06/07/2009

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة


الجدل الذي رافق انتخابات الرئاسة الايرانية وما بعدها ركز الاضواء على نقاش قديم حول فرص المواءمة بين الدين والحداثة في تجلياتهما المختلفة ولا سيما السياسية منها . وصف الاستاذ مظاهر اللاجامي محاولات الباحثين في هذا الصدد بانها تلفيق ، وكتب الاستاذ في علم الاجتماع السياسي د. خالد الدخيل نقدا معمقا لكتابي "حدود الديمقراطيةالدينية" ركز على التعارض الذاتي بين الدين والديمقراطية.

انني من المؤمنين بامكانية تطوير نموذج للحداثة يستوعب الحاجات الثقافية والمادية الخاصة لكل مجتمع . توصلت الى هذه القناعة بعد سنوات من البحث والمراجعة والجدل الذي زادني – في الوقت نفسه- تفهما واحتراما لتحفظات المعترضين واسباب قلقهم . وقد عرضت شريحة واسعة من تلك الاسباب والجوانب الاشكالية في كتاب "الحداثة كحاجة دينية".

 يركز مفهوم الحداثة على دور الانسان كمصدر للقيم والمعايير والمعرفة. وهذا ينطبق على انسان المجتمعات التي ابدعت مفهوم الحداثة وتلك التي تلقته لاحقا . خلال قرن تقريبا شارك مفكرون من شتى انحاء العالم في نقد وتطوير العناصر التي يتشكل منها مفهوم الحداثة. محورية الانسان الفرد ، العقلانية ، معيارية العلم ، التعاقد والارادة الحرة كارضية لتفويض السلطة... وغير ذلك من مكونات المفهوم خضعت لنقاشات معمقة برهنت على ان الحداثة تابى – بطبيعتها – القولبة والحصر الايديولوجي .

على الطرف الاخر فان تقاليد البحث في الفكر الاسلامي تسمح بالتمييز بين القيم الاساسية للدين وبين اجتهادات المسلمين على اختلاف توجهاتهم وعصورهم . هذه المساحة هي التي سمحت دائما بوجود افهام متعددة للمبدأ الواحد واشكال متعددة من الممارسة الدينية . ثمة قيم اساسية في الدين لا يختلف عليها اثنان ، مثل العدل وكرامة الانسان والمساواة ، وثمة الى جانبها تجربة دينية تعبر فقط عن فهم مجتمع معين لتلك القيم.

نعرف بالبديهة ان فهم الانسان لفكرة ما ثم تطبيقها يتاثر بالضرورة بعوامل عديدة واحيانا متعارضة ، وبينها عوامل ذاتية مثل القدرات العلمية للفرد وتربيته العائلية ونفسيته ، وبينها عوامل اجتماعية كالثقافة العامة ومصادر المعيشة ونوعية الفرص والتحديات التي تواجه الجماعة ، ويضاف اليها طبعا المستخلصات الثقافية للتجربة التاريخية لهذه الجماعة .

من المفهوم ان نطاق وعمق تاثير هذه العوامل يختلف بين مجتمع واخر تبعا لاختلاف ظروفه الفعلية وتجربته التاريخية ، كما يختلف تلقي الافراد للفكرة نفسها تبعا لاوضاعهم الذهنية والنفسية والمادية. هذا هو المنطق الطبيعي للحياة والاشياء . ومن هنا نجد قراءات عديدة وتطبيقات متنوعة للفكرة الدينية ، تستلهم جميعا القيمة الاساسية ، لكنها تقدم تجارب متغايرة.  قد نطلق على هذا التنوع اسم الاجتهاد او تعدد القراءات او التمييز بين الثابت والمتحول ، او اي اسم شئت . لكن  الجوهري في الموضوع كله هو امكانية انتاج تجارب دينية متغايرة بين مجتمع واخر. لا اظنني بحاجة الى ادلة لاثبات هذا الادعاء لان تاريخنا والواقع الذي امامنا يكشف عن تنوع في الافهام والتطبيقات يستحيل حصره.

