17/01/2001

من ديمقراطية المجلس إلى حاكمية القانون


يفخر السياسيون في الخليج بان الوصول إلى اصحاب القرار ، لا يكلف المواطن غير الوقت الذي يصرفه في الطريق من داره إلى مكتب المسؤول ، بينما - في دول عربية أخرى - تعتبر مقابلة الوزير أو وكيل الوزارة حلما لأصحاب النفوذ فضلا عن عامة الناس .
وفي الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية على سبيل المثال ، ينجز الكثير من الناس حاجاتهم بهذه الوسيلة ، حيث يخصص معظم الوزراء أو وكلاؤهم ساعات محددة من دوامهم اليومي ، لتلقي الشكاوى أو المطالبات من كل شخص ، بغض النظر عن صفته الاجتماعية أو طبيعة مشكلته ، وقد شهدت شخصيا عددا من المجالس تقدم خلالها موظفون اجانب ينبيء مظهرهم عن فقر مسكنة ، جاؤوا لمقابلة امير أو وزير لتقديم شكوى ضد ارباب عملهم ، أما  في الكويت فان قيام عضو مجلس الامة بهذا الدور لصالح ناخبيه وسكان دائرته الانتخابية ، هو بمثابة وعد الشرف الذي يتوقع الناخبون من ممثلهم الوفاء به طوال سنوات نيابته ، وهذا هو الامر الذي مكن من تصنيف اعضاء المجلس إلى ما يطلق عليه محليا نواب الخدمات ونواب الرأي .
ينتمي هذا الاسلوب من العلاقة بين الدولة والمواطن إلى التقاليد القديمة ، حينما كان شيخ القرية أو القبيلة أو وجيه الجماعة يقوم بمهمات الدولة ، أو كان وسيطا وحيدا بين جماعته وبين الدولة ، وفي ذلك الوقت كانت الدولة بسيطة ومحدودة ، وكانت تخاطب شعبها كمجموعات .
لكن التطور المعاصر في طبيعة الدولة ودورها ، غير القاعدة ، فدولة هذا العصر تخاطب شعبها كافراد ، وهؤلاء بدورهم ينظرون إلى الدولة كجهاز خدمة ، يجب عليه ان يعطي بقدر ما يأخذ ، لكن على الرغم من هذا التطور في الرؤية ، فان دولة العالم الثالث  لم تطور جهاز عملها كي يستوعب المتغيرات التي طرأت على طبيعة عملها ، ونشير خصوصا إلى الانتقال من حالة الحكومة الشخصية إلى حكومة القانون ، الذي اوجب انشاء جهاز اداري يقوم بمهمات الدولة وفق قواعد قانونية ونظم عمل عامة ومعيارية .
ويعتبر كثير من علماء السياسة قيام البيروقراطية علامة مهمة على عقلنة الدولة ، اي تحولها من إطار العلاقة الشخصية بين الحاكم والمحكوم ، إلى العلاقة الوظيفية ، حيث يحصل الجميع على حقوق متساوية ويؤدون واجبات متماثلة ، ويتحدد على اساسها وبناء عليها ، ارتباط كل منهم بالدولة ، فاذا تحقق هذا التطور المهم ، انتفت الحاجة إلى العلاقة الشخصية أو الواسطة أو نائب الخدمات ، ولم يعد الوزير أو المسؤول الكبير مضطرا إلى صرف ساعات طويلة من يومه لاستقبال مراجعين ، يمكن لموظف صغير في دائرة من الدوائر ان  ينجز حاجاتهم .
واذكر الان زيارة قمت بها لاحد الوزراء ، فوجدته يمضي وقتا طويلا ، امتد إلى ساعتين ، في الاطلاع على طلبات فردية وكتابة مذكرات تحويل إلى دوائر حكومية مختلفة ، ادهشني ان تحتاج معالجتها إلى مسؤول في مستواه ، وكان بينها طلب اعفاء من غرامة صغيرة ، وبينها استرجاع رخصة قيادة سحبها ضابط مرور ، وبينها الحصول على سرير في مستشفى رفيع المستوى ، وبينها تخفيض رسوم على بضاعة مستوردة ، وبينها الموافقة على تبادل قسيمة سكنية مع مواطن آخر ، وامثال هذه المعاملات .
كبار المسؤولين يصرفون وقتا ثمينا في مثل هذه الاعمال ، والاكبر منهم يشددون على ضرورة فتح الابواب امام المواطنين وحل مشاكلهم ، وما ذكرته من المشكلات لم تكن استثناءات من القاعدة ، فالاعم الاغلب مما يحصل في هذا النوع من المجالس ، لا يتجاوز ذلك المستوى ، وبالتالي فان التشديد على سياسة المجالس المفتوحة ينصرف - من الناحية الواقعية - إلى تكليف الوزير أو الوكيل باعمال صغار الموظفين ، في الوقت الذي يتوقع الناس ان يصرف الوزير أو الوكيل جل وقته في اداء الاعمال الكبيرة ، والتخطيط لمستقبل البلاد ، وحل المشكلات التي تحتاج إلى كفاءة استثنائية أو رجلا ذا صلاحيات تمكنه من التدخل حيث يعجز الآخرون.
السبب في هذا يعود إلى ضيق إطار القانون ، الذي يفترض ان يتضمن حلولا لمثل تلك المشكلات الصغيرة ، أو ضيق افق الموظفين الاداريين الذين لا يبدون تفهما لهذا النوع من المشكلات ، أو الطريقة الخاطئة في توزيع الصلاحيات ، حيث جرت العادة على سلب الاداريين صلاحية البت في الامور ، واعادة الصغير والكبير منها إلى السلطة المركزية التي يمثلها الوزير أو الوكيل . وهناك بالاضافة إلى هذا ، رغبة كبار المسؤولين في ممارسة هذا النوع من الاعمال الذي يتيح لهم تعزيز مكانتهم الاجتماعية والتاكيد على حضورهم الفعال في الميدان الاجتماعي .
اسلوب المجالس المفتوحة يتمتع بايجابيات لا تخفى ، لكنه - من الناحية الثانية - يولد مشكلات كبرى ذات اثر يتجاوز سعة وعمقا اي فائدة من فوائده المنظورة ، واول تلك المشكلات واهمها هو شخصنة السلطة ، حيث تتلخص الدولة في المسؤول ، ويترتب على هذا تفاقم العجز في الجهاز الاداري الادنى مرتبة ، وتحوله من نظام للحكم والادارة ، إلى جهاز من الكتبة مفرغ من الصلاحيات والمسؤولية ، كما يترتب عليه ضياع هيبة القانون ، فما دام يمكن للمسؤول الكبير تجاوز القانون - ايا كان سبب التجاوز - فسوف تكون الواسطة والعلاقة الشخصية - على الدوام - فوق القانون ، وهذا يفتح الباب لنشوء طبقة من المستفيدين ، عملها ومصدر عيشها الوحيد هو الواسطة ، ووسيلتها التزلف والمجاملة واحتقار القانون العام ، وسوف يكون التقرب إلى رجال الدولة مطلبا ، يسعى اليه الشطار وطلاب الصعود ، بغض النظر عن كفاءاتهم الشخصية ، ولاحقا سوف يشكل هؤلاء حجابا بين المسؤول والشعب .

