استعان السيف في كتابه «حدود
الديموقراطية الدينية» بنظرية الفيلسوف الأميركي توماس كون في كتابه «بنية الثورات العلمية»،
خصوصاً ما يتعلق منها ببارادايم التطور المعرفي - السياسي لاختبار فرضياته البحثية
- الاستنتاجية من واقع ملاحظته الدقيقة لسياق التجاذبات والاصطفافات والصراعات
السياسية - الدينية التي رافقت الثورة الإيرانية، وصولاً إلى التناقض الكلي الحاد
بين التيارين التي أفرزتهما تلك التجربة الثورية، وهما الإصلاحي والمحافظ وانعكاس
ذلك التناقض على وضعية المواطن الإيراني السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والدينية ودور ومكانة إيران الإقليمي والدولي.
يعمد السيف إلى التذكير بركائز «البارادايم»
الثلاثة، وهي النظام الإطاري شبه المغلق الذي يمنح إتباعه هوية جماعية خاصة تميزهم
عن غيرهم، والخط الانكساري الداخلي الذي يرافق النظام الإطاري في تحولاته الفكرية
والاجتماعية المهيمنة، والمسار التقدمي المستولد من السقوط المريع للباراديم
الأول، نتيجة فائض الإحساس الذي يغمر أتباعه بعجز ذلك «البارادايم» عن حلّ كثير من
الإشكالات القائمة.
السيف - في اعتقادي- على قناعة كاملة أن مقومات
«البارادايم» أنجع في مقاربتها لجدلية الإسلام السياسي وفلسفة الديموقراطية من
الديالكتيك الهيغلي ونتائج الفرضيات السياسية التي توصل إليها في كتابه المذكور
دالة على فاعلية تلك المقومات «البارادايمية» في قراءة المشهد الاصطراعي السياسي
الإيراني، كما هو متحقق في الواقع الاجتماعي.
لم يكتف السيف بتحديد إمكان تطبيق الآلية
«البارادايمية» - وهي التجربة السياسية الإيرانية - بل حدد إطارها الزمني، وهو فوز
التيار الإصلاحي بالانتخابات 1997 - 2004م، وبعد تأملي في جوهر «البارادايم» كما
فصّله السيف، أعتقد أن لدي مجالاً أن أوسّع استعماله مكانياً وزمانياً، بحيث يغطي
دافعية البروز المفاجئ للإسلام السياسي في التسعينات على مسرح الأحداث الشرق
أوسطية، واستكمالاً بفوز القومي الإيراني محمد مصدق بالانتخابات الإيرانية 1951،
وانتهاء بالمفهوم الجديد والصادم للإمامة، كما صاغته النخبة الشيعية في القرون
الأولى، والمرتكز على اندفاعة تفكيكية لللاهوت الشيعي، لجعله أكثر استيعاباً
باحتمالية المعنى الروحي للإمامة، وليس الزمني كما جاء في كتاب السيف «نظرية
السلطة في الفقه الشيعي».
الاستيعاب
المطلق لبارادايم
بالعودة إلى التجربة الإيرانية، فإن الاستيعاب
المطلق «للبارادايم» يتطلب رصداً دقيقاً لتطور البنى المعرفية داخل الهياكل
التأسيسية للمسار التقدمي - الإحيائي، كونها تمثّل وسيلة في نقد وتعرية الإطار
«البارادايمي» الهوياتي - الإيديولوجي المغلق، تمهيداً لكسره عبر تقديم قائمة
بأبرز الإشكالات المحورية التي تمسّ الجوانب الحياتية كافة للشعب، والتي فشل ذلك
الإطار بحلها، وهذا ما جهد السيف لفعله، فهو يسلّم بأن الفوز الساحق للتيار
الإصلاحي في انتخابات 1997م عائد إلى أمرين متلازمَين، هما: فشل نموذج الحكم
التقليدي الثوري الذي ساد في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية أولاً، ووجــــود نخبة
سياسية في التيار الإصلاحي، أسست لفلسفة سياسية شاملة مستوحاة من الفــكر
الــفـلسفي الــسيــاســي الغربي الحديث، تتركز وظيفتها في القطع المعرفي مع كل ما
يمت بصلة «للباراديم الثوري» التقليدي المنغلق على ذاته في حيز فقهي ضيق، لم يميز
بين الديموقراطية كإجراء والديموقراطية كفلسفة، ذهاباً إلى تفعيل التيار الإصلاحي
رهانهم للمشاركة الشعبية، عبر تجذير مؤسسات الدولة في الواقع السياسي - الاجتماعي.