الرسالة النهائية لهذا التحليل هي ان افراد المسلمين والجماعة المسلمة يقومون فعلا – وهم على حق في ذلك – باعادة تشكيل حياتهم الدينية بين ظرف واخر كي تتناسب مع ثقافتهم ، حاجاتهم ، همومهم ، ظروفهم ، وتطلعاتهم ، وهذا ما اسماه هانس جورج غادامر بالافق التاريخي للفكرة.

لكل جيل حق ثابت في صوغ فهمه الخاص للفكرة الدينية وكذلك تجربته الدينية . وهذا يشمل بالتاكيد حقه في تقريب الفكرة او تطبيقاتها الى المباديء والقيم التي تبدو – في وقت معين – ضرورة للحياة ، او وسيلة للارتقاء بالحياة . بعبارة اخرى فلسنا مضطرين لسؤال اسلافنا الذين ماتوا عن امكانية التقريب بين الحداثة وقيم الدين . نحن مثلهم لدينا الحق ولدينا القدرة على الفحص والاختبار والنقد ثم الاخذ بالفكرة او تعديلها او اعادة انتاجها ضمن نسيجنا القيمي الخاص ، كما فعل الاسلاف مع الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية وغيرها.

الاسلام والحداثة ، كلاهما يفتح الباب امام النقد والتجريب والمعالجة الهادفة الى انتاج افكار جديدة او اعادة انتاج افكار مسبقة في صيغ جديدة . وهذا هو المنطلق في القول بامكانية المواءمة بين الاسلام والحداثة وما ينتج عنهما من معايير وادوات عمل.
عكاظ 6 يوليو 2009

29/06/2009

الانتخابات الايرانية وعالم السياسة المتغير



الاحتجاجات التي اعقبت اعلان نتائج الانتخابات الايرانية التي عرفت باسم جنبش سبز=الحركة الخضراء) تكشف عن حقيقة السياسة كعالم متغير : كل خطوة فيها تولد نقيضها واسباب نهايتها المنتظرة .
في هذه الانتخابات سجل المحافظون هدفهم الاهم فاحتفظوا بالرئاسة . لكنهم دفعوا ثمنا غاليا جدا ، ربما ستظهر انعكاساته في الانتخابات النيابية بعد عامين . 
يتألف التيار المحافظ بشكل رئيسي من فريقين ينتميان الى تصنيف طبقي – سياسي مختلف ، اي مصادر نفوذ مختلفة واحيانا متعارضة . جاء الرئيس نجاد من جناح غالبه من متوسطي العمر ينتسب الى الطبقة الوسطى ، وتبلورت تجربته السياسية من خلال العمل الاداري في مؤسسات الدولة . اما الجناح الاخر الذي يوصف بانه تقليدي فقد تبلورت تجربته السياسية من خلال العمل الاهلي في مؤسسات دينية او في السوق ويستمد قوته من نفوذه في الشارع ومن دعم الهيئات الدينية. تاريخيا كان الفريقان على طرفي نقيض ، فالاداريون يميلون الى توسيع نفوذ الدولة وضبط المؤسسات الاهلية ، وهذه تمثل بذاتها مصدرالقلق الرئيس عند الفريق التقليدي الذي يميل بشدة الى الاستقلال عن الدولة وانظمتها الضيقة .
رغم التفارق السياسي والاجتماعي ، يحمل الجناحان المحافظان ايديولوجيا سياسية متماثلة الى حد كبير. عنصر الاجماع هذا هو الذي وحد انشغالاتهم بعدما اكتسح الاصلاحيون الشارع بين 1997 الى 2005.  يحمل الاصلاحيون ايديولوجيا سياسية مختلفة تماما ويسعون الى اهداف يعتبرها المحافظون عائقا امام نموذج الدولة التي يحلمون بالوصول اليها . في العام 2003 وحد المحافظون صفوفهم ونجحوا في ثلاث جولات انتخابية كبرى ، بدأت بالانتخابات النيابية ثم المحلية وتوجت بفوز مرشحهم بالرئاسة ، احمدي نجاد ، في 2005. لكن السياسة ابت ان تغادر طبيعتها كعالم متغير ، فكل نجاح حمل معه تناقضات اضافية اعادت تفكيك التيار الذي نجح بعد لاي في توحيد صفوفه .

