24/11/2015

سؤال التسامح الساذج: ماذا يعني ان تكون متسامحا؟

||التسامح ببساطة هو ايمانك الداخلي بأن كل انسان له حق مطلق في اختيار طريق سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة. انت اخترت ما يناسبك من عقائد وغيرك اختار ما يناسبه. وعند الله تجتمع الخصوم||
ماذا يعني ان تكون متسامحا؟. سؤال كهذا قد يبدو مغاليا في السذاجة. لكني أجد احيانا أن مانراه بديهيا هو بالتحديد ما يحتاج الى توقف وتأمل. الحقيقة اني جربت توجيه هذا السؤال في وقت سابق الى عدد من الشبان ، فوجدتهم جميعا يشرحونه في معنى اللين والتلطف في معاملة الآخرين. وهو ذات المعنى الذي شرحه ثلاثة خطباء استمعت اليهم في أوقات مختلفة. وكانت أحاديثهم في سياق نقض الاتهام الموجه للدين الاسلامي بأنه يشجع العنف والشدة.
واقع الأمر ان التسامح في معناه العميق ، سيما المعنى الذي نتداوله في الجدالات السياسية ، شيء مختلف تماما. فهو المعيار الناظم للمواقف العامة والعلاقة مع المخالفين لك والمختلفين معك. التسامح يعني ببساطة ايمانك الداخلي بأن كل انسان ، انت وغيرك ، له حق مطلق في اختيار الطريق الذي يراه كفيلا بتحقيق سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة. انت اخترت ما رايته مناسبا لشخصك من أفكار او عقائد او نمط عيش او دائرة مصالح او موقف سياسي او رؤية للمستقبل. اختارها عقلك ، أو ارتاحت لها نفسك حين وجدتها شائعة في محيطك ، أو ورثتها عن أبويك.
غيرك أيضا مثلك. يختارون طريقة حياتهم ، ديانتهم ، مواقفهم السياسية والاجتماعية ، بحسب ما تمليه عليهم عقولهم ، أو بحسب ما تطمئن اليه نفوسهم ، وهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن خياراتهم. ليس لك حق في منعهم من الاختيار ، كما لم يكن لهم حق في منعك. ولن تحمل أوزارهم ، كما لم يحملوا وزرك.
مبدا الاختيار الفردي الحر يرتبط بجذر عميق في حياة البشر هو الايمان بعقلانية الانسان وحريته ، وكونه – لهذا السبب - قادرا على التقدير المسبق لعواقب قراراته وافعاله. لأن الانسان عاقل وحر ، فهو مسؤول عن أفعاله. ولو كان مجبرا على أي شيء ، فليس من العدل ان يتحمل مسؤوليته او يثاب او يعاقب عليه.
كل انسان يرى نفسه محقا في اختيار مبادئه ومعتقداته ومواقفه. ولولا هذه القناعة لما تبنى ايا منها. هذا هو الأمر الطبيعي. لكن الناس يختلفون في الموقف من خيارات الآخرين. فبعضهم يراها باطلة تماما وربما مثيرة للسخرية. وبعضهم يراها مبررا لقمع حاملها وحرمانه من بعض حقوقه ، بل ربما قتله. آخر النماذج التي رأيناها من مثل هذا النوع هو تنظيم داعش الارهابي الذي سبى النساء في سنجار لأنهن كافرات ، وجلد المسلمات في الرقة لأن حجابهن غير مطابق لما يراه سنة صحيحة ، وقتل المصلين في الكويت لانهم مبتدعة ، وقتل ابناء عشيرة البونمر في الانبار لانهم خونة ، وقتل عشرات المدنيين في بيروت وباريس لأن حكومتهم معادية. بعبارة أخرى ، فهو نموذج عن شريحة من المجتمع تريدك نسخة طبق الأصل عن النموذج الذي يرضاه التنظيم ، والا فأنت عدو أو ربما قتيل.
كي نتخلص من هذه المسارات الحرجة فعلينا ان نؤمن بأن ما توصلت اليه عقولنا هو احد احتمالات الحق ، وان ما توصلت اليه عقول الاخرين هو احتمال آخر للحق. أن نؤمن بأن الطريق الى الله ليس زقاقا ضيقا مثل ازقة قرانا القديمة ، بل هو شارع عريض يتسع لكل خلق الله.
مما تعلمناه في "أصول الفقه" ان الفقه هوالظن الغالب. فما يتوصل اليه الفقيه باجتهاده ، رأي علمي وليس بالضرورة مراد الخالق. ولذا فقد يتراجع الفقيه عن هذا الرأي ويستبدله بغيره في وقت لاحق ، او قد يخالفه غيره من الفقهاء وأهل النظر. في مناسبة سأل احدهم العلامة محمد حسين النائيني عن معنى هذا التغيير: هل هو انتقال من الحق الى الباطل او من الباطل الى الحق؟. فأجابه العلامة ببساطة: انه انتقال من أحد معاني الحق الى معنى آخر. بعبارة أخرى فان الحق ليس له صورة واحدة هي الصورة التي في ذهنك او في ذهني.
اذا آمنا بهذه الحقيقة ، فعلينا ان نراجع ما في انفسنا من استعلاء على الغير ، قائم على قناعة بأن غيرنا على باطل. ذلك ان ما عندنا قد يكون صورة من صور الحق ، وما عند غيرنا صورة أخرى ، قد تبدو لنا مناقضة او غريبة أو بعيدة الاحتمال. لكن هذه هي طبيعة العقل الذي يريك ما لا يري غيرك ، ويري غيرك ما لا يريك. واقع الأمر ان كل ما نعرفه وما نؤمن به من اعتقادات واراء ومواقف ، هي اجتهادات لبشر أمثالنا ، تقبلناها لاننا الفناها او تعلمناها ، فاستقرت في عقولنا او اطمأنت اليها نفوسنا. وهي قد تكون حقا كاملا او ناقصا.
جوهر التسامح ان تؤمن بحق الآخرين في مخالفتك ، مثلما أعطيت لنفسك الحق في مخالفتهم.
"النهار" الكويتية 24 نوفمبر 2015

