||هل نستطيع الاقرار بان ثقافتنا وتاريخنا ، حلقة في التاريخ العام للبشرية. ام نواصل الاصرار على ان تجربتنا التاريخية هي نهاية التاريخ؟||
لو خير
الانسان بين التقدم والتخلف ، فهو سيختار
الاول دون شك ، مهما كانت ثقافته او انتماؤه الاجتماعي. هذا ليس موضوعا للمناقشة
فيما اظن. فكل عاقل يعرف الفرق بين الاثنين ويعرف ايضا ان التقدم قيمة وضرورة.
موضوع
النقاش هو كلفة الانتقال من الاختيار الاولي الى الانحياز الحياتي. اي تحويل
التقدم من فكرة الى منهج في حياة الانسان. هذا يشبه تماما المقارنة بين الغنى
والفقر ، او بين العلم والجهل. فمن سيختار الفقر اذا حصل على فرصة الغنى. ومن
سيختار الجهل اذا حصل على فرصة العلم.
لكننا
- مع ذلك – نجد اشخاصا كثيرين ، بل لعلهم الغالبية ، يقفون امام الفرصة فلا يرونها
، او يرونها فيخشون من دفع الكلفة الذهنية او البدنية الضرورية لتحويلها الى منهج
حياتي. اظن ان القراء جميعا قد اختبروا خيارا كهذا في انفسهم ، او في الناس الذين
من حولهم. كم من الناس ترك الدراسة في منتصف الطريق ، بعدما سأم منها او تعب من حمل
اثقالها. وكم من المستثمرين الصغار تخلوا عن استثمارهم في بداياته ، بعدما اكتشفوا
ان الطريق الى الثروة ليس سهلا مثل الكلام عنها.
اختيار
التقدم لا يختلف في حقيقته عن هذين المثلين. بل استطيع القول ان التقدم ينصرف في
بعض معانيه ، الى التقدم العلمي الذي يقود الى الارتقاء الحياتي ، كما ينصرف الى
الغنى المادي الذي يعزز حرية الفرد ومكانته. ان تراجع الناس عن ركوب هذا الطريق
ليس سوى مثال ، يجسد محصلة الجدل الداخلي بين ارادة التقدم في جهة ، والخوف من
مواجهة التحدي ، في جهة اخرى. هذا الجدل يدور معظمه في داخل ذهن الانسان.
دعنا
ننتقل من مثال الفرد الى مثال الجماعة. تبعا لرأي المؤرخ ارنولد توينبي – وفق نقل
المرحوم مالك بن نبي - فان رد الفعل المتوقع من المجتمعات التي تتعرض لتحد خارجي ،
يتبلور غالبا في واحد من ثلاثة مواقف: الاستسلام او المقاومة الايجابية او الرفض
المطلق. يعبر الموقف الاول عن مجتمع فارغ ثقافيا ومهزوم نفسيا. لا يتحرج من امتصاص
ثقافة الغالب ، ولو أدى لتفكيك ثقافته الخاصة. ويعبر الثالث عن ميل شديد للعزلة والانكماش
على الذات. بينما يعبر الثاني عن ميل للتفاعل مع التحدي ، والرغبة في اكتشاف عناصر
قوته ، ثم استثمارها في اطلاق او تعزيز عناصر القوة المقابلة ، في النظام
الاجتماعي او في الثقافة او في اعضاء الجماعة او مواردها المادية.
جدالات
التقدم والتخلف في العالم الاسلامي ، تدور مجملا حول "الثمن" المطلوب
لركوب القطار وتحريكه. والثمن الذي يدور حوله النقاش ، ليس كلفة مادية او بدنية.
بل هو ثمن ثقافي/معنوي ، يمكن تلخيصه في السؤال التالي: هل نحن كمسلمين مستعدون
للاقرار بان ثقافتنا وتاريخنا ، حلقة في التاريخ العام للبشرية ، ام نواصل الاصرار
على ان ثقافتنا هي الخاتمة وان تجربتنا التاريخية كتبت نهاية التاريخ؟.
الخيار
الاول يعني القبول بالتعامل مع تجربة البشر في نسختها الراهنة ، اي النسخة الغربية
، باعتبارها امتدادا ممكنا لتجربتنا التاريخية ، وأن لها من القيمة مثل ما
لتاريخنا. اما الثاني فيعني مواصلة التاكيد على امكانية ان نعيش في عالم منقسم ،
على امل ان تأتينا فرصة الاستعلاء يوما ما.
اظن
ان غالبية الشريحة النشطة في مجتمعاتنا تجادل نفسها في اختيار واحد من هذين
الطريقين ، وبالطبع الثمن المعنوي المترتب عليه.
الشرق الاوسط الأربعاء - 25 ذو الحجة 1439
هـ - 05 سبتمبر 2018 مـ رقم العدد [14526]