21/10/2020

حديث الى اصدقائي المعلمين

 

سوف اكرس هذه المساحة للحديث عن الدكتورة ماريلين وايمر  ومنهجها في التعليم ، الذي اسمته "استراتيجية التدريس المتمركز حول المتعلم". هذا بالطبع نص ثقيل ، لانه ترجمة حرفية ، وقد آثرت ابقاءه كما هو ، لانه أوضح دلالة على المقصود ، ولأنه عنوان الترجمة العربية لأبرز كتب الدكتورة وايمر.


اما سبب اختياري لها فيكمن في الاساس التجريبي الذي انطلقت منه. وهي تشرح هذا في مقدمة كتابها المذكور  ، فتقول ان اكتشافها لأهمية التركيز  على التلميذ بدأ  صدفة ، ثم تطور الى تجربة ، ثم الى تكنيك يرتبط بجملة من النظريات المعروفة في مجال التعليم: كنت أرى ما نفعله في الفصول المدرسية غير مؤثر. فاخترت الأفكار التي ظننت أني قادرة على تطبيقها. واستغرقت بعض الوقت قبل أن ألاحظ أن الأساليب التي استخدمتها تحمل خصائص مشتركة ، ثم اكتشفت انها كانت تتصل بقواعد نظرية متينة.

لا انسى الاشارة هنا الى ان المادة التي كانت تدرسها د. وايمر للطلاب ، تحمل عنوان "التواصل اللفظي" وغرضها ببساطة ، هو تمكين التلاميذ من اجادة الحديث امام الناس ، وخوض مناقشة مثمرة واكتساب مهارات الاقناع. وقد آثرت ذكر هذه التفاصيل لأنني لا أرى هذه المادة محل اهتمام في مدارسنا ، على رغم اعتقادي العميق بضرورتها ، لتمكين الطالب من التفكير النقدي وتعزيز ميوله للارتقاء الاجتماعي ، وكلاهما من العوامل الحيوية في عملية التعليم.

تقول د. ماريلين انها شعرت بان افتقاد طلبتها المستجدين للثقة في أنفسهم ، قد منعهم من التقدم بقوة في مقررات مادة التواصل اللفظي. وكان عليها ان تعينهم على التحرر من هذا الشعور القاتل ، ومن الارتباك والخوف من الفشل ، حتى يصلوا إلى مرحلة طرح الأسئلة في الصف ، والمشاركة في مجموعات النقاش ، والتحدث بشكل بليغ ومؤثر امام الزملاء.  

وقد خطر في بالها ان تلك المشكلة قد تعالج بمنح الطلاب إحساسًا أكبر بالسيطرة والتحكم. السبيل الى ذلك في اعتقادها ، كان تمكينهم من اختيار الطريقة التي يريدون اتباعها في التعلم. سيرون خيارات عديدة ، سيتخذون القرار ويتحملون مسؤوليته: "خلال أول يومين ، كان الطلاب مرتبكين". قال لي احدهم "يجب أن تكون الاختبارات إلزامية. إذا كانت اختيارية ، فلن يخضع لها أحد" فأجبت: بالتأكيد سيفعلون ، فهم بحاجة إلى درجات لاجتياز المادة". فرد قائلًا: ماذا لو لم أخضع للاختبار؟. قلت "حسنا ، عليك بحل الواجبات الدراسية الأخرى ، كي تحصل على درجاتك". فسأل: وماذا سأفعل في أيام الاختبارات؟ ، فاجبته بوسعك ان تبقى نائما.

طلاب آخرون قالوا انهم "لا يستطيعون اختيار الواجبات الدراسية التي يجب عليهم اداءها ، وطلبوا مني أن أتخذ القرار نيابة عنهم ، البعض الاخر أرادوا مني الموافقة على خياراتهم قبل المضي فيها ، لكني لم افعل وتركت الامر لهم".

الامر بدأ فوضويا ، لكن بعد ايام من الارتباك والفوضى ، تحول صفي الى صف مثالي: اقل عدد من الغياب رغم اني لا اسجل الغياب والحضور ، وكان الطلاب يشاركون بحماسة في الاسئلة والمناقشات.

هكذا بدأت المسالة. لكن دعني اكرر جوهر هذه الفكرة ، وهي نقل مركز الاهتمام من الكتاب والمعلم الى التلميذ ، والتحول من فكرة "تعليم التلاميذ ما يجب ان يتعلموه" الى "تعليمهم كيف يعلمون انفسهم او يتعلموا بانفسهم".  لقد تركت هذه النقطة الى السطر الاخير ، كي اذكر القاريء العزيز بانها جوهر عملية التعليم الحديث. وسنعود اليها لاحقا.

الشرق الاوسط الأربعاء - 4 شهر ربيع الأول 1442 هـ - 21 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15303]

https://aawsat.com/node/2576281/

مقالات ذات صلة

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج
 اول العلم قصة خرافية
تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع
التعليم كما لم نعرفه في الماضي
التمكين من خلال التعليم
حول البيئة المحفزة للابتكار
سلطة المدير
فتاة فضولية
المدرسة وصناعة العقل
معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

التخلي عن التلقين ليس سهلا

هوية سائلة؟

 

14/10/2020

هوية سائلة؟

 واجهت هذا التعبير خلال قراءة سابقة حول التحولات الاجتماعية ، وما يرافقها من تهميش للمفاهيم والقيم المؤثرة في حياة الجماعة. نعلم ان التغير في نفوس الناس يجري بسرعات متفاوتة: فالشباب اسرع تغيرا ، وأبناء الطبقة الوسطى  المدينية أكثر عرضة للتغيير ، كما ان ثبات الهويات الموروثة او انحسارها ، رهن بسعة العوالم التي يطرقها الشباب ، حين يبحرون في فضاء الانترنت.