كما يعود جاذبية «باردايم التيار الإصلاحي
الجديد» إلى ميزتين جوهريتين افتقدهما «البارادايم الثوري القديم»، تمثّلت الأولى
في اتساع حجم الشريحة الاجتماعية المتضررة من «البارادايم الثوري القديم»، وهذا
خاص في الشأن المحلي، وتمثّلت الثانية في اشتماله على خطاب سياسي متناغم مع الخطاب
السياسي الإقليمي والدولي.
تغييب «البارادايم الثوري القديم» مناقشة قضايا
حساسة للجمهور الإيراني كقضية سيادة الشعب (فلسفة الديموقراطية)، وإمكان الاستفادة
من العلمانية وتحديد دور الدين في الحياة العامة، وتجذر القانون وعموميته وشكل
الاقتصاد الناجع للبلد، أزّم الوضع السياسي الإيراني الداخلي، وزاد من الاحتقان
الاجتماعي، فاستثمر نخبة التيار الإصلاحي هذا الوضع، فشرعوا في استيلاد نموذجهم
«البارادايمي الجديد»، بشكل يكون قادراً على إعادة بناء العلاقة مع الجمهور
السياسي أولاً، لترغيبه في المشاركة الفعالة في الشأن السياسي كضمانة إحيائية
لفلسفة الديموقراطية.
تآكلَ «البارادايم الثوري القديم» على قاعدة
الاستبداد والاستفراد بالسلطة، والإقصاء الممنهج للخصوم، والفشل في وعوده الكثيرة
للجمهور، فبات انكساره حدثاً متوقعاً، فوضعه البائس كان شبيها بوضع الإيديولوجيات
الثورية الاشتراكية والقومية التي سادت الأقطار الإسلامية في الستينات والسبعينات
من القرن الماضي التي أصرّت على استبعاد أهم قضية تمسّ حياة الناس ومستقبلهم، وهي
الديموقراطية، ما فتح المجال لصعود التيار الإسلامي - السياسي إلى واجهة المسرح
السياسي في الثمانينات والتسعينات من القرن ذاته، وإن كان هذا الصعود للتيار
الإسلامي موقتاً، كونه حاملاً بذرة انكساره هو الآخر لممانعته العتيدة في القبول
بالتعددية والقواعد الديموقراطية.
انطلق السيف من اعتبار النسبة العالية التي حصل
عليها التيار الإصلاحي بزعامة خاتمي من أصوات الناخبين في انتخابات 1997م دلالة
يقينية واضحة على تحقق ميلاد «البارادايم الإصلاحي»، والأهم أنه - السيف - رصد
جدية وصدق ذلك التيار في تلبية المطالب الشعبية والوفاء بالتزاماته التي قطعها على
نفسه، فأصبح الشعب يعاين بنفسه تفعيل نخبة التيار الإصلاحي لآلية الاشتغال
التأسيسية للقواعد المؤسساتية المتعددة في المجتمع الإيراني، كضمانة لتجذر الفلسفة
الديموقراطية الحديثة في المجتمع الإيراني.
ما كان للتيار الإصلاحي أن يفوز بدورتين، لولا
قدرته على تجاوز إشكالات سياسية واقتصادية واجتماعية، ورثها من «البارادايم الثوري
القديم»، ظلت معطلة ومغيبة لإصرار نخبة «البارادايم» على معالجتها بأساليب قديمة
عفى عليها الزمن، إذ بات الشعب بعد فوز التيار الإصلاحي يتداول ويتعايش مع جملة من
المفاهيم السياسية الحديثة، كالعدالة الاجتماعية وحرية الصحافة وتشكيل الأحزاب
وسيادة القانون واعتماد خطاب سياسي عقلاني داخلي وخارجي.
