرات. من الناحية الفعلية فقد ثبت ان التحديث الجزئي ، اي تحديث الاقتصاد بمفرده او تحديث القانون او الادارة الرسمية بمفردهما هي امور ممكنة ، خلافا للاعتقاد الذي ساد في بعض الاوقات بان اجتزاء التنمية سيؤدي الى فشلها. لكن من الانصاف ايضا القول بان التنمية الجزئية تخلف تشققات في النظام الاجتماعي غالبا ما ترتد على شكل تفكك وانهيار لمنظومات القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية ، وبالتالي تأزم النظام الاجتماعي وتدهور العلاقة بين المجتمع والدولة.

 ما نراه في الحياة السياسية الخليجية من ميل مفرط للمنظومات الاجتماعية القديمة مثل العشيرة والقبيلة والطائفة وما نراه احيانا من ظهور غير مبرر للثقافة الخرافية والانعزالية ، يرجع في ظني الى تلك التشققات التي تركت من دون علاج. قد نذهب الى مدى ابعد على المستوى النظري فنقول ان هذه المشكلات هي تعبير عما يسميه الباحثون بالاغتراب الاجتماعي ، اي انقطاع الصلة الروحية او الثقافية بين الافراد (او الكتل الاجتماعية) وبين منظومات العمل التي خلقتها الحداثة في مجال معين مثل الاقتصاد. لكن التنمية الاجتماعية تتطلب ما هو اكثر من علاج هذا الاغتراب. نحن بحاجة في حقيقة الامر الى صياغة اجماع جديد بين اعضاء المجتمع من جهة ، وبينهم وبين النخبة السياسية من جهة اخرى ، على نظام الحياة الذي يحقق آمالهم.

 في هذا السياق فان اعادة تشخيص مكانة الفرد كفاعل مستقل في النظام الاجتماعي تحتل في تقديري المرتبة الاولى من الاهمية. يقوم مفهوم الحداثة على الربط بين قيمة الفرد وكفاءته ، وبين مكانته والدور الذي يؤديه فعليا. خلافا للنظام القديم الذي يربط بين قيمة الفرد وانتمائه ، او بين مكانته وصفته. ويأتي بعد ذلك الفصل بين شريحتين من الحقوق الضرورية للفرد ، اي الحقوق الطبيعية التي يجب ان يتمتع بها باعتباره انسانا ، والحقوق المدنية التي يتمتع بها باعتباره مواطنا.

في مثل مجتمعاتنا التقليدية ، فان حقوق الافراد وحرياتهم تعتبر غالبا "منحة" يقدمها المجتمع او الدولة كمكافأة للفرد على ادائه للواجبات الاجتماعية. وهذا المفهوم قد يكون مقبولا – رغم انه غير مبرر تماما – حين يتعلق الامر بالحريات المدنية ، اي تلك التي يتمتع بها في ظل القانون . لكن من الخطأ الرجوع الى نفس المفهوم حين يتعلق الامر بالحقوق الطبيعية التي ينبغي ان تكون سابقة للقانون والمواطنة بل وحاكمة على اي قانون .

 اعتقد انه ينبغي على المجتمع والدولة التوافق على ان المساواة وحرية التفكير والتعبير والاعتقاد والتملك هي حقوق للفرد بما هو انسان وبغض النظر عن اي قانون او سياسة او علاقة . يمكن لتوافق من هذا القبيل ان يرسي اساسا متينا لاجماع وطني جديد . وثمة خطوات ضرورية لجعل الاجماع الجديد فعالا ومحسوسا ، ربما نعود اليها في مقالات قادمة . لكن خلاصة ما اردنا التاكيد عليه هنا هو ان التنمية الاجتماعية ، بمعنى اعادة تنظيم شبكة العلاقات الاجتماعية تمثل حاجة ماسة لتعزيز مسارات التحديث الاخرى ومعالجة المشكلات التي يمكن ان تنتج عنها ، وهي علاوة على فوائدها ، قليلة الكلفة ، كما ان انجازها ممكن حتى لو تاخرت التنمية السياسية .
مقالات ذات علاقة 