ومن المشكلات التي تترتب على شخصنة السلطة ، انصراف كبار المسؤولين عن المهمات الكبرى التي تتطلبها ادارة الدولة ، ولا سيما تلك التي تقتضي جهدا فكريا أو عصبيا ، أو احتمالا لمعرة الناس وخاصة المتزلفين والاصدقاء .
ومن المشكلات ايضا ، انكماش اهمية التخطيط العملي والموضوعي ، وتفاقم تاثير الارادات الشخصية في السياسات ، وهذا قد يصل إلى حد وضع السياسات على مقاس الاشخاص ، بدلا من دعوة الاشخاص إلى التكيف وفقا لمتطلبات العمل .
واخيرا فان من اعظم المشكلات المترتبة عليه ، احتكار النخبة العليا للعمل السياسي ، فالحاجات الصغيرة التي يعالجها المسؤول سوف تكون بديلا - عند المواطن - عن الحاجات الكبرى التي طبيعتها عامة ، وذلك لان الحاجات الصغرى تاخذ مكان الكبرى في العلاقة بين المواطن والدولة ، وقضاء تلك يدفع بالمواطن إلى السكوت عن هذه ، وهذا ثمن يدفعه المواطن وهو يعرف ، كما ان المسؤول يقدم الخدمة وهو يعرف ما سوف يحصل عليه ازاءها ، وينتج عن هذا انعدام المساواة امام القانون وانعدام التكافؤ في الفرص ، فالذي يحصل على الخدمة ويسكت يعتبر مواليا ، والذي لا يحتاج إلى خدمة أو لا يطلبها ثم يعترض على سياسات الدولة يعتبر معارضا اي مستبعدا .

