05/09/2018

التقدم اختيار.. ولكن

||هل نستطيع الاقرار بان ثقافتنا وتاريخنا ، حلقة في التاريخ العام للبشرية. ام نواصل الاصرار على ان تجربتنا التاريخية هي نهاية التاريخ؟||

لو خير الانسان بين التقدم والتخلف ، فهو سيختار الاول دون شك ، مهما كانت ثقافته او انتماؤه الاجتماعي. هذا ليس موضوعا للمناقشة فيما اظن. فكل عاقل يعرف الفرق بين الاثنين ويعرف ايضا ان  التقدم قيمة وضرورة.
ارنولد توينبي
موضوع النقاش هو كلفة الانتقال من الاختيار الاولي الى الانحياز الحياتي. اي تحويل التقدم من فكرة الى منهج في حياة الانسان. هذا يشبه تماما المقارنة بين الغنى والفقر ، او بين العلم والجهل. فمن سيختار الفقر اذا حصل على فرصة الغنى. ومن سيختار الجهل اذا حصل على فرصة العلم.
لكننا - مع ذلك – نجد اشخاصا كثيرين ، بل لعلهم الغالبية ، يقفون امام الفرصة فلا يرونها ، او يرونها فيخشون من دفع الكلفة الذهنية او البدنية الضرورية لتحويلها الى منهج حياتي. اظن ان القراء جميعا قد اختبروا خيارا كهذا في انفسهم ، او في الناس الذين من حولهم. كم من الناس ترك الدراسة في منتصف الطريق ، بعدما سأم منها او تعب من حمل اثقالها. وكم من المستثمرين الصغار تخلوا عن استثمارهم في بداياته ، بعدما اكتشفوا ان الطريق الى الثروة ليس سهلا مثل الكلام عنها.
اختيار التقدم لا يختلف في حقيقته عن هذين المثلين. بل استطيع القول ان التقدم ينصرف في بعض معانيه ، الى التقدم العلمي الذي يقود الى الارتقاء الحياتي ، كما ينصرف الى الغنى المادي الذي يعزز حرية الفرد ومكانته. ان تراجع الناس عن ركوب هذا الطريق ليس سوى مثال ، يجسد محصلة الجدل الداخلي بين ارادة التقدم في جهة ، والخوف من مواجهة التحدي ، في جهة اخرى. هذا الجدل يدور معظمه في داخل ذهن الانسان.
دعنا ننتقل من مثال الفرد الى مثال الجماعة. تبعا لرأي المؤرخ ارنولد توينبي – وفق نقل المرحوم مالك بن نبي - فان رد الفعل المتوقع من المجتمعات التي تتعرض لتحد خارجي ، يتبلور غالبا في واحد من ثلاثة مواقف: الاستسلام او المقاومة الايجابية او الرفض المطلق. يعبر الموقف الاول عن مجتمع فارغ ثقافيا ومهزوم نفسيا. لا يتحرج من امتصاص ثقافة الغالب ، ولو أدى لتفكيك ثقافته الخاصة. ويعبر الثالث عن ميل شديد للعزلة والانكماش على الذات. بينما يعبر الثاني عن ميل للتفاعل مع التحدي ، والرغبة في اكتشاف عناصر قوته ، ثم استثمارها في اطلاق او تعزيز عناصر القوة المقابلة ، في النظام الاجتماعي او في الثقافة او في اعضاء الجماعة او مواردها المادية.
جدالات التقدم والتخلف في العالم الاسلامي ، تدور مجملا حول "الثمن" المطلوب لركوب القطار وتحريكه. والثمن الذي يدور حوله النقاش ، ليس كلفة مادية او بدنية. بل هو ثمن ثقافي/معنوي ، يمكن تلخيصه في السؤال التالي: هل نحن كمسلمين مستعدون للاقرار بان ثقافتنا وتاريخنا ، حلقة في التاريخ العام للبشرية ، ام نواصل الاصرار على ان ثقافتنا هي الخاتمة وان تجربتنا التاريخية كتبت نهاية التاريخ؟.
الخيار الاول يعني القبول بالتعامل مع تجربة البشر في نسختها الراهنة ، اي النسخة الغربية ، باعتبارها امتدادا ممكنا لتجربتنا التاريخية ، وأن لها من القيمة مثل ما لتاريخنا. اما الثاني فيعني مواصلة التاكيد على امكانية ان نعيش في عالم منقسم ، على امل ان تأتينا فرصة الاستعلاء يوما ما.
اظن ان غالبية الشريحة النشطة في مجتمعاتنا تجادل نفسها في اختيار واحد من هذين الطريقين ، وبالطبع الثمن المعنوي المترتب عليه.
الشرق الاوسط الأربعاء - 25 ذو الحجة 1439 هـ - 05 سبتمبر 2018 مـ رقم العدد [14526]