18/11/2015

حديث الغرائز



بعض ردود الفعل في العالم العربي على هجوم باريس الارهابي تظهر اننا نعيش أزمة حقيقية. أثار انتباهي ان شريحة كبيرة من المثقفين والحركيين ، وخاصة بين الاسلاميين ومن يسايرهم ، اتخذوا موقفا شامتا ، وبعضهم استعمل لغة تبدو وكأنها تفسر ما حدث ، لكن عباراته عجزت عن إخفاء ان رغبته الخفية هي التبرير. بعضهم عبر عن الشماتة او التبرير بعبارات مثل انه لن يبكي او لن يتعاطف. مبررهم الوحيد هو ان العالم لم يتألم لقتلى العرب والمسلمين ، أو ان فرنسا – والغرب عموما – سبق الى ارتكاب الفضائع ضد العرب.
هذه الأصوات ليست بذات أهمية او تأثير في الغرب نفسه. انها قبضة زبد في محيط هائل الحجم هو حركة العالم وحراكه وصراعاته. لكن تأثيرها يقع علينا وفي محيطنا. فهي من نوع حديث الانسان الى نفسه. ليس حديث المحاسبة والنقد ومساءلة الذات ، بل حديث توكيد الذات ، من خلال الجهر بالغرائز والانفعالات ، التي أراد العقل ضبطها في ظروف السلم ، فاذا تفجرت الأزمات ارتخى عقال  العقل وهاجت أحصنة الغرائز.
مثل تلك الأقوال التي تعبر عن رغبة عارمة في التشفي والانتقام من الآخر ، تمثل – لو أردنا كسر حجاب التحفظ – حقيقة النفس المحطمة والمهزومة في عالمنا الاسلامي. النفس التي فشلت في فهم الآخر الغالب ، ثم فشلت في تقليده ، ثم فشلت في الاستغناء عنه ، ثم فشلت في العلاقة معه ، فارتدت على نفسها آسية لحالها ، حزينة على ماضيها ، ناقمة على عالمها ، فلم تجد تفريغا لهذا الاسى سوى صب الكراهية على أي مختلف ، قريبا أو بعيدا.
النفس المهزومة لاترى بسطاء الناس يعيشون حياتهم ويستمتعون بساعات فراغهم في ملعب لكرة القدم او حضور مسرحية او قتل الوقت في مقهى او التمشي في حديقة ، لا ترى الأطفال حاملين حقائبهم المدرسة الصغيرة بجانب أمهاتهم ، لا تسمع ضحكهم وأغانيهم. فهي لا ترى أشياء الحياة العادية البسيطة ، لا ترى غير صورة العدو المدجج بالسلاح يقتل المسلم هنا وهناك ، اليوم او قبل قرن من الزمان. لا ترى في الطفل سوى جنديا ربما يقتلنا بعد عشرين سنة او ثلاثين ، لاترى في الأم سوى الرحم الذي ربما يحمل الطفل القاتل.
لم ير أولئك الشامتون ان ضحايا باريس – وقبلهم ضحايا بيروت وعشرات المدن في الشرق والغرب - لم يكونوا جنودا ولا اعوانا للجنود. لم تكن باريس ساحة حرب ولا كانت بيروت.
إني أوجه اللوم الى الاسلاميين أكثر من غيرهم ، إلى الذين يدعون التدين أو الحرص على الدين أكثر من غيرهم. لقد كنت ساذجا حين ظننت ان الأكثر تدينا سيكون أكثر رحمة بالناس ، وعطفا عليهم ، وتعاطفا مع الضعيف والجريح والمتألم. ظننت ان الايمان عقال القسوة ، فاذا بي اجد هؤلاء الذين يدعون التدين اكثر قسوة وأقل عطفا. لم يعد الضعيف في عيونهم سوى نقطة في خريطة العدو ، مجرد اضرار جانبية في حرب تاريخية مجنونة لا تنتهي.
هذه النفس المأزومة هي سر هزيمتنا وتخلفنا عن حركة العالم. استسلامنا لخطابها الغرائزي هو الذي سمح بكل اشكال الانقسام في داخل أوطاننا. ان سعينا لاستعادة حياتنا واستنقاذ مستقبلنا لن تنجح أبدا اذا هيمنت هذه الثقافة الغرائزية على محيطنا. لن ننجح أبدا في استرجاع ذاتنا التائهة ما لم ننظفها من وسخ الكراهية والتشفي والرغبة في اذلال الآخرين وإيلامهم.
الشرق الاوسط 18 نوفمبر 2015
http://aawsat.com/node/499641

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...