اننا بحاجة إلى تحكيم القانون ، وبحاجة قبل ذلك إلى توسيع هذا القانون كي لا يضيق عن حاجات الناس ، ونحن بحاجة إلى قدر كبير من الشفافية والعلنية كي لا يضطر الناس إلى الواسطة والشخصنة حين تعييهم الحيلة ، وفي اعتقادي ان الكف عن شخصنة السلطة ليس امرا عسيرا ، ولا هو مكلف ، لكني لا اقترح المبادرة قبل علاج الاسباب التي ادت اليه ، إذا ارادت الدولة فرض هيبتها واحترامها ، فالخطوة الاولى تبدأ من هنا ، هيبة القانون وهيبة الدولة هما اولى ضحايا شخصنة السلطة .

التجديد السياسي في الخليج : الفرص والصعوبات




يمكن لاقطار الخليج العربي ان تكون رائدة للتجديد السياسي على المستوى العربي إذا توافرت الشروط اللازمة لتجديد مجتمعاتها ، وهذا قول ينطوي على كثير من المفارقات ، ومن اهمها ان مجتمعات الخليج ، تعتبر واحدة من اكثر المجتمعات العربية انشدادا إلى التقاليد ، التي تعبر بصورة من الصور عن النظام السياسي القديم  .

لكن على الجانب الآخر فان مجتمعات الخليج تتميز بصفات لا تتوفر في غيرها ، ومن بينها على سبيل المثال الاستقرار الاقتصادي النسبي ، الذي يعتبر حافزا مهما للتجديد السياسي ، بالنظر لما ينتج عن عامل الوفرة الاقتصادية من تبريد لبؤر التوتر وتحفيز لاخلاقيات المساومة والشراكة .
ومن بينها ايضا الارتخاء السياسي العام في المنطقة ، فالخليج لم يشهد توترات شديدة داخلية المصدر خلال العقود الثلاثة الاخيرة ، وما حصل من مشكلات امنية في اكثر من دولة ، لم يكن من النوع المستعصي على السيطرة أو الطويل الامد ، لقد تركت حرب الخليج الاولى والغزو العراقي للكويت جروحا بليغة ، ومثلتا تهديدا حقيقيا للسلام الاجتماعي والاستقرار ، لكن من الواضح الان ان مجتمعات المنطقة تتعافى من اثارهما ، كما ان الحكومات لم تحول ما جرى إلى فزاعة سياسية ، كما هو معتاد في أقطار عربية أخرى .

وثمة دواع أخرى تؤكد الحاجة إلى التجديد السياسي ، منها مثلا الترابط الوثيق بين اقتصاديات الخليج والسوق الدولية ، ومع الاخذ بعين الاعتبار التغيرات العميقة التي طرأت على طبيعة واساليب التجارة الدولية خلال العقدين الاخيرين ، ولا سيما تفاقم دور قطاع الاعمال الدولي في صناعة السياسة الخارجية ، وانكماش الهوة الفاصلة بين الداخلي والخارجي ، بسبب الاتجاه المتصاعد إلى عولمة الاقتصاد ، فان الانعكاس الطبيعي لهذه التطورات سيكون انكماش دور الدولة كصانع وحيد للسياسة وموجه للاقتصاد المحلي ، ولهذا العامل اهمية خاصة في الخليج ، من زاوية ان حركة راس المال تعتبر إلى حد ما بوصلة الحياة - وتاليا السياسة - في المنطقة .

لكن المشهد ليس بالجمال الذي ربما توحي به السطور السابقة ، فعدا عن الكويت التي قطعت شوطا بعيدا في اتجاه التجديد السياسي ، فان بقية الاقطار الخمس الاعضاء في مجلس التعاون ، لا تزال بحاجة إلى الكثير من الوقت والكثير من الجهد ، وهي بحاجة - خصوصا - إلى قرارات كبرى ، للاقلاع من حالة الجمود السياسي وقطع الخطوات الاولى في الطريق إلى التجديد .

ثمة رأي يتبناه كثير من الناس فحواه ان حكومات المنطقة ، مثل جمهورها - ولا سيما القوى ذات التاثير اليومي - لا تشعر بحاجة شديدة إلى التجديد ، أو انها لا ترى في ما يدعى من جمود سياسي ، مصدرا لخطر داهم ، بل ربما وجد الطرفان في تفصيلات التجديد السياسي ، ومنها اقرار الحريات العامة مثلا ، ربما وجدا فيه حافزا لانواع من السلوكيات غير المتوافقة مع التقاليد الدارجة والمتسالم عليها ، وربما تتحول إلى سبب جديد للمماحكة السياسية ، التي لا تجد النخبة الحاكمة في نفسها قدرة أو رغبة على مواجهتها أو المشاركة فيها ، ومع الاخذ بعين الاعتبار ان التجديد لا ياتي إلا إذا اصبح حاجة ماسة للاكثرية ، فان علينا الانتظار طويلا قبل ان نرى ما ندعو اليه حيا يمشي على قدمين .