29/08/2018

اختيار التقدم

||جذر التقدم يكمن في سعي البشر لشق حجاب الغيب ، وتحويل ما وراءه الى مشهود ومعلوم. على نفس النسق فان المتخلف هو ذلك الانسان الذي يقرر سلفا عدم التفكير في الغيب الماثل أمامه||

التقدم والتخلف صفات نسبية. نقول عن مجتمع ما بانه متقدم ، نسبة لغيره في نفس الزمن ، او مقارنة بوضعه هو في أزمان سابقة. ان اقرب مثال على التخلف هو سيارة بطيئة في طريق سريع.The Structure Of Scientific Revolutions, Books & Stationery on ...
ثم ان أدوات التقدم وتطبيقاته تتغير بين زمن وآخر ، نظرا لتطور حاجات البشر ، وتغير الاسئلة التي يواجهونها في حياتهم. لكن ثمة جذر ثابت للتقدم لا يتغير أبدا ، الا وهو شق حجاب الغيب ، ونقل مكونات الحياة والطبيعة من دائرة المجهول الى دائرة المعلوم. علمك بالشيء يؤهلك - في الحد الأدنى – لانشاء علاقة منطقية معه ، و في الحد الاعلى  ، لتسخيره او استثماره.
ثمة شريحة واسعة من الشباب - وربما الكبار ايضا – يهوون فئة الافلام والقصص التي تسمى بالخيال العلمي. وهم يعلمون بطبيعة الحال ان ما يرونه مجرد خيال. لكن كثيرا منهم يؤمن في قرارة نفسه ، ان تلك الخيالات هي التي تحرض عقل الانسان على المغامرة. وهي قد تتحول يوما ما ، الى واقع يمشي على قدمين.
التخيل مثال على سعي العقل لتجاوز المشهود والمحسوس ، والتأمل في عوالم ممكنة او محتملة ، لا زالت خارج سيطرة الانسان. هذه العوالم قد تكون في الانسان نفسه ، او قد تكون في البيئة المحيطة به ، او في الكون الواسع البعيد عنه غاية البعد.
هذه العوالم الممكنة أو المحتملة ، هي ما يسميه القرآن غيبا. كما في سورة البقرة ، السورة الثانية في القرآن الكريم ، التي تبدأ بآيات تشير الى هذا المعنى "ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب". والغيب المقصود هنا هو الغيب النسبي او المؤقت ، وهو خلاف "مفاتح الغيب" التي لا يعلمها الا هو سبحانه ، كما في سورة الأنعام.
يذكرني هذا بالمجادلة الذكية التي قدمها توماس كون في كتابه القيم "بنية الثورات العلمية" حين قال ان الباحث يتوصل خلال تأمله في المشكلات والاسئلة ، الى العديد من الأجوبة المحتملة. لكنه – بدافع خفي – يتركها ويواصل بحثه ، حتى يصل الى ما يرجح انه حل صحيح. يتساءل كون: طالما لم يكن هذا الباحث عالما بالحل قبل ذلك ، فما الذي حمله على رفض الاحتمالات الاولى؟.
في رأيي ان ترجيح احد الاحتمالات ، تابع للمسلمات التي ينطلق منها الباحث. حين تنطلق من الاعتقاد بان الغيب صندوق مغلق ، فسوف تميل لجواب منقطع ، مثل القول بان الحل "في علم الله" ، أو أنه عمل السحرة ، او عمل الجن. أي أن المشكلة وحلها – في المجمل - خارج دائرة الامكان العقلي البشري.
أما حين تنطلق من الاعتقاد بان الغيب حجاب ، فسوف تفكر في المراحل المنطقية اللاحقة لكشف الحجاب ، اي الاشكالات التي ترد على الحل المحتمل. تصور الانسان للمرحلة الثالثة والرابعة ، هو الذي يرجح احد الاحتمالات ويستبعد الاحتمالات البديلة. تلك الاشكالات والمراحل تكشف الرابط المنطقي بين الحل والمشكلة.
زبدة القول ان جذر التقدم يكمن في سعي البشر لشق حجاب الغيب ، وتحويل ما وراءه الى مشهود ومعلوم. على نفس النسق فان المتخلف هو ذلك الانسان الذي يقرر سلفا عدم التفكير في الغيب الماثل أمامه ، باعتباره فوق ما يستطيعه عقل البشر. المجتمع الاقرب للتقدم هو الذي ينظر للكون كنظام مؤسس على علاقات منطقية. والمجتمع الاقرب للتخلف هو الذي اعتاد إحالة الاسئلة والمشكلات الى الجن والسحر وعجز العقل.
الأربعاء - 18 ذو الحجة 1439 هـ - 29 أغسطس 2018 مـ رقم العدد [14519] 

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...