02/10/2019

قصة المساواة... أولاد يشاهدون مباراة

تخيل أنك تتحدث عن المساواة، فيبادر أحد السامعين بالقول مثلاً: «أنا لا أقبل المساواة، بل أطالب بالعدالة». وإذا كان الجدل على «تويتر» مثلاً ، فربما يدعم رأيه برسم يظهر ثلاثة أولاد: قصير القامة وطويل ومتوسط الطول، يشاهدون مباراة لكرة القدم من وراء حاجز، وقد اعتلوا جميعاً كراسي متساوية الارتفاع، فلم يستطع القصير والمتوسط مشاهدة الملعب، بسبب ارتفاع الحاجز.

ولتوضيح الفكرة، وضع رسماً آخر يظهر الولدين القصير والمتوسط وقد اعتليا صندوقاً خشبياً أكثر ارتفاعاً، فتمكنا من مشاهدة المباراة. ووضع تحت الصورة الأولى اسم «المساواة» وتحت الثانية اسم «العدالة».

بعض الذين جادلوا، ظنوا أن الصورتين تقدمان مقارنة بين المساواة والعدالة. وهذا لم يكن صحيحاً. الصحيح أن غرضهما إيضاح «مبدأ الفرق» الذي طوره الفيلسوف المعاصر جون رولز. ورولز هو زعيم التيار المعروف بـ "المساواتي Egalitarian"، الذي يدعو، كما هو واضح من اسمه، إلى مساواة تامة بين الناس. لكنه يضع هذه الدعوة في سياق التطور نحو نظام اجتماعي عادل.

وفحوى «مبدأ الفرق» أنه حيثما تسببت المساواة في الإضرار بأحد الناس، بسبب عجز فيه أو قصور في النظام، فعلى المجتمع / الدولة تمييز المتضرر بدعم استثنائي، حتى يتمكن من المنافسة المتكافئة مع الجميع. طبق «مبدأ الفرق» في الولايات المتحدة وبريطانيا، ضمن معالجة موسعة للتمييز المؤسسي ضد الملونين والنساء في الأكاديميا والإدارة الحكومية والشركات الكبرى.

قبل ذلك، كانت تلك المؤسسات ترفض السود والصقليين واللاتينيين وبعض الآسيويين، رجوعاً إلى تقاليد انتشرت أوائل القرن العشرين، تدعو إلى «تصفية العرق الوطني». لكنها منذ ستينات القرن، باتت مضطرة قانونياً إلى قبول نسبة محددة من الشرائح المذكورة، حتى لو كانوا أقل كفاءة من منافسيهم. وأثمرت هذه القوانين عن تصفية «تقاليد التمييز» خلال فترة قصيرة نسبياً، وتحقيق قدر مؤثر من المساواة المؤسسية.

المساواة ليست موازية للعدالة بل جوهرها. يقول أمارتيا سن، وهو اقتصادي وفيلسوف هندي، فاز بـ«جائزة نوبل» (1998)، إن «المساواة فرضية أولية في كل نظرية حول العدالة في الأزمنة الأخيرة. تتباين هذه النظريات في المقاربة والأولويات والنتائج. لكنها تشترك في خاصية أساسية هي المطالبة بالمساواة في شيء ما».

إن الداعي للتشديد على مبدأ المساواة مرة بعد أخرى، هو الخلط الحاصل بين معان متباعدة، بعضها لا يمت للآخر بصلة. فنحن لا ندعو مثلاً للمساواة بين الناس في الأعمال والرواتب، وطرق العيش والملبس والمسكن إلخ. إنما نؤكد التكافؤ المطلق بين الناس جميعاً، في القيمة والكرامة والحقوق. يولد الناس جميعاً سواء، بلا فرق بين عربي وأعجمي، بين أبيض وأسود، ولا بين مسلم وغيره. إنما يتفاضل الناس بحسب كدهم وكسبهم وحظهم في الحياة، ومع ذلك يبقون متساوين في الحقوق والواجبات وأمام القانون.

لقد عشنا ردحاً من الزمن، نرى قضاةً يهدمون عائلات، لعدم تكافؤ النسب بين الزوجين، ورأينا علماء دين ينادون صراحة بمنع التزاوج بين العرب وغيرهم، صوناً لعرق العرب من الاختلاط بأعراق أدنى، وقرأنا لمن يصف النساء بالحيوانات.

هذه الآراء وأمثالها راجعة للاعتقاد بأن الناس لا يولدون على درجة واحدة، بل يتفاوتون في القيمة لحظة ولادتهم، ولذا يتفاوتون في الاعتبار والحقوق لاحقاً. هذا هو الأصل الذي ينقض المساواة، وهو من أعظم الفتن التي ابتلي بها تراث العرب والمسلمين. وقد حان الوقت كي نبرئ أنفسنا منه ونتحرر من تأثيراته.