وثمة رأي يتبناه بعض السياسيين - وان كانوا قد توقـفوا عن التعبـير العلني عنه منذ بعض الوقت - خلاصته ان مجتمعات الخليج ليست جاهزة للتجديد الذي يعني حاكمية القانون ، اقرار الحريات العامة ، والمشاركة السياسية ، بالنظر لما يدعى من الافتقار إلى الانسجام الاجتماعي ، الناتج عن التجنيس أو الاصول القبلية لبعض السكان ، أو لان الثقافة العامة لا تزال قاصرة عن توليد روحية المداهنة والمساومة ، التي تؤسس للشراكة في المصالح والاتفاق على قواسم الالتقاء ، بدل الانشغال بالتمايز وعناصر الافتراق .

وثمة رأي سمعته شخصيا من عدد من السياسيين البارزين ، خلاصته ان الفائدة الكبرى للديمقراطية هي تقاسم المصالح العامة بالعدل والانصاف ، وهذه مشكلة غير قائمة في الخليج الذي توفرت فيه امكانات للعيش الرفيع ، انتفت معها الحاجة إلى البحث عن آلية للتقاسم المنصف للمصالح ، فالكل يحصل على ما يكفيه .

ولا اجدني بحاجة إلى مناقشة الآراء السابقة ، فهي ليست مطلقة ، وبالتالي فانها قد تكون الاستثناء على القاعدة ، وان تراءى لمن يتبناها انها هي الاصل وغيرها الاستثناء ، كما ان الديمقراطية - التي نراها الوليد الاهم للتجديد - ليست حاجة اقتصادية ، وليست اداة لمعالجة مشكلة الندرة ، ولا منبرا للتعبير عن الذات ، فهذه كلها من ثمراتها الطيبة .

 التجديد والديمقراطية ليسا حلقة من حلقات التقدم ، بل هي الشرط اللازم للتقدم ، وبدونها فان المدنية المنشودة ، لا تكون غير قشرتها الخارجية ، المتمثلة في البنايات والشوارع والسيارات والملابس النظيفة ، والديمقراطية شرط للاستقرار الاجتماعي ، وبدونها فان الدولة مضطرة لانفاق جانب كبير من مواردها في تعزيز اجهزة السيطرة المادية وما يسمى - تجاوزا - الامن ، ومع ذلك فان مسببات الاضطراب الاجتماعي والتمرد تبقى قائمة ومتفاقمة ، وان لم يلحظها الناظر للامور من الخارج ، والديمقراطية اخيرا هي الاداة الوحيدة المتوفرة في عالم اليوم ، لضمان كرامة الانسان وتحقيق انسانيته ، وتحريره من العبودية للاشخاص والاجهزة والمؤسسات السرية والعلنية .

اظهرت التجربة الفعلية في عدد من اقطار العالم ، ان التجديد وفتح المجتمع المغلق ، كان عسيرا ومكلفا ، رغم انه حدث في نهاية المطاف ، باختيار النخبة أو غصبا عنها ، وما نخشاه جميعا ان تتكرر هذه التجارب في الخليج ، ولهذا فانه من الضروري استعراض الفرص المتاحة لانتقال تدريجي وهاديء ، انتقال من حالة الانغلاق الاجتماعي والجمود السياسي ، إلى الانفتاح والحركة وتجديد الذات ، باستعمال آليات النظام الاجتماعي نفسها ، وبمرافقة ادوات النظام السياسي نفسه ، تغيير من داخل النظام لا بالالزام الخارجي ، كي نتدرج في سيرورة لينة تحقق الغرض ، دون الاضطرار إلى دفع الثمن المؤلم الذي اضطرت اليه اقطار أخرى .

ترى هل هناك فرص جدية لانتقال من هذا النوع في الخليج ؟
وهل يمكن للخليج ان يقدم مثالا على امكانية التقدم دون اللجوء إلى حلول موجعة ؟ .

ازعم ان هذا ممكن ، لكننا بحاجة اولا إلى وضع اليـد على مكامن الداء السياسي وتشخيص العلل .

يناير 2001

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...