 ويبدو لي ان الفوز الاخير هو ايضا نهاية التشكيل الكلاسيكي للتيار المحافظ. خلال الحملة الانتخابية شن الرئيس المرشح احمدي نجاد وانصاره حملة شرسة على عدد من زعماء المحافظين ابرزهم ناطق نوري الذي ادار عملية توحيد الاجنحة المحافظة في 2003 وكان قبل ذلك مرشح التيار للرئاسة في 1997 ، كما شملت الحملة هاشمي رفسنجاني الذي يقف في منتصف الطريق بين المحافظين والاصلاحيين لكنه يعتبر حليفا اساسيا للمحافظين التقليديين.

كان المتوقع بعد فوز احمدي نجاد بالرئاسة ان يبادر الجميع الى الاحتفال ، لكننا لاحظنا ان ابرز زعماء المؤسسة الدينية في مدينة قم قد تجاهلوا الامر بشكل مثير للانتباه ، فلم يبادر اي منهم بتهنئة الرئيس الجديد ولا اعلنوا تاييدهم لاجراءات الحكومة في مواجهة غضب الاصلاحيين. كما ان رئيس المجلس النيابي ونوابه قاطعوا الاحتفال الذي اقامه الرئيس احمدي نجاد لمناسبة فوزه. 

ثمة انباء عن جهود يبذلها الرئيس السابق رفسنجاني ورئيس المجلس النيابي علي لاريجاني للتوصل الى تسوية . ويسعى رفسنجاني الى ضمان دعم المراجع الدينية في قم فضلا عن اقطاب الجناح التقليدي. واذا نجح هذا المسعى  فهو سيكون بالضرورة على حساب المحافظين الشباب والرئيس المنتخب . فالمفهوم ان هذه المحاولة لا تستهدف دعم الرئيس بل استعادة المحافظين التقليديين للمبادرة ، وبالنظر لما يشهده الشارع من احتجاجات وغليان فان حصة الاصلاحيين في الحل المنتظر ستكون بالتاكيد معيارا لقبول او رفض هذا الحل. فالقلق الذي ولدته الاحتجاجات لا يتعلق بدور الجناح التقليدي بل بمطالب الاصلاحيين . في الحقيقة فان كل مسعى للحل بحاجة الى استثمار الغضب الذي عبر عنه انصار الاصلاحيين كي يبلغ غايته.

الحل الذي يسعى اليه رفسنجاني هو تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة نجاد تضم اصلاحيين ومحافظين تقليديين . لكن هذا مستبعد في ظني اذا لم تتغير التوازنات الحالية ، اي اذا لم يجد مرشح الجمهورية سلطته ومكانته مهددة بشكل جدي . مرشد  الجمهورية لا يفضل مثل ذلك الحل لانه سئم من السياسيين المحترفين (بمن فيهم رفسنجاني ولاريجاني)، وهو يميل الى حكومة تكنوقراط يلعب فيها الوزير دور مدير اعلى لا دور رجل سياسة . لكن في كل الاحوال فان الموقف المعترض للتقليديين ، والموقف المعارض للاصلاحيين سوف يلقي ظلالا قاتمة على مكانة وعمل الرئيس في السنوات الاربع القادمة. ومن المؤكد انه سيكون اقل قوة واندفاعا مما كان عليه خلال الفترة الرئاسية الاولى.

عكاظ 29 يونيو 2009

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...