سالت نفسي عن معنى ان تكون الهوية سائلة؟ فتخيلت هاتفا يقول لي: كيف تصورت عالما كاملا ليس له اي واقع مادي ، اسميته "الواقع الافتراضي" ، ثم تستغرب سيولة الهوية؟. سمها ان شئت بالهوية الافتراضية ، اي ذلك الوجود الذي لا يمكن تحديده في هيئة خاصة ، مع ان آثاره وتمثلاته تؤكد اهميته وامتلاكه لكل ما تتصف به الحقائق المادية.

- ما الذي أثار هذا السؤال؟

- لقد كنت أتأمل في مايقوله الطلبة وآباؤهم عن تجربة التعليم عن بعد ، وكيف أصبح العمل على الانترنت روتينا يوميا لمئات الآلاف من الشبان والشابات. هذه التجربة فرصة نادرة للتامل في تحول ثقافي واجتماعي ، يجري امام اعيننا ، وربما تترتب عليه آثار مدهشة.

المدرسة هي محور التجربة ، لأنها الرمز الابرز للنظام الاجتماعي السائد ، بما فيه من ضوابط وتراتب وتصور عن الذات والحياة. كان يفترض ان تلعب المدرسة دور عامل التغيير للاجيال الجديدة ، لكن لاسباب مختلفة ، تحولت على يد آبائنا الى قناة لتثبيت التقاليد والقيم الموروثة ، أي نقل الثقافة السائدة في الفضاء الاجتماعي الى الاجيال الجديدة ، كي يواصلوا المسار الذي ورثه الآباء عن الاجداد.

نحن نحاول جعل ابنائنا صورا مكررة عنا. ولهذا نشعر بالسخط اذا وجدنا سلوكهم مفارقا لما الفناه. ولعل بعض القراء يتذكر غضب المعلمين من الملابس غير المألوفة وقصات الشعر الغريبة عند الطلبة ، في السنين الماضية. نعلم ان هذه قد انتهت تقريبا ، لكنها لاتزال جديرة بالتحليل.

** لماذا كان بامكان المعلم ان يصرخ في وجه التلميذ اذا رأى شعره طويلا ، ولماذا يشعر الطلبة بالرهبة من المعلم والمدير والنظام المدرسي؟.

** الجواب ان ذلك النظام وما يحيط به من معان وتقديرات ، مصمم لتعزيز مفهوم مركزي واحد ، هو تفاوت القوة بين التلميذ والمعلم. يمكن للمعلم ان يصرخ في وجه الطالب ، لأنه يملك نوعا من السلطة ، ويصمت الطالب مخزيا لان موقعه في هذا الترتيب يحدد له هذا السلوك وليس غيره. ان حضور المعلم وهيئته ، وجدران المدرسة وابوابها المغلقة ، كلها مصممة كي تخدم فكرة "تفاوت القوة" بين التلميذ والمعلم.

اما الغرض من هذا الترتيب ، فهو جعل التلميذ مفتوحا ومهيئا كي تمارس المدرسة دورها في نقل الثقافة السائدة للجيل الجديد.

نحن الآن في واقع مختلف. ابرز ملامحه غياب فارق القوة الصريح  بين المعلم والتلميذ ، وغياب ما يحيط بالعلاقة بين الاثنين من ترتيبات ورموز السلطة. جدران المدرسة تركت مكانها لعالم لامتناه ، يجيد التلميذ الابحار فيه ، ويملك الادوات اللازمة للرحلة ، كل يوم ، بل كل ساعة لو شاء.

لهذا السبب فان المدرسة لم تعد قناة وحيدة لنقل الثقافة ، بل مجرد قناة بين عشرات ، بل مئات من القنوات الاخرى ، الاكثر لينا وربما الاكثر امتاعا وترحيبا. بعبارة اخرى ، فلن تقدر المدرسة على توليف هوية ابنائنا بعد اليوم ، وبالتالي فلن يكونوا على الصورة التي الفناها. ولا اعلم – وهم بالتاكيد لا يعلمون ايضا – ماهي الهوية او الهويات البديلة التي نتوقع ان يحملوها. ربما تكون هوية متحولة ، او حتى سائلة ، تتبدل بين حين وآخر ولا تستقر على حال.

الشرق الاوسط الأربعاء - 27 صفر 1442 هـ - 14 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15296]

https://aawsat.com/node/2563231/

مقالات ذات صلة

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج
 اول العلم قصة خرافية
تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع
التعليم كما لم نعرفه في الماضي
التمكين من خلال التعليم
حول البيئة المحفزة للابتكار
سلطة المدير
فتاة فضولية
المدرسة وصناعة العقل
معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

التخلي عن التلقين ليس سهلا

هوية سائلة؟

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...