الشرق الأوسط الأربعاء - 3 صفر 1441 هـ - 02 أكتوبر 2019 مـ رقم العدد [14918]

https://aawsat.com/node/1927881/ 

مقالات ذات علاقة


برنارد وليامز:  فكرة المساواة

ديفيد ميلر: المساواة والعدالة

محسن كديور: من العدالة النسبية الى المساواة

ايزايا برلين: المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته

مقالات منوعة حول المساواة 

"شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

العدالة كوصف للنظام السياسي

مفهوم العدالة الاجتماعية

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

المساواة اولا .. المساواة دائما

18/09/2019

في معنى التعامل مع تحديات العصر

||للعقوبات بل لكل قانون أغراض ومصالح يستهدف التوصل اليها. فلو تبين انها ماعادت تؤدي تلك الاغراض فما هي الحكمة في الابقاء عليها؟.||
بعض الناس غير واثق من قدرة الاسلام على التعامل مع تحديات العصر الجديد. لهذا يتساءل بصيغة: "هل يستطيع الاسلام؟". آخرون يعتقدون ان الاسلام قادر (او ينبغي ان يكون قادرا) ولهذا فان سؤالهم يأتي في صيغة: "كيف يستطيع الاسلام؟".
Related imageوالذي يتراءى لي ان كلا السؤالين معقول ، بل قد يكون ضروريا. كل فكرة تدعو الناس الى اتباعها ، فان  للناس حق مشروع في ان يتساءلوا عنها  ، وان يشككوا فيها ، وان يطلبوا البرهان على سلامتها ، قبل وبعد ان يتبعوها. من ناحية أخرى فان اي نظام فكري او قانوني ، يحتاج الى مراجعة بين زمن وآخر ، للتحقق من قدرة عناصره على تحقيق الغايات التي يفترض ان تنتج عن تطبيقها او الالتزام بمقتضياتها. 
نعرف ان لكل جزء من أجزاء الدين وظيفة او غاية يبتغي بلوغها. قد نتحدث عن الايمان والعبادة فنقول ان غرضهما تعميق صلة الانسان بربه. ونتحدث عن الشريعة (القانون) فنقول ان غرضها تحسين مستوى معيشة البشر ، او نتحدث عن القرآن فنقول ان غرضه اثارة العقول ودفعها للتفكر في الخلائق ، ما هو مشهود وما هو غيب ، معانيها وسبل كشفها والسنن الناظمة لها ، والصلات القائمة بين اجزائها وعناصرها. 
قد يحصل أحيان أن تتلاشى فاعلية أحد الاجزاء المذكورة ، فتنقطع صلته بموضوعه. فنقول ان هذا الجزء قد تخلف عن زمنه. دعنا نأخذ على سبيل المثال عقوبة القتل ، التي تطبق باعتبارها حدا او قصاصا أو تعزيرا بحسب الموجبات المختلفة.  فقد ورد ان غرضها صون الحياة. وقال بعض المفسرين والفقهاء ان غرضها ردع الجناة عن تكرار جريمة القتل. والمفهوم ان الردع هو الغرض الأول لمعظم العقوبات.

حسنا... ماذا لو لم تعد هذه العقوبة رادعة؟. او.. ماذا لو توصلنا الى ان عقوبات اخرى غير القتل ، تحقق الردع المقصود.  فهل نقول حينها ان الاحكام تابعة لمقاصدها وعللها ، وبناء عليه نوقف تطبيق عقوبة القتل؟
 لقد ضربت هذا المثل بالخصوص ، لأن ابحاثا في دول اوربا الغربية قدمت استنتاجات مثيرة للاهتمام ، خلاصتها ان هذه الدول التي مضى على الغائها لعقوبة الاعدام ، ما بين 20-40 عاما ، لم تشهد زيادة ملحوظة في جرائم القتل. هذا يعني ان تلك العقوبة بذاتها لم تكن رادعة كما نتصور.
ثمة دول اخرى تقول ان عقوبة الاعدام ساعدت في تخفيض الجرائم. هذا يعني ان عوامل اخرى تتدخل ، فتجعل العقوبة مجدية في مكان وغير مجدية في مكان آخر.
ولدينا امثلة اخرى من المعاملات المالية ، بما فيها الزكاة ، ولدينا الاحكام التي لها علاقة بالمفهوم الحديث لحقوق الانسان ، ولا سيما المساواة وحرية الاعتقاد والتعبير . كثير من الاحكام المتعلقة بهذه السياقات مدعومة بآيات وروايات. لكن مفهومها او موضوعها تغير ، نتيجة لتغير الاطار العام الذي يحوي هذا الموضوع الى جانب غيره. الاطار العام المقصود هو البنية الاجتماعية ، بما تحويه من ثقافة واقتصاد ونظام قيم وانماط معيشة ووسائل اتصال.
ان العبرة التي نستفيدها من تجاربنا وتجارب الاخرين ، هي اننا كبشر عقلاء مطالبون بالاحسان في حياتنا ،  ومن الاحسان ان يكون الحكم او القانون الذي نطبقه على حياتنا ، وسيلة الى جعلها احسن واكمل. فاذا تبين انه لا يؤدي هذه الوظيفة ، فهل ينفعنا قول: انا وجدنا هذا في النصوص التي ورثناها ، فطبقناه بغض النظر عن مقصده او جدواه الفعلية؟.
الشرق الاوسط الأربعاء - 19 محرم 1441 هـ - 18 سبتمبر 2019 مـ رقم العدد [14904]

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...