طريق التنمية الشاملة لم يعد خيارا بل ضرورة لاستيعاب تطلعات الجيل الجديد، مثلما كانت التنمية الاقتصادية في وقتها ضرورة للإقلاع من الفقر المادي والثقافي. اتجه العالم إلى التفكير في التنمية كمسار متكامل ومتصاعد، وظهرت في هذا الإطار نظريات تتحدث عن التنمية الشاملة والتنمية المستدامة ، بعدما كان التفكير مركزا على تحديث الاقتصاد. نعلم اليوم أن تحديث الاقتصاد يؤدي بالضرورة إلى تعزيز النزعات الليبرالية في المجتمع.
الليبرالية كسلوك ورغبة عامة ، ليست أيديولوجيا كما
تصورها النقاشات المدفوعة بتوجهات أيديولوجية. من المؤسف أننا لم نستطع تجاوز
الفرضيات السقيمة التي تناولت الليبرالية كمذهب متناقض مع التقاليد أو بديل عن
الدين. هذا النوع من النقاش غيب الحقيقة التي نستطيع مشاهدتها عيانا كل يوم وفي كل
مكان ، حقيقة أن الناس جميعا يرغبون في أن يعترف بهم كأفراد أكفاء ، قادرين على
تقرير طريقة حياتهم وتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية التي تترتب على
خياراتهم.
جوهر الليبرالية هو تقدير قيمة الفرد باعتباره إنسانا
حرا عاقلا ومسؤولا.
قد لا أكون مبالغا لو قلت إن أغلبية الناس سوف يذهبون في
هذا الاتجاه ، لو خيروا بينه وبين المنهج القديم الذي ينكر على الفرد هويته المستقلة ، ويعتبره مجرد امتداد بيولوجي لعائلته أو قبيلته أو طائفته أو جنسه ،
المنهج الذي يعتبر الفرد عاجزا عن سلوك طريق الإحسان ما لم يخضع لمراقبة مرشد ، أو
آثما بطبعه ما لم يقيد أحد يديه وعقله كي لا يبغي على الغير.
الاقتصاد الجديد يخلق فرصا ويفتح أبوابا أمام الجيل الذي
استوعبه وتعامل معه واستفاد منه. هذه الفرص هي أدوار ومسارات تأثير تختلف عما
اعتاد عليه المجتمع التقليدي. نحن إذن إزاء نظام اجتماعي يولد وينمو تدريجيا.
الطريق الصعب هو استيعاب هذه الحقيقة وإعادة هيكلة النظام الاجتماعي القائم ، على
نحو يستوعب القادمين الجدد. الطريق السهل هو إنكار هذه الحاجة ، والاكتفاء بالفرجة
على ما يحدث من تحولات. الطريق الأول صعب لأنه يتطلب اتخاذ قرارات غير معتادة ، والتنازل
عن أعراف ترسخت واعتادها الناس لزمن طويل. الطريق الثاني سهل لأن الإهمال هو أسهل
المواقف.
لكن عواقب الإهمال قد تكون كارثية. يؤدي الإهمال إلى
قيام نظام اجتماعي مزدوج كما لاحظ سعد الدين
إبراهيم: يرغب الناس في نمط حياة حديث، لكنهم يتظاهرون بالالتزام بالتقاليد.
يتحول هذا التظاهر في أحيان كثيرة إلى نوع من التكاذب الجماعي. يشعر الناس أحيانا
بأنهم محتاجون إلى التظاهر كي يسهلوا حياتهم. يتحدث شخص ما عن فضائل التقاليد ، وهو
يعلم أنه غير صادق ، لأنه شخصيا يفضل نمط معيشة حديثا ومنهج عمل حديثا. الذين
يستمعون إليه يشعرون بذات الشعور ويفهمون أنه غير صادق ، ولعله يفهم أيضا أنهم
يستمعون إليه وهم يضحكون في دواخلهم على مبرراته.
بدلا من هذه الازدواجية ، فإن الطريق السليم ، مهما كان
صعبا ، هو تشجيع الناس على التعبير عن حقيقة ما يحبون ، حتى لو تعارض مع التقاليد
والعادات الجارية أو مع اللغة السائدة في التخاطب. يجب أن نقبل بحق الفرد في أن
يكون كما يريد، ثم نضع القانون الذي يوضح الحدود النهائية ، التي ينبغي للفرد
رعايتها حين يعبر عن إراداته.
تحرير الفرد من قلق الرقابة الاجتماعية ، هو أحد المبادئ الكبرى
لليبرالية. لكن الليبرالية لا تتحدث عن أفراد منعزلين أو حشود في غابة ، بل عن
مواطنين في مجتمع يحترم القانون. القانون في مجتمع حديث يعتبر ضرورة لحماية
الحريات وموازنتها مع المسؤوليات التي تترتب على ممارستها. الليبرالية إذن ليست
دينا يتوازى مع الأديان ولا هي أيديولوجيا مغلقة ، تأخذها كلها أو تطرحها كلها.
الليبرالية تعبير عن رغبة الإنسان في استعادة هويته
الخاصة ، وتحرير ذاته من العقد والأعراف والرقابة. قد لا يكون هذا الأمر محبوبا في
مجتمعات كثيرة ، لكنه محطة في طريق بدأنا السير فيه فعلا ، فبلغنا تلك المحطة أو
نكاد.