العنف الرمزي
لم يكن أمام «البارادايم الثوري التقليدي»
لتعطيل اندفاعة مشروع التيار الإصلاحي إلا العنف الرمزي والجسدي، فجرى استغلال
القضاء لشرعنة هذا العنف الممنهج ضد رموز التيار الإصلاحي من اعتداء جسدي
واعتقالات وإغلاق عشرات الصحف والمجلات بدافع إيديولوجي زائف، هو الرغبة في الحد
من الانقسامات الاجتماعية والتناقضات السياسية، تحقيقاً للشكل الاندماجي السياسي
الديني القسري بولاية الفقيه (الثيوقراطية) الذي يعدّه الباحث ناصيف نصار من أسوأ
أشكال الاندماجات السياسية القديمة والحديثة. إنه شكل من أشكال التنظيم اللينيني
العنفي المنظم الذي عرفته الأحزاب والقوى السوفييتية المستقلة أبان حكم لينين، هذا
الشكل التنظيمي المرعب استدعته الأحزاب الأشتراكية - الثورية والأحزاب القومية -
البعثية في الوطن العربي، لتصفية خصومها وبثّ الرعب في المجتمع للاستفراد بالسلطة
عبر مأسسة الاستبداد، هذه المأسسة مسؤولة عن انكسار عزة المسلمين وكرامتهم أمام
العالم المتحضر.
والسؤال الملح: كيف نجح «البارادايم الثوري
التقليدي» في الإطاحة بالتيار الإصلاحي والسيطرة على الوضع السياسي - الإجتماعي مع
اقتراب نهاية الفترة الرئاسية الثانية 2004؟ لعل من المفيد أن نستحضر رأي الباحث
الفرنسي تري كوفييل في كتابه «إيران الثورة الخفية»، فهو يعتقد أن نجاح الإطاحة
بالتيار الإصلاحي عائد إلى سيطرة المحافظين على أقوى الوزارات، وهي الداخلية
والاستخبارات والدفاع والمالية، إذ تم تسخير كل إمكانات تلك الوزارات، لتحطيم
دعائم التيار الإصلاحي، ويأتي على رأسها البُنى المؤسساتية السياسية الفاعلة.
علامات انكسار «البارادايم الثوري التقليدي» عند السيف واقع، تعود إلى اللحظة
التأسيسية الأولى للجمهورية حين تخيّل الخميني أن الجمهورية الإسلامية لا تحتاج
سوى حكومة إسلامية صغيرة الحجم وبسيطة التنظيم، وأنه لا داعي للمؤسسات التشريعية
والقضائية الضخمة، وهذا ما اعترض عليه السيف بكل قوة، كونه يرسخ عبادة رئيس
الدولة، ويهمل الدور المتعاظم لمؤسساتها، والدليل على ذلك – بحسب رأيه - هو النقد
الحاد الذي وجهه الإصلاحيون بعد وفاة الخميني إلى المحافظين لفائض القهر والاضطهاد
الذي وقع عليهم في ظل غياب شبه كامل للمؤسسات التشريعية والقضائية الحيادية الضامنة
لحقوقهم المشروعة.
فازت تيارات الإسلام السياسي في التسعينات
بمقاعد برلمانية في أكثر من بلد إسلامي، واليوم تفوز بالرئاسة في تونس ومصر، وسيظل
الاستبداد المحور الذاتي الفاعل في تفكيك بنية السلطة وكسرها، إذا لم تأخذ تلك
التيارات موضوع فلسفة الديموقراطية بكل مقوماتها بجدية تامة.
وظّف السيف (بارادايم توماس كون) في مقاربة
التجربة الإيرانية، وأستطيع أن أوظفها في وضعيته الثقافية الذاتية، فكما انكسر
«بارادايم التيار الثوري التقليدي» الإيراني بضغط التطور المعرفي العلمي، انكسر
«باراديم التيار التقليدي الشيعي» في الخليج للسبب المعرفي نفسه، فلم يعد باستطاعة
السيف ومَن سار على خطه من المثقفين القبول بالأدبيات التنظيرية - المعرفية
التقليدية التي صاغتها نخبة دينية - فقهية والمشحونة برمزية قداسة ولي الفقيه
المطلق لقضايا سياسية معاصرة، وعلى رأسها حدود الديموقراطية، ونوع العلاقة بين
الدين والدولة، وموقف السلطة من الحرية الشخصية والقيم الاجتماعية. فالسيف متأكد
من كون الإسلام الحركي الشيعي - الذي ينتمي هو إليه - أقدر على فهم جدلية العلاقة
بين الواقع المتغير والنص الديني والعقل الفلسفي. تبقى فرضية المشاركة الشعبية
الواسعة في القرار السياسي الرهان الأكثر حضوراً في منهجية الفكر الفلسفي السياسي
للسيف، كقاعدة استقرارية للدولة، ولعل إصبع سبابة المرأة الحسناء التي وُضعت على
غلاف كتابه «حدود الديموقراطية الدينية» تجسّد أفضل تجسيد، مصداق راهنية السيف على
تلك الفرضية.