26/07/2006

حرب لبنان: حدود العقل وحدود المغامرة


حتى لو صدق المواطنون العرب ان قرار حزب الله بالحرب على اسرائيل كان «مغامرة»، فمن العسير عليهم تفهم الموقف السلبي من هذه المغامرة المفترضة. ليس فقط لأن كرامتهم مجروحة بسبب التخاذل امام الغطرسة الاسرائيلية، بل لأن الحلول الاخرى معدومة. البيانات الرسمية العربية انتقدت المغامر المفترض «اي حزب الله» لانه لم يستشر الحكومات العربية. وأظن ان المواطنين العرب قد ضحكوا في انفسهم قائلين: بماذا ستشير الحكومات غير اللجوء الى واشنطن والامم المتحدة؟. لكن ماذا جنينا من تجربة عشرين عاما في هذا الطريق؟. في بداية الامر طولب الفلسطينيون بالاعتراف بدولة اسرائيل ضمن حدود الاراضي المحتلة عام 1948 مقابل الاعتراف بحقهم في الاراضي المحتلة عام 1967، وقبلت منظمة التحرير بالجزء الاول من المعادلة لكنها لم تحصل على الجزء الثاني. في مفاوضات اوسلو، طولبت المنظمة بتنازلات اخرى مقابل سلطة مؤقتة تقود الى دولة ذات سيادة، فتنازلت ولم تحصل على شيء، وحدث الشيء نفسه في مفاوضات كمب دايفيد.
وتكرر الامر مع مشروع واشنطن المسمى خارطة طريق السلام، لكن اسرائيل قررت اخيرا ان هذا المشروع لا يعنيها، وشرعت في بناء جدار العزل الذي سيرسم حدودها النهائية منفردة ومن دون النظرالى مطالب الفلسلطينيين او المجتمع الدولي. في كل وقت كان لدى اسرائيل حجة جاهزة، من نزع سلاح المقاومة الى التخلي عن القدس، الى توطين اللاجئين الفلسطينيين في الخارج، الى محاربة الارهاب.. الخ.
لا يحتاج الامر الى اثبات ان اسرائيل والولايات المتحدة تفتقران الى حسن النية، فليس لفرضية حسن النية مكان في الصراعات الدولية. تعلمنا من تجربة البشرية طوال القرون الماضية انه لا يمكن لدولة ان تحصل على تنازل من دولة اخرى ما لم تكن قادرة على انتزاعه. المصريون استعادوا سيناء لانهم استطاعوا انتزاعها واللبنانيون استعادوا جنوبهم لانهم اجبروا اسرائيل على الانسحاب منه. في المقابل فقد خفض الفلسطينيون سقف مطالبهم الى ادنى حد وهم الان يريدون فقط دولة ذات سيادة كاملة على 30 بالمائة من ارضهم التاريخية، لكنهم مع ذلك غير قادرين على الحصول على هذا المطلب لان اسرائيل لا زالت قادرة على فرض مطالب جديدة.
حجة الحكومات العربية انها عاجزة عن دحر اسرائيل القوية بجيشها و دعم العالم لها، وهي حجة قابلة للتفهم. لكن هذا يضعنا امام ما يسميه الفلاسفة دايلما السجين: العرب يريدون السلام لانهم عاجزون عن الحرب واسرائيل لا تريد السلام لانها قادرة على الحرب، وما يمنع الطرفين من كسر حالة الجمود هو خشيتهما من الخسائر الاضافية. فما هو الحل في مثل هذه الحالة؟. امامنا اربعة حلول منطقية: أ» ان يسلم احد الطرفين للاخر بكل ما يريد. ب» ان يحافظ الطرفان على موقف الجمود لاطول مدة ممكنة املا في تغير قناعة احدهما. ج» ان يكسر احد الطرفين حالة الجمود بادخال عنصر جديد في المعادلة مثل ان يشن حربا على الاخر. د» ان يثير احد الطرفين ازمة في مكان آخر لتغيير موازين القوى ضمن المعادلة.
هذه الحلول الاربعة يمكن ان توصف جميعا بانها عقلانية ومغامرة في الوقت نفسه. هي عقلانية لان كلا منها يمثل طريقا وحيدا للخروج من مازق غير قابل للحل بالطرق العقلانية الاخرى، وهي مغامرة لانها ستؤدي بالضرورة الى خسائر اضافية. يبدو ان معظم الحكومات العربية يميل الى الحل الثاني مع حصر الخسائر الاضافية في الطرف الفلسطيني دون بقية العرب، وهو حل يبدو عقلانيا بالنسبة لهم. لكن المشكلة ان هذا سيقود بالضرورة الى الحل الاول اي تسليم الطرف الفلسطيني بكل ما تريده اسرائيل، والفلسطينيون لا يستطيعون تحمل هذه الخسارة الاضافية. ولا يريد العرب الحل الرابع لانه يؤدي الى ازمات داخلية عندهم، اقتصادية او امنية، «مثل تصاعد الارهاب». الحل الثالث، اي ادخال طرف جديد في المعادلة «مثل حزب الله في هذه الحالة»، يبدو امكانية وحيدة لكنه لا يقلل من احتمالات الخسارة.
هذه الحلول جميعها تنطوي على خسائر سياسية واقتصادية وامنية، ولايمكن التوصل الى حل من دون خسائر كبيرة. عندئذ فان اعتبارها مغامرة او عقلائية لا يعود ذا موضوع. وعليه يجب ان يتحول السؤال الى صيغة اخرى: ماهو حجم الخسارة المحتملة التي سيؤدي اليها اي حل مقابل المكاسب المحتملة؟. وما هو الموقف الاكثر عقلانية اذا ظهر ان الحل الثالث هو الوحيد؟.
اظن ان الاجابة على السؤال الاول مستحيلة، لكن يمكن تقديم حل براغماتي على السؤال الثاني فحواه ان تقدم الحكومات العربية الدعم السياسي للمغامر المفترض، والعون الانساني والاقتصادي للمتضررين في الجانب العربي، من دون ان تدخل بشكل رسمي ومادي في الصراع المباشر. هذا الحل ليس طيبا او مثاليا لكنه اكثر اخلاقية من اتخاذ موقف يبدو – ظاهريا على الاقل – تبريرا للعدو او تخاذلا مكشوفا.
   26 / 7 / 